الوليد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
وليد لا أمل له في الحياة.

يحيا.

ويسلبني الحياة.

 

(1)

استلقيت وبنظرة باردة أقرب للموت منها للحياة أخذت أفكر وأتأمل في السقف، عجباً كيف نشعر بتغير كل شيء من حولنا، رجعت لذاكرتي عدة سنوات، تذكرت تلك الليلة، كنت مستلقياً أنظر للسقف وابتسم.

-  ما بك ألا تريد النوم؟

- ليس بعد سأنام إذا حان الوقت.

- ولماذا تضحك؟

- سألتها مبتسماً: أتدرين ما هو اليوم؟

- نعم إنه الاثنين.

- لا أقصد أتدرين في أي شهر أنت الآن؟

- أنا في الشهر السادس.

- لا، بل أنت الآن في الشهر السابع، قلت ذلك والتفت إليها، ماذا تفعلين إذا أنجبت هذه الليلة؟

- رمتني بالوسادة، نم واترك هذه الأفكار.

أولاً: أنا في الشهر السادس، ثانياً: لا تخف لن يحدث شيء فأنا لا أشعر بأي شيء، سألد في موعد.

- بل أنت في السابع، وأخذت أحسب لها الأيام.

- لا عليك، ولو كنت في السابع بقي لي شهرين بإذن الله.

- افرضي مجرد فرضية ماذا أفعل لو أدركك الطلق هذه الليلة؟

- لا تفعل شيئاً فقط نم، لقد تأخر الوقت الساعة الآن العاشرة.

- أمري لله ولكن إذا تعبت هذه الليلة لا تقولي أنني لم أقل لك.

- لا عليك، وابتسمت لي.

صدرت مني آهة عميقة، شعرت أن صدري سيحترق، كل لحظة تمر علي تؤلمني، عدت لذكرياتي، عجباً لها من ذكرياتي أبحث عنها علي ألتمس الدفء في حروفها ونقوشها، وأعود وفي صدري الجراح وفي قلبي الحريق.

 

(2)

- استيقظت على صوت بكاء مكتوم، ووثبت فزعاً إليها.. ما بك؟

- أشعر بمغص شديد.

- هل نذهب إلى المستشفى الآن؟

- لا فقط سأعد لنفسي بعض الشاي.

- هل هذا هو الطلق؟

- ضحكت بألم لا.. هذا مغص عادي.. اذهب للنوم الآن الساعة الثانية عشر.

شربت الشاي، وعدنا للنوم، شعرت ببرودة الجو، بدا كأنني أعيش في المواقف ذاتها في لحظتي هذه، دمعت عيني وعدت للذكريات ثانية.

- سمعت بكائها المكتوم، الساعة الثالثة، هيا نذهب للمستشفى.

- هيا.

- قفزت مسرعاً وبدلت ثيابي، ولكن … السيارة ليست معي.

انطلقت مسرعاً لجاري، تزوج حديثاً قبل ثلاثة أيام فقط، قرعت الباب بهدوء، سمعت صوت حركته من خلف الباب.

- من من هناك؟

- أنا جارك أعذرني على الإزعاج.

- فتح الباب في تعجب.. ماذا حدث؟

- ابتسمت له.. أعذرني حقيقة، ولكن يبدوا أن زوجتي تحتاج أن تذهب إلى المستشفى، وسيارتي ليست معي.

- حسناً لا عليك، انتظرني قليلاً سآخذك إلى هناك.

- كانت قد استعدت للذهاب، ذهبت مسرعاً وساعدتها على النزول، تماسكي سنصل بسرعة.

- ابتسمت لي وندت عنها آهة ألم.

على مسافة قريبة كان هناك مستوصف صغير كان هو وجهتنا، انطلقت السيارة مسرعة، وفي زمن بسيط وصلنا إلى المستوصف.

بيت الطبيب يقع قريباً من هناك، ناداه جاري وحضر الطبيب مسرعاً.

- خير.. ماذا حدث؟

- زوجتي متعبة.

- نظر إلي الطبيب. ماذا بها؟

- أخذته جانباً وابتسمت له: يبدو أنها ستلد.

- نظر إلي بتعجب وهل كانت حامل؟

- نعم، ولكن لم نكن نريد أن يعلم أحد بذلك.

- ولكن المشكلة الآن أن سيارة الإسعاف تعطلت اليوم، والمستشفى فيه طبيبة، ولكن كيف سنصل؟

- نظرت إلى جاري الذي حضر لتوه.. فقال لي.. سآخذك إلى هناك.

- لا.. فقط خذني إلي بيت أبي شروق.

- كان البيت قريباً، قرعت الباب على صديق عمري، وسمعت صوته.. من؟

- أنا أخوك.. افتح الباب.

- ادخل.. ماذا حدث؟.. أوه أنت لست لوحدك.

سلمت على جاري وشكرته.. وانصرف.

 

(3)

- قل لي الآن.. هل حدث بينك وبين زوجتك شئ؟

- لا.. ولا تسل عن شيء، البس بسرعة وأخبر زوجتك أن تلبس وتأتي معنا.

- أين؟

- رفعت رأسي ونظرت في عينيه، إلى المستشفى.. زوجتي ستلد.

- ضحك، والله أنت خطير، هكذا، لا يعلم أحد؟

- لا وقت نضيعه هيا.

انطلقت بنا السيارة، يبعد المستشفى عنا قرابة عشرين كيلو متراً فقط، ولكن الطريق سيئ قليلاً، وصلنا إلى المستشفى قرابة الفجر، وبمجرد أن وصلنا جاءت طبيبة الطوارئ تجري، وأخذت زوجتي وأدخلتها.

- عادت الطبيبة مسرعة.. أين زوجها؟

- أنا.

- لا بد أن تذهب بها إلى المستشفى الآخر، ستأخذكم سيارة الإسعاف.

- لماذا؟ ما المشكلة، يبدو أن الولادة ستكون متعسرة، يمكنك الآن أن تدرك سيارة الإسعاف.

- نظرت لأبي شروق.. ماذا ستفعل؟

- ابتسم.. لا عليك.. أذهب أنت معهم، زوجتي ستكون معها في الخلف، وأنت ابق قريباً من السائق.. وانطلقنا.

المسافة بيننا أكثر من ساعة، الجو بارد، والثلج على جانبي الطريق، وقطرات مطر متجمدة تهطل على زجاج السيارة.

- لا تقلق.. سنصل في الموعد بإذن الله.

- ابتسمت للسائق.. لست قلقاً كثيراً.. الحمد لله.

آه.. ما أجمل الليل.. أشعر بنسماته تداعب صدري وأنا هنا، وهربت من ذكرياتي، قمت أعد لنفسي كأس عصير، المكان مظلم لقد تغير كل شيء، رجعت ثانية لسريري وأخذت أفكر.

- وصلنا للمستشفى وهناك التقيت بصديقي.. ماذا حدث؟

- لا شيء حتى الآن، لقد وصلنا تواً هي في هذه الناحية.

ذهب إلى حيث كانت زوجته تجلس، وأخذ يهمس لها، ثم عاد لي ثانية.

- اسمع.. أمعك نقود؟

- سكت.

- ضحك.. ولا أنا.. انتظرني هنا سأعود حالاً.. تركني وذهب.

- خرج طبيب من الداخل.. ذهبت إليه.. عفواً دكتور.. كيف حالها؟

- لا أدري بالنسبة للزوجة.. هي في القسم الآخر كلهن نساء.. من أنت؟

- أنا زوجها.

- آه.. لقد رزقت بمولود.. ولكن يبدو أنه لن يعيش.

- المهم هي.. كيف حالها.

- رفع رأسه متعجباً.. أقول لك قد لا يعيش الولد.

- نعم سمعتك.. الحمد لله، هذا قدر الله.. ولكن كيف هي؟

- حقيقة لا أدري.. وتركني متعجباً.

- وقفت أنظر لباب الممر، هناك خلف هذه الباب ترقد زوجتي، وفجأة ظهر سرير عليه جسد يتمدد بلا حراك، وقد غطى الوجه، لم أستطع الصبر فتحت الباب وركضت، بدا الممرضات يصرخن فيّ، اقتربت من الجسد، ناديته فالتفتت لي وحركت لي يدها، ألقيت بنفسي عليها.. هل أنت بخير؟

- نعم.. شدت على يدي.. ولكنني لم أره.

- لا عليك سترينه بإذن الله.. فقط اهتمي بنفسك.

- أخذوه مني.

- طبيعي.. سيضعونه في الجهاز.. يفعلون هذا مع كل الأطفال.. فقط لا تقلقي.

بدأت الممرضات يطلبن مني الخروج، هذا المكان مخصص للنساء، لم يكن هناك غيري، ابتسمت لي، وطلبت مني الخروج.

بقيت انتظر في الخارج، وفجأة وصل أبي شروق.

 

(4)

- أين كنت؟

- هل خرجت؟

- نعم.

- ذهب إلى حيث تنتظر زوجته وعاد ثانية.. تقول زوجتي أنها بخير، ولكن يبدو أن الولد متعب قليلاً.

- المهم أنها بخير.

- لن يحيا الولد.

- نعم.. سمعت بذلك.

- إذا كتب الله له أن يحيا فسيعيش.. لا تقلق.

- لست قلقاً.. لا عليك.

- هيا بنا.

- إلى أين؟

- سآخذ زوجتي لبيت أمها.. ونذهب لبيت حماتك نبشرها.

- جيد.. ولكن خذني إلى بيتي ضروري.

- لماذا؟

- ابتسمت له.. سأبيع بعض أغنامي.

- ضحك.. وانطلقنا معاً.

فوجئت أنني ابتسم، الألم العذب، الذكريات القاتلة تبعث في صدري النور، كل شيء سينتهي، لا بد أن ينتهي يوماً ما، بقي الوليد قرابة الشهرين يصارع الموت.

- من أنت؟

- أنا أبوه.

- آه.. أعذرني سيدي.. ولكن أمل النجاة ضئيل جداً، لقد توقف تنفسه في الليلة الماضية ثلاث مرات.

- كم نسبة الأمل في حياته؟

- ربما لا أبالغ لو قلت لك أقل من 1%.

- على الله.. متى أراه؟

- لا تستطيع الآن.. لأنه في جهاز حضانة، نحن نحاول أن نعتني به عله يحيا.

وتمر الأيام..

- من أنت؟

- أنا أبوه.

- أوه.. العربي الصغير.. لقد بدأ في التحسن.. إنه معجزة.

- ومتى سيخرج من المستشفى.

- أمم.. يمكنك أن تسأل الطبيب الذي يعالجه.. هذا هو.

- إذن.. هذا أنت.. يبدو أن ابنك قوي.. سيحيى.. وسيخرج قريباً.

كان ذلك اليوم متميزاً، اليوم سيخرج من المستشفى وسأراه عمره الآن شهرين.. ترى هل كبر كثيراً؟

 

(5)

كانت لحظات الانتظار قلقة نوعاً ما:

- ألا تذكرين شكله؟

- قلت لك لم أره.

- يقولون أنه أسمر جميل.

- ابتسمت، نعم بالنسبة لهم هو أسمر، ولكنه سيكون مثلك.

نادت الممرضة باسمي.. وذهبت إليها.

- أنت والد الطفل؟

- نعم.

- هل ستأخذه الآن؟

- ابتسمت لها.. إذا أمكن سأكون شاكراً لك.

- جيد انتظر هنا.

دخلت إلى الحضانة، وعادت تحمل شيئاً صغيراً في يدها.

- قلت مرتبكاً.. أهذا هو؟

- نعم.

- مددت يدي لها.. هل أحمله؟

- نعم تفضل، ولكن برفق، وحبذا لو تحمله أمه فهي عادة أكثر رقة من الأب.

تقدمت زوجتي وحملته بين يديها، كان صغيراً جداً، يشبهني أو هكذا خيل إلي، أبيض البشرة، وشعر كستنائي.

لم أعد أستطيع التفكير، خرجت من البيت وركبت السيارة، بدأت أسير بلا هدف، ولكن يبدو أنني توجهت إلى البحر لاشعورياً.

نظرت للأفق هناك يلتقي خطان من زرقة، وعدت للتفكير، كبر الصغير، وكبر معه حبي، حياته، انطلاقه، نظرته، ابتسامته، وأسئلته، شعرت أن الموج ينقل لي كل همسة في حياته، ومع الهدير الخفيف رحلت ثانية في عالمه.

استيقظت من أفكاري، عدت لسيارتي، أدرتها وتحركت ثانية، لم أعد أفكر في شي، تذكرته ثانية وقفته خلفي وتوجيهه لي.

- بابا يمين.

- تعرف الطريق؟

- نعم أعرف.. يمين.. ويشير بيده الصغيرة باتجاه اليمين.

توجهت إلى اليمين، وأخذت ابتسم.. ومع ابتسامتي كان قلبي يبكي أسى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply