رائحة الدم والانتظار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

حذار من نار لا تشبع! تلتهم اليد التي تطعمها.. وتنفّس فجراً لا يموت، تحيا به الأرض ويحييها!

على مقربة من النور تحلّق فراشات الحلم وتحلم كغيرها، أفئدتها البلّورية تكشف نقاء باطنها، فلا تمزّق أجنحتها إن لم تتمكّن من حبس النهار وقد صار النور جزءاً من وجودها.. افتح عينيك دفعة واحدة وواجه الوهج، قاوم عتمة اللحظة الأولى، لأن شيئاً فيك وليس منك يخيفه أن تبصر بقلبك ما تراه عيناك.. تنفّس بعمق، ودع الهواء البارد يتسلّل إلى صدرك.. وابتسم! تظاهر بالفرح وأنت ترسم القدس بخيالك، وستفرح! صدّقني ستفرح وإن هزّك بالوجع البكاء، فوعد الله لا ريب فيه، والنصر حق اسأل صخرة الخندق عنه، وغادر بالصبر البكاء!

يقلّب بالهمّ النظرات.. وعلى مشارف الدمع يبتسم، تحيط به أنباء من سكنوا أفئدة الناس وصفحات الجدران، يجرّد نفسه من شجونه وقد عذّبته باجتهادها الذاكرة، أرّقته وهو يراقب كثيراً ممن حوله بعيونهم المفتّحة جثثاً تتنفّس!

فالتفت إليه! اقترب منه، لا تتردّد! ها هو يملأ غليونه من تراب الزيتونة التي زرعوها يوم ولد، يقرّب التراب من أنفه فيهتزّ بالبكاء شارباه، ويراقب حبّات الزيتون الصغيرة وقد توسّدت الأرض حين ذبحوا أمها..

قتلت الزيتونة التي ولدت معه، ذبحوها مرّة واحدة فاستسلمت للرقاد، وذبح الكهل الذي ولد معها، لكنه لم يمت! ذبح مع كل حبّة أرخت عنقها للغياب.. وأمطرت يوم الذبح كما يوم ميلادهما السماء، واختلطت قطرات الماء بحبات البكاء..

من جوف الصمت اشتعل صوته المتحشرج بالنداء، وتوالت من الفم الغاضب ثلّة من الأسماء، كان يناديهم! يصرخ بأسمائهم ويطالبهم بالمجيء، كان يدعوهم ليكونوا جزءا من ذاكرة المكان، ورائحة التراب.. وكان يقول أشياء يصعب فهمها لكنها تحمل شوكها لكل الصامتين بذلهم!

وجهه القهر.. يتنفّس سخونة التراب وبه شوق لحضنه! يتحسّس أضلع زيتونته ويضمّها إليه، وقد توارت من أمامه الصور واختفت مع النور الظلال..

يمكنه الآن أن يبصر بقلبه أشياءه الصغيرة، أغنام والده وهي تعبر الأرض الوعرة بصبر لا ينتهي، حكاية أمّه التي كانت تكرّرها كلّ ليلة ولا يملّ سماعها، سنين عمره وهي تحترق في نار الاحتلال دون أن يحظى بقطرة ماء ممّن يراقبونه بعيون جاحظة.. أرواح أبنائه التي صارت تشيخ وتتجاوز أحزان عمره.. وأسئلة أحفاده الذين أراد أن يعلّمهم كيف يتشبّثون بالتراب، فعلّموه كيف يحلم! كان يحذّر حاملي النار من رياح العدل وهي تبحث عن الأيدي التي ما انفكّت تزرع في عيون المؤمنين الحريق.. كان يهذي بملامح القدس وهي تتوسّد كفّ طفل فلسطيني القلب والعينين.. يستحضر ضحكاتهم، يتلمّس بعينيه سلاحهم، وأرواحهم تثمر بالجهاد.. هنا كانوا! وهنا في ظلّ زيتونته المذبوحة رسموا النهار، فانهار في عتمة الزنزانة الوعد بالتقدّم، واشتدّ الحصار.. كان يهذي، ويبكي.. وكان يصرخ!

وكانوا من خلف القضبان أسرى يلوّحون للوعد! خبزهم الانتظار، وماؤهم صمود الناس من أمامهم، وقد أمسك بزمام القافلة من لا يملك أن يوجّه سيرها، وقد اختار مسكوناً بالعتمة أن يمضي فرداً..

رفع الكهل غليونه من جديد، وتنفّس مع حبات التراب رائحة الدم والانتظار..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply