الرجل الصامت


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد إبراهيم ولم يكن هذا اسمه المدون في شهادة الميلاد..ولكنه كان اسمه الذي اشتهر به وأصبح لا يسمع سواه ولا ينادى بغيره..حتى نسي على توالي الأيام اسمه الحقيقي..

وعندما التقيت به لأول مرة استرعى انتباهي بهندامه الغريب وملامح وجهه الفريدة، كان رأسه كبيرا.. وجبهته عريضة.. وأهدابه غزيرة كثة وعيناه ضيقتين تلتمعان بحدة.. وأنفه قصيرا.. وشعر رأسه أسود خشنا كفروة الخروف..

وكان يعمل طاهيا في بيت ضابط النقطة وفي بيتي، وفى بيوت كثيرة في الحي.. وما كنا جميعا ندري كيف تتاح له كل هذه المقدرة..

ولكنه في الواقع لم يكن طاهيا بالمعنى الدقيق لصاحب هذه الصفة.. بل كان لا يعرف إلا صنفا واحدا من الطعام يطهوه في كل البيوت.. وكنت أجد الكفاية في أن يجيء إلى شقتي يومين في الأسبوع يطهو فيهما وينظف البيت..

وأحسب ضابط النقطة كان يفعل مثلي.. ويترك ما بقي من الخدمات للعساكر..

ولا أدرى كيف وقع عليه الضابط.. أما أنا فقد وقعت عليه في عصر يوم وأنا راجع من الجامعة ونازل من الترام في دوران فم الخليج..

وكان معي كراسة المحاضرات في يد.. وفى يدي الثانية بطيخة اشتريتها بقرشين من الميدان.. فأشفق على منظري وحمل عني البطيخة إلى البيت، ومن وقتها لازمني..

وكان يرتدي بدلة عسكري كاملة.. السترة سترة ضابط والبنطلون بنطلون رجل من رجال السواري.. ضيق محبوك.. والسترة واسعة مهلهلة.. مفككة الأزرار منفوخة الجيوب..

فكان منظره مضحكا لكل من يشاهده، ولكن ما من شخص كان يجرؤ على الضحك عليه، لأنه كان مرهوبا من الحي كله لمجرد التصاقه بالنقطة ولأنه يخدم الضابط..

ولم يكن الضابط الشاب مكروها، بل كان محبوبا طيب المعشر.. ولم يكن من طباعه أن يحتجز أحدا من الناس في النقطة إلا في حالات الضرورة التي يتطلبـها الموقف.. بل كان يتصرف بالحسنى والمرونة والكياسة في غالبية الحالات العارضة..

وظل هذا الطبـع الخـير يلازمه في أثنـاء المظاهرات التي كانت كثيرة في هذه الحقبة من حياتنا.. والتي كانـت تأتى حشوده من الجيزة، مركز تجمع الطلبة، وتعبر كوبري عباس.. إلى كوبري الملك الصالح.. وعنـد دوران فم الخليج، كان الضابط يفرقها بالكلمة الطيبة والجلد على مغالبة الموقف.. قبل أن تصـل إلى مدرسة الطب في شارع القصر العيني.. وكان دائما يبعد الكونستبلات الإنجليز عن الاحتكاك بالطلبة وإثارتهم.. ويتصرف بلباقة.. وبجانبه يقف إبراهيم في بدلته العسكرية، طويلا صامتا، كأنه الجنرال الذي يكتفي بإصدار الأوامر مرة واحدة.. ثم يطبق بعدها فمه إلى نهاية الجولة.. وما أظن إلا أن حدة الطلبة كانت تتكسر على طلعته وزيه الغريب.. وتخبو مرة واحدة.. وفى غمضة عين تصبح النار المشتعلة رمادا وهشيما..

وكان إبراهيم يستريح من عناء كل الأعمال بعد الغروب، ويتبختر مزهوا في المنطقة بين كوبري الملك الصالح ودوران فم الخليج.. ويفرض أتاوته على المعدية.. وعلى الباعة الجائلين..

وإذا أرخى الظلام رواقه، أصبح شاطىء الترعة الذي يخيم عليه الشجر الضخم الملتف رهيب الوحشة في الليل.. شديد الظلام مرعبا.. حتى لا ترى موضع قدميك بعد ثلاثة أقدام.. لأن هذه المنطقة لا تضاء بالمصابيح اطلاقا، كما لا توجد حوانيت في الواجهة المقابلة تخفف من وطأة الظلام.. بل كانت هذه الرقعة الكثيفة الأشجار خالية تماما من الدكاكين.. وحتى المنازل المتناثرة هنا وهناك كانت صامتة رمادية شهباء خرساء.. تضفى ظلا كئيبا موحشا على الشارع كله..

ويحدث أن يصدم الترام، أو تدهس سيارة عابر سبيل وتلقيه تحت الشجر، أو يطعن شخص غريمه في هذه الظلمة الرهيبة..

وعندما يبلغ الحادث للنقطة يكون إبراهيم في خطف البرق قد نفض جيوب المصاب.. قبل أن يأتي المحقق أو تصل عربة الاسعاف..

وكان يلتذ من هذه العملية حتى وإن لم يجد في الجيوب غير بضعة قروش قليلة.. ويعد هذا العمل مغامراته الكبرى.. ويترقب الحوادث ويشتمها من بعيد بلذة عارمة..

وكان يحكي لي كل ما يجري ويعترف بعملية السطو الليلية هذه وهو هادىء الملامح تماما.. كأنه يقوم بعمل مشروع..

ولما أبديت له سخطي ونفوري من فعله.. قال في سخرية:

ـ إذا لم أسرقهم أنا سيسرقهم غيري.. قبل أن يصلوا إلى المستشفى.. أو إلى المشرحة في زينهم.. هل تتصور أنه يمكن أن توجد أمانة في هذا الجو.. ؟

ـ لماذا لا.. ؟

ـ إن هذا مستحيل تماما.. الحياة غير الذي تقرؤه في الكتب يا عبد الحميد أفندي.. عندما تنام عين الإنسان يتحرك الشيطان.. ويتحرك بكل ضراوة.. وسم هذه خسة.. ولكنى أفعلها.. وسأظل أفعلها..

وقد عجبت لهذه الأفكار السوداء في رأس إبراهيم.. وقدرت أن طفولته كانت قاسية ومرة.. حتى جعلته هكذا..

ورغم هذه النزوة التي كان يندفع إليها في الليل، وهو مسلوب الإرادة تماما.. فإنه كان في منتهى الأمانة في كل ما يتسوقه لي من أشياء.. ولا يزيد مليما واحدا، بل كان يتحمل المشقة ويذهب إلى حي السيدة.. ليشترى لي الأجود والأرخص ويوفر بضعة قروش في كل مرة..

ومن البيوت التي كان يخدمها.. شقة في الدور الرابع في نفس العمارة التي كنت أقيم فيها.. وكانت تسكنها سيدة ومعها بناتها الثلاث وكن جميعا يلبسن السواد في الليل والنهار.. ووجوههن شاحبة حزينة..

وكانت هذه الأسرة ضحية لرجل اشتعلت في رأسه الوطنية ـ منذ الصبا ــ وأخذ يكافح الاستعمار الإنجليزي بكل الوسائل.. وحدث أن وقعت حادثة اغتيال لبعض كبار الإنجليز في مدينة القاهرة فاتهم فيها.. وأعدم.. ونسى الناس الأرملة وبناتها نسوهن تماما.. وعشن بعد عائلهم في فقر وحزن..

وعرفت من إبراهيم أنهن يعشن من دخل ضئيل ولولا هذا لمتن من الجوع.. وكنت كلما شاهدتهن أشعر بشيء ثقيل يحط على قلبي ويكاد يسحقه.. ويضاعف من ألمي أنني كطالب فقير لا أستطيع أن أفعل لهن شيئا..

وكنت أتساءل كيف نسيهم الناس ونسيتهم الأحزاب.. ثم أدركت السبب.. كان الخوف من بطش الإنجليز وإرهابهم يبعد الناس عنهم.. لقد أمات الإرهاب كل مروءة وشهامة في طباع البشر.. وقتل الخوف كل خير في الإنسان..

وإلى جانب هذه الأسرة التاعسة التي نسيها الناس.. يعيش في القاهرة نفسها المهرجون والخونة والمتجرون في الوطنية.. يعيشون في القصور ويكنزون الأموال..

وكان إبراهيم الذي لا يعبأ بالطعام، ولا بالشراب، ينام كيفما اتفق في مدخل العمارة.. أو على البسطة التي أمام شقة الأرملة وبناتها.. يفرش حصيرا ويتمدد.. وكثيرا ما كانت تنتابه حالة اكتئاب حادة تجعلني في حيرة من أمره.. وفى أثناء هذه الحالة يكون طعامه رديئا.. وطباعه متغيرة..

وكان يتقاضى مني جنيها واحدا في الشهر نظير خدمته.. ولا يطلبه إلا إذا أعطيته له.. فلم يكن في حاجة لنقود لطعامه، أو ملابسه لأنه يأكل في البيوت التي يشتغل فيها ويرتدي الملابس القديمة.. ويوما طلب مني هذا الجنيه وهو يبدي أسفه، وعلى وجهه الخجل، فأعطيته له ولم أسأله عن السبب.. فتناوله وخرج في الحال..

وقد جعلني هذا أراقبه من النافذة.. ورأيته بعد ساعة يدور في الميدان، وبجواره طبيب الحي ممسكا بحقيبته..

ثم وجدته يصعد به إلى شقة الأرملة..

وحدث ما جعله يدخل قفص النقطة.. وهو الذي كان يتفرج على المحجوزين فيه ويسخر منهم.. ذلك أنه شاهد شابا خليعا يلاحق كبرى بنات الأرملة.. تحت الشجر.. ويمسكها من معصمها في غبش الظلمة.. فصرخت الفتاة وكان إبراهيم يعس كعادته في هذه الجهة.. فجرى على صوتها وأمسك بتلابيب الشاب.. وكان مع هذا نصل حاد أراد أن يطعن به إبراهيم.. فانتزعه منه إبراهيم، وهو في ثورة غضبه على الفتاة، وطعنه بقوة وسقط الشاب..

وتجمع الناس في الظلمة.. وقد روعهم المشهد الدامي.. ولكن إبراهيم تقدم وحده دون أن يمسك به إنسان.. ودخل النقطة..

وروت الأرملة كل شيء عنه بعد ذلك.. وكيف أنه كان يعطيهم كل ما كان معه من نقود، ويحرم نفسه من كل الأشياء..

وأدركت أنا، بعد اعترافها هذا، أنه كان يعطيهم حتى النقود التي كان يجمعها من جيوب المصابين في الحوادث..

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply