الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ استفتحَ أبو عبد اللهِ اللغويّ (*) مجلسهُ بعدَ أن حمدَ اللهَ وأثنى على ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم - قائلا: سأروي لكم قصةً تُزلُ عصيّ الدمعِ وتبكي من قلبهُ كالحجارةِ قسوةً كما تبكي من قلبهُ كالماءِ ليناً, ويجني منها من كان له قلبٌ العظةَ والعبرةَ. فاشتاقَ من حضرَ للقصةِ، ونبهَ الشيخُ بفرشهِ حواسَ طلابهِ كلِّها, فشخصت أبصارهم فما تطرف, وخرسوا فما تسمعُ لهم ركزا. فقالَ الشيخُ: علمت (أم محمدٍ,) أن زوجها قد بنى بزوجته هذه الليلة فانكبت تبكي على حصيرٍ, في دارها, فاختلطت دموعها بظلامِ ليلها وظلامِ دارها...ظلماتٌ بعضها فوقَ بعضٍ, على نفسها! ولا أنيسَ لها يخففُ وجدها إلا وصيفةٌ مثقلةٌ تحملُ بعضَ حملها وتذهبُ إلى أبنائها تبيتُ عندهم. هذا وإذ (بأي محمدٍ,) يدخلُ والسراج في يدهِ يهتزُ وما ذاكَ لكبرٍ, في سنةِ أو لضعفٍ, في بدنهِ فهو لا يزالُ في العقدِ الرابعِ من عمرهِ ولكنَّ أرضَ الدارِ غير سجسجٍ, ولا مستويةٍ,. فلما أحست بضوئهِ الضعيفِ يختلطُ بدمعها السخينِ كفكفتهُ إجلالا له فقد كان أبو محمدٍ, رجلا صالحاً حسنَ الخلطةِ طيبَ العشرةِ, فلم ترَ منه امرأتهُ سوءاً قط! فاعتدلت في جلستها وأرسلت بصرها إلى الأرضِ. فقعدَ بين يديها ووضعَ السراجَ عن يمينهِ فرأى دمعها يُضيءُ على خدها فرفعت بصرها إليه فكأنما أرادت أن تقول شيئاً فارتجَ عليها وشرقت بالدمعِ! فقالَ (أبو محمدٍ,): أعرفُ ما تريدينَ قولهُ فأنا واللهِ لم أقدم على الزواجِ رغبةً فيهِ, وإن الحياةَ معكِ لا عِدل لها، ولا يوجدُ في الدنيا من يرغب عن زوجته التي تحفظهُ في غيبتهِ وشهادتهِ. ولكنه!... حبُ الولدِ... ! حبُ الولدِ... ! فأنا صائرٌ إلى ضعفٍ, ومتحولٌ إلى وهنٍ, وزائلٌُ لا محالةَ, فأريدُ الولدَ الصالحَ شباباً ألبسهُ في هرمي, وعملا صالحاً يصيبني برهُ في قبري, وأنتِ ستكونين ملكةً في بيتكِ تتقلبينَ آمرةً ناهيةً لا يشارككِ في ملكهِ أحدٌ. ثم اعلمي أنك ِبفعلكِ تعترضينَ على حكمِ اللهِ - سبحانه وتعالى - وعدلهِ، فالرجلُ لا يحبسُ نفسهُ على امرأةٍ, واحدةٍ, ولهُ الزواجُ بأكثرَ من ذلكَ ولا ملامَ عليهِ, وإن كانت امرأتهُ ولوداً ودوداً... فاستغفري لذنبك ِوأنيبي إلى ربكِ! فرفعت رأسها بعدَ نكستهِ ثم أجالت بصرها على وجههِ لترَ صدقَ كلامهِ لتستوثقَ وتأخذَ الأمانَ! فرأت ما أراحَ بالها وخففَ عنها وجدها! مضى حينٌ من الدهرِ رُزِقَ فيهِ(أبو محمدٍ,) وليداً من زوجتهِ الثانيةِ فطارَ بهِ فرحاً وأولمَ ودعا من استطاعَ إليهِ سبيلا من أصحابهِ ولداتهِ وجيرانهِ. وكان بهِ كلفاً لا يدخلُ الدارَ إلا قبلهُ أو حملهُ ولا يخرجُ إلا شمهُ أو ضمهُ. ! ولم يعلم (أبو محمدٍ,) أن الحزنَ والهمَ سيشوبانِ فرحهُ وينغصانِ عليه سعادته وكذا الدنيا طبعت على كدرٍ, فمن تصفو له من الأكدارِ والأقذارِ؟! فسكتَ الشيخُ ـ راوي القصةِ ـ وتناولَ قدحاً أمامهُ ومذقَ منه مِذقةً! فاشرأبت أعناقُ من حولهُ وكأنَّ أرواحهم ردت إليهم, وكأنهم كانوا في حلمٍ, قطعتهُ عليهم هذه المذقة! فقالَ أحدُ طلابهِ في شوقٍ,: يا شيخُ و ما الذي سيصيبُ الطفلَ فينال أبويهِ مصابهُ! فحمدَ الشيخُ اللهَ على نعمتهِ وأنزلَ القدحَ على الأرضِ ثم قالَ: في يومٍ, قد قربَ غروبهُ كانت (أم محمدٍ,) في الدارِ ترعى شؤونها والأخرى تحلبُ ضرعَ البقرةِ وقد تركت ابنها في صُفةٍ, قريبةٍ, منها. وبينا هي تحلبُ إذ تقهقرتِ البقرةُ فرمحتِ الإناءَ فانسكبَ الحليبُ وانساحَ على الأرضِ والتاثَ بطنُ الإناءِ بالروثِ والبعرِ فهرعت متضجرةً إلى ركيٍّ, قريبةٍ, من مكانها وامتاحت ما غسلت به الإناءَ وهي كذلكَ إذ خرجتِ البقرةُ من مكانها ترتعُ فدخلتِ الصفةَ ـ فاسترابت (أم محمدٍ,) من دخولها وعلمت أنها ستصيبُ الطفلَ بسوءٍ, فحبستها غيرتها في مكانها ورانت على عقلها فخلت بين الدابةِ و الطفلِ! دخلتِ البقرةُ فوجدتِ الطفلَ قد لفَ بخرقةٍ, وكان من عادتِ نساءِ تلكَ الديارِ أنهنَّ يُضمخنَ الوليدَ بسائلٍ, حفاظاً على إهابهِ الرقيقِ من الذرِ وخشاشِ الأرضِ, وكان هذا السائلُ يجذبُ الدوابَ فأمتهُ فشمتهُ فلاكتهُ فصرخَ الطفلُ صرخةً كانت بمسمعٍ, من أمهِ! فانتبهت ورمت ما في يدها وكادَ لبٌّها أن يطيرَ وقلبها أن يذوبَ, وركضت كالمجنونةِ لا تلوي على شيءٍ, فإذا طفلها تكادُ كبدهُ تنصدعُ من شدةِ البكاءِ والألمِ. فانكبت أمهُ تبكي وتقبلهُ وتضمهُ إلى صدرها وشقت نطاقاً كان على رأسها وعصبت به يدَ الطفلِ.. ! فأشفقت(أم محمدٍ,) عليها وكأنَّ الندمَ قد خالطَ فؤادها. ثم علمَ (أبو محمدٍ,) بما جرى حينَ عادَ إلى الدارِ مع سوادِ الليلِ فما بضت عينهُ ولا جزعَ بل صبرَ واحتسبَ. فهبطَ. الليلُ والحزنُ والهمُ على قلبِ أبويهِ فلم يستطيعا عملَ شيءٍ, سوى الصبرِ والسهرِ بجانبهِ والنظرِ إلى يدهِ التي قد شلت وربطت بخرقةٍ, خلقةٍ,…! و تجافت (أم محمدٍ,) عن مضجعها فما زالَ فكرها في سماءِ ذلكَ الموقفِ تلومُ نفسها وتتجرعُ حسرتها أن خلت بين البقرةِ والوليدِ المسكينِ الذي أصبحَ مشلولَ اليدِ. فكثرتِ الوساوسُ في صدرها حتى كادت تجنُ, فطفقت تبكي لأمِ الذنبِ بعدَ أن عادَ إليها عقلٌّها! فلم يبت هذا البيتُ إلا على النشيجِ والبكاءِ! مشى الطفلُ ويفعَ وترعرعَ وجريمتها في يدهِ تلاحقها فكلما كبرُ كبرُ حزنها وكلما نما نما حسرها حتى أهزلها وأضعف بدنها, فضاقت بهذا فاحتجبت عنهُ مدعيةً أنهُ أزعجها وهي قد كبرت وضعفت عن الاحتمالِ والصبرِ. ومما زادَ ألمها ألماً وحسرتها حسرةً برهُ بها فقد تعدى برهُ بأبويهِ حتى وصلها فكانَ يقضي حاجاتِ البيتِ كلِّه, ويقومُ على شؤونهِ كلِّه!!! ماتت أمهُ حينَ بلغَ سنَ الرشدِ وأوغلَ في العشرينِ, وتبعها أبوهُ وهو واقفٌ على سنِ الثلاثينِ!! فلم يبقَ في البيتِ سواهما!! فدخلَ عليها مرةً وقالَ يا أماهُ مازلتُ أرى فيكِ بقيةً من أبويَّ, فقد كنتِ معهم خليطةً كريمةً طيبةَ العشرةِ حسنةَ الجوارِ. وإني ما زلتُ في الإحسانِ إليك ِ مقصراً, وفي البر بك مذنبا, وأريدُ التكفير عن ذلك بأن أبلغك بيت الله الحرام لتؤدين منسكِ الحجِ, فكادَ قلبها أن يطيرَ من الفرحِ فقالت: يا بني... فحصرَ الدمعُ صوتها فلم تستطعِ الإعراب عما تكنهُ من محبةٍ, ورضا وشكرٍ,, فكانت الدموعُ أبلغَ ما جادت به نفسها, وكذا الإنسانُ إذا أعجزته نعمةٌ أو نقمةٌ بكى! فرحلا إلى الحرمِ في أولِ قافلةٍ, سارت, فأما بيتَ اللهِ الحرام فكان معها في السفرِ كما كان في الحضرِ, كان حسنُ خلقهِ وبرهِ يخففُ وغثاء وعناء الطريق, ويزيدُ من صبرها وتجلدها. ثم دخلا الحرمَ بعد سيرِ شهورٍ, فطافا طوافَ القدومِ والشمسُ في قنةِ(1) السماءِ وفراشُ الجمرِ قد فرشَ, وحواشي الكعبةِ كأنها تنورٌ قد سُجر منذُ سنين, والطوافُ مزدحمٌ فالكتفُ بجانب الكتفِ, والقدمُ على القدمِ, ولو رميتَ بإبرةٍ, لما وقعت إلا على رأسِ حاجٍ, أو حاجةٍ,!. فزلت قدمُ (أم محمدٍ,) في هذا الموقفِ فسقطت! فحجبَ الناسُ الهواءُ الباردُ فحمي جسمها وكادت أن تختنقَ فقاربت الموتَ وجاورتِ الهلاكَ, فلم يجدِ الابنُ إلا يدهُ(الشلاءَ).. !! يستعينُ بها بعد اللهِ في هذا اللحظةِ الحرجةِ فدسها بين الناسِ فرأتها(أم محمدٍ,)... ! فاستعبرَ الشيخُ ثم بكى, فارتفعَ نشيجُ الحضورِ ونكسوا رؤوسهم فأتمَّ الشيخُ حديثهَُ: فرأتها (أم محمدٍ,) وتذكرت جريمتها وذنبها فبكت وصدت عنهُ فأدخلَ يدهُ تارةً أخرى فأمرها أن تستمسكَ بها فأبت, فأدخلها ثالثةً ورابعةً فأمسكت بها بعد لأيٍ, وجهدٍ, فجذبها فأخرجها وقد غشي عليها, فلما أفاقت طفقت تبكي وتبكي وتبكي... ! فقالَ الشيخُ وعيناهُ تذرفان: لعلَ اللهَ أرادَ تخفيفَ ذنوبها والحطَ من سيئاتها, وهذا دليلٌ على توبتها وندمها غفرَ اللهُ لها، الله اغفر لنا ولها ولسائرِ المؤمنين! الله اغفر لنا ولها ولسائر المؤمنين! الله اغفر لنا ولها ولسائر المؤمنين! وسكتَ الشيخُ فرفعَ المؤذنُ صوتهُ بــ(الله أكبر) داعياً الناسَ لصلاةِ العشاءِ!
--------------------------------------------------
الحاشية:
(*) أبو عبد الله اللغوي شخصية استحدثتها لإدارة القصة!
(1) قنة: قمة
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد