في الليلة التي سلختُ فيها جلدي، وقررت أن أعرف الله أكثر في مكان آخر، نَظَرت إليّ بعينين حمراوين تتجاذبها عاطفة جيّاشة، متوسّلة بأيام الطفولة الحالمة، وبجنون مراهقتي المتمرّدة في مفاتنها المتجدّدة بأن أتراجع عن الرحيل.
أمسكت بمعصمي، تعلّقت بحقيبتي وأنا ماضٍ, تحدوني رغبة في الانتقام، مدفوعاً بعنجهية سكنت سقف عقلي، حارقة كل شيء داخلي، ومدمرة ذاكرتي كي لا أستجيب لتظاهرات الإحساس الصادر من عمقٍ, جرحته أقدامُ الراحلين.
بطريقة لا تخلو من المخاطرة خرقت القانون بالرغم من أنه لم تعد به جهة صالحة حتى للخرق، و تسلّلت مبرمجاً وفق خطة محكمة للنزوح عبر الحدود، عجل الخُطا غير آبه بثقل حقيبتي التي تعلّقت بها لأجر تاريخاً من النخيل، البيوت، الأزقة، الضحكات، حكايات ما بعد الغروب على نبع ماء، الخلوات الملتهبة بين الأحضان، والمتبوعة بأنّات الندم على سجاد الجامع الصغير، وأشياء كثيرة ترفض التخلي عني، وتتقدم لتذكرني بنفسها، لكن لا أنا ولا الوقت لدينا الرغبة في تقبلها.
إنها تقاومنا نحن الراحلين متلفعة بوشاح أخضر، كما تقاوم زحف التناقضات، وصكوك الفرق الناجية، وحَوَل الانتكاسات، وسخرية السرقات شبه النظامية.
حاولت التخلص منها، نهرتها فَجَرت أمامي لتختفي، ثم عاودت الظهور عجوزاً نسجتها التجارب، تتكئ على عصا تشبه إلى حد ما عصا سليمان، أنا لم أَرَ عصا سليمان لكني استشعرت مهابتها.
تخلّت عن حجابها للمرة الأولى، وغدا شعرها الحريري منصاعاً لمزاجية الريح. أعمدة من الدخان تصعد منها لتطلي الهواء بلون أبيض يميل إلى الرمادي لتثقله برائحة البخور.
يزين يديها خواتمُ متباينة الأشكال والأحجام. عالم السحر تجلّى لي بتعاويذه ودوائره ومربعاته، وطلباته التي لا تنتهي وكتبه الطائرة بدون ناشرº لتُحَضر السادة المحترمين.
لم أكن خائفاً بقدر ما كنت مندهشاً من تحوّلها السريع.
وضعت يدها على كتفي سامحة لابتسامة مقهورة بالانطلاق:
- أما زلت تحبني؟
كل شيء داخلي يجذب لساني ويلجمه، فالتزمت الصمت، ليحمل الهواء نعش سؤالها.
هزّها الصمت، وتسلّقت دمعة غاضبة من الأعماق لتنتحر أمامي.
تحاشيت النظر إليها، هربت ببصري، طاردتني بنظرات حملت طابع التحدي، لتحاصرني كقط بَرِّي.
قرّبت وجهها العريض البادي كلوحة زيتية ضُربت بفرشاة عريضة منذراً بعاصفة، ليهب صوتها زاحفاً رخيماً مترافقاً مع هزات من سبّابتها، اهتزت معها أبعادي:
- أما للحب من شفاعة تُرتجى أم أنه تفكك بمطارق النياشين، وضاع بين طبقات الأرض؟! ترحلون في ساعات الفجر وتتركون آثاركم تؤرقني، يقف (رختر) عاجزاً عن رصد مقدار هزّات الألم من جراء فقدان جزء من كبدي كل ليلة.
اصطدمت كلماتها في قنوات أذني السمعية بحواجز إسمنتية، لكن سرعان ما كَسَّرتها، وفاضت على إثرها جراحاتي، ليضيق نَفَسي فتزحف كلماتي هاربة.
- سنحبّك في مهاجرنا أكثر، أقسم أنّا سنعود بصناديق الحرية، لو تركتني أرحل، يا مدينة كل شيءٍ, فيها مجرور بأكثر من حرف جر، اتركيني ارحل من غير أن أجرّ خلفي تركة ثقيلة من الهموم.
طارت عني بعيداً تنظر إليَّ من أفق أوسع، وقد عدلت من درجة رؤيتها أكثر من مرة، وكأنها تريد استكشاف منطقة الضعف فيَّ تمهيداً لاستهدافها. أجبرتني على رفع رأسي بعد أن مدّت جسراً معلّقاً ووضعتني عليه لنتحاور في الفضاء.
- قبيحة هي الحرية بعيداً عن المكان الذي تحب، كريهة هي الحرية عندما تُصاغ بلغة غير لغتك، ثمة كذبة تهاجرون إليها، ولن تدركوا أنها كذبة حتى يهرم كل شيء حولكم إلا هذه الكذبة. أمور كثيرة يمكن أن تُستورد إلا الحرية.
حاولت أن أدافع عن أفكار الراحلين، وأصور لها المستقبل كما نحلم به إلا أنها مسحت على وجهي وحقيبتي مُودِعَة رائحتها المقدسة، ثم دسَّت في يدي بطاقة ذُيّلت بعبارة بين قوسين (حينما تقرّر العودة فتعال، ولكن ليس على ظهر دبابة، واشتر لي فستاناً على مقاسي وفق الموضة الشرقيّة).
ما أن أنهيت قراءتها حتى لفظتني ناحية الغرب.
مضى العمر وتكسّرت أربعون عاماً مذ فارقتكِ، وأنا أطارد الحلم في أروقة الفنادق، الحانات، المنتجعات، صالات المطارات، وبين دور عرض الأزياء أفتش عن فستان يليق بفلسفتك. مات خلالها حضرة المدفع وتحكمت فيكِ مدافع، وظلت رائحتك المقدسة تتبعني حيثما ذهبت، وتخز خاصرتي حتى اضطررت للقيام بتوقيع وثيقة استسلام تنص على عدم البحث عن الحرية في العُلب المعبأة، وأوردت ذلك في وصيتي لعلَّ القادمين يعرفون كيف يكون الموت لذيذاً شهياً حينما نصل الله فيها دون غيرها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد