طائر المئذنة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تتعلقُ الأرواحُ بالطيور والأحجار..

ولكن متى؟؟

إذا ارتبطا بقلب ونبض..

في طيور السماء حبٌ ووفاء..

وفي أحجار الأرض أُسٌ وعطاء..

 

(1)

يوم الأحد.. الساعة الواحدة ليلاً.

أبي.. ترى هل ستصلك رسالتي هذه، وإذا وصلتك فهل سترد علي.. أشتاق لك كثيراً في غربتي.. أنت معي في كل لحظة.. وكل شي أراه يذكرني بك.

أقيم في الدور الرابع في شقة صغيرة.. اطمئن، لا تخف على دراستي فالأمور تسير بشكل جيد.. تطل غرفتي على نهر كبير.. وفي الضفة الأخرى من النهر مسجد المدينة بمئذنته السامقة.. تقابل المئذنة نافذة غرفتي.. وفي الليل أنسج مع المئذنة الخيالات وأضع الصور.

حارس المسجد العم ناصر رجل كبير، في الخمسينات.. لا يزال متمتعاً بقوة، ولكنها من ذلك النوع الحزين.. أشعر أنه لا يستطيع الالتفات إلى المئذنة، ربما تحوي ذاكرته قصصاً ومواقف.. لا عليك يا أبي لقد عزمت على الجلوس معه والتعرف إليه أكثر وسماع قصة المئذنة منه.. التاريخ يا أبي يقول: إن الإسلام انتشر هنا، وإن المساجد كانت تمتلئ بالمصلين.. ولكن لماذا تتغير الأرض بهذه الصورة.. أطلت عليك يا أبي سامحني.. انتظر ردّك.

 

يوم الاثنين: الساعة الثانية عشر ليلاً.

اليوم خرجت من غرفتي.. وقررت التوجه للمسجد.. لم أزره كثيراً، كان صمته مهيباً.. يحيط به سور حجري كبير قديم.. لم تؤثر الأيام على السور، ولكن لونه تحوّل إلى الأخضر المسودّ بسبب ما نبت عليه من طحالب.. السور قوي، كأنه مصمم لمواجهة الحرب.. وفي الداخل كانت ساحة خضراء كبيرة.. لم يعترض طريقي أحد.. فواصلت مسيري وتلفتي.. كان المكان مرتفعاً وبدت لي في الأفق الجبال، وفي منطقة من السور استطعت التسلق لأرى المدينة، وأرى النهر.. كان كل شيء هادئاً.. ونسمات الهواء تداعب وجهي.. نظرت خلفي كان المسجد يبدو شامخاً.. والمئذنة تقف في صمود.. بدت لي أثار دمار لم أتبينها من قبل.. اقتربت من المسجد.. كان هناك حوض ماء في وسط الساحة الخضراء.. وحول الحوض صُمّم بناء دائري يحيط بالماء.. ومن حوله صف دائري من الكراسي بدا أنه لم يُستخدم منذ فترة طويلة.. حاولت تخيل الصورة قبل أن يهجره الناس.. ورأيت الرجال يجلسون على هذه الكراسي ويتوضؤون هنا.. وأصوات الأطفال وهم في كتاب المسجد يتعلمون القرآن.. فتحت عينيّ على الفراغ ثانية ووصلت تأملي ومسيري.. لم أتوجه للمسجد.. بل التففت عليه.. ووصلت لباب المئذنة.. كان باباً خشبياً قديماً، لكنه جميل.. تحسّسته بيدي، كان ضعيفاً.. يمكن أن أفتحه لو اتكأت عليه بقوة.. خطر على بالي أن أصعد المئذنة لأرى المدينة من فوق.. وفعلاً دفعت الباب فأحدث صريراً أزعج السكون.. ووجدت نفسي داخل مئذنة مهجورة.

 

(2)

 

كانت المئذنة من الداخل مظلمة.. باردة.. وبدا لي أنها لم تستخدم منذ فترة طويلة.. كان الغبار يملأ الأرض.. والسلم الحلزوني الملتف يعانق الفضاء المظلم.. شعرت بقشعريرة تملأ نفسي.. لا أدري يا أبي أكان خوفاً أم وحشة أم هيبة للمكان.. حاولت أن أبصر نهاية السلم الحلزوني فلم استطع، ولكن كان هناك عدة فتحات ينبعث منها النور وتعطي ضوءاً في بعض الأماكن.

ابتسمت لنفسي.. إذاً هاهنا بعض الضوء.. يمكنني أن أتسلق لأرى ماذا يوجد في الأعلى.. بدأت في الصعود.. كان الطريق متعباً وبدا لي أنني سأصل للسماء.. كان ينبغي عليّ أن أكون حذراً، فالدرج يبدو مهترئاً في بعض الأماكن.. كما أنني أجهل طبيعة المكان.. كنت أفكر هل يمكن أن يوجد أحياء في هذه المئذنة.. فكّرت في الثعابين ربما وجدت بعضها أن المكان مناسب فقررت الاستقرار فيه.. لم أفكر بالنظر إلى الأسفل فقط كنت أتخيل الصورة.. فراغ أسود عميق، ولذلك واصلت تقدمي للأعلى.. كلما مررت بنافذة نظرت من خلالها لأرى المدينة والقرى القريبة منها.. كان المنظر يختلف كلما صعدت أكثر. أحسست أنني سعيد.. بدأ خوفي يتلاشى.. وصدى خطواتي يبعث في نفسي نوعاً من الأنس.

وأخيراً وصلت إلى الأعلى.. كانت المدينة تبدو صغيرة من هذا المكان.. والجبل في الخلف قد غطى جزءاً منها.. كما بدا لي النهر كبيراً وقوياً.. وهناك رأيت غرفتي.. ابتسمت وأخذت أستنشق الهواء.. كم تبدو دنيانا صغيرة يا أبي.. ولكن بالرغم من صغرها هي قاسية ومؤلمة.. فكرت فيك وفي أمي.. فكرت في إخوتي.. فكرت في نفسي وفي غربتي.. ومع زحف الضباب على المدينة زحفت الذكريات كالسيل تهاجمني.

أخذني الوقت وأنا في موقفي فلم أنتبه لنفسي.. اقترب وقت صلاة المغرب، وعليّ النزول بسرعة قبل أن تظلم الدنيا.. لمحت العم ناصر يدخل إلى فناء المسجد ومعه رجل آخر.. استدرت بسرعة لأنزل قبل أن يراني.. وفي الطريق لمحت منظراً أذهلني.. عش طائر وبداخله صغير الطائر.. يبدو أن أبويه قد هجرا العش لسبب من الأسباب فلا شيء يسوّغ تأخرهما عنه.. كما أن الصغير بدا جائعاً.. التفت حولي. لم أجد ما يمكن أن أطعمه.. !! ثم خطر على بالي أمر لا أدري يا أبي هل كان صائباً أم لا.. رفعت العش بهدوء، وقررت أن آخذه معي.. وبدأت في النزول السريع.

كنت أفكر طوال الطريق، ما الذي آخّر أبواه عنه.. وهل قست قلوبهما فتركاه في هذه المئذنة وحيداً.. قطعت الطريق بسرعة.. أصابني الإرهاق، وأخيراً انتهيت من المئذنة، ووصلت إلى الأرض.

كان العم ناصر جالساً مع بعض الرجال الكبار في ساحة المسجد.. خرجت من المئذنة دون أن يلمحني أحد منهم.. ولكن لا أستطيع عبور الساحة بمثل هذه البساطة.. فقرّرت العبور بهدوء.

- لمحني العم ناصر.. هيه أنت يا فتى، تعال هنا.. !!

- اقتربت منهم بهدوء.

- أووه هذا أنت يا بني.. ما الذي كنت تفعله في الخلف؟

- كنت أشاهد الساحات وأراقب المدينة.

- حانت منه التفاتة إلى الطائر.. وما هذا الشيء الذي في يدك؟

- طائر صغير وجدته وحيداً.

- أرني إياه..

- مددته له.

- هذا طائر صغير.. لا يمكن أن يخلو العش من أحد الوالدين.. إلا إذا ……

- ماذا يا عم؟

- إلا إذا ماتا.. الأطفال هنا يعبثون بالطيور.. أحسنت صنعاً بأخذه. ولكن هل تستطيع الاعتناء به؟

- سأحاول.. وابتسمت.

- حسناً.. قم بطحن الحب له فهو لا يزال صغيراً.. وهيا بنا حان وقت المغرب.

صلينا المغرب.. وخرجت مسرعاً إلى غرفتي لأطعم صغيري.. مررت بمحل صغير في الحي أحب أن أشتري منه أغراضي.. طلبت منهم كيساً صغيراً من الحبوب، وركضت باتجاه البيت.

 

(3)

يوم الجمعة: الساعة الواحدة ليلاً.

أتدري يا أبي.. أشتاق لك دائماً وأفكر فيك كثيراً.. كلما رأيت الرجال في المسجد تذكرتك.. مسجدنا قديم تشعر بالرهبة والسكينة يملآن نفسك بمجرد أن تفتح بابه.. لو رفعت رأسك إلى السقف سترى أنه يحتاج إلى ترميم. كما أن الإضاءة فيه ضعيفة.. تفوح منه رائحة طيبة ولو لم تضع فيه عطراً.. فُرش بسجاد قديم، ولكنه فاخر.. وفيه عدة أدراج خصصت لوضع المصاحف.. وقد علا الغبار أركانه.. ترى في الصف الأول مجموعة سجاد صغير، هذا السجاد خاص بالعم ناصر، وببعض الرجال الذين يحرصون على الجماعة.. وفي مؤخرته وُضع إناء فخار فيه ماء تفوح منه رائحة البخور.

نسيت أن أقول لك: إن صغيري بصحة جيدة.. وضعت عشه قريباً من سريري، في مكان أراه وأرى المئذنة من خلاله.. وقمت بطحن الحب له.. قررت أن أسميه وحيد.. لأنه من دون أصدقاء.. أتدري يا أبي؟! أشعر أنني مثل طائري... وحيد في عالمي إلا من الذكريات.

أصحو كل يوم.. أرسل قبلة للمئذنة وأرتدي ملابسي.. وأتوجه إلى مدرستي.. أراك هنا في كل صفحة.. في كل سطر.. في قلبي اسمان.. الأسرة، والمبدأ.. وتحت كل اسم منهما توقيعك.

 

يوم الثلاثاء: الساعة الحادية عشرة ليلاً.

تعود وحيد على يدي، وبدأ تغريده يملأ البيت.. ضحكت اليوم عليه، وهو يحاول أن يتعلم الطيران.. أجنحته ما زالت ضعيفة، ولكنه سيطير سريعاً.. أعجبني عزمه ومحاولاته المتكررة.. في كل مرة يقع كنت أرفعه ثانية.. فيعود للوقوع من جديد.. وفي المساء ينام بين ذراعي. أفكر فيه الآن، أشعر أنه يفهم كلامي له.. ويأنس برؤيتي.. هو صغير في حجمه، ولكنه بدأ يملأ فراغاً كبيراً في قلبي.. اشتاق له وأسابق الوقت للعودة إلى غرفتي لأجلس معه.

أتدري يا أبي.. أشعر بالألم إذا فكرت فيك.. وما الفائدة أن أمضغ الذكريات دون أن أراك.. مرارة الأيام تؤلمني يا أبي.. لماذا يقسو الناس على بعضهم؟ لماذا تختفي كل حسنات الإنسان إذا أخطأ؟ ولماذا تختفي الكف الحنون التي تقبل العائد؟

آه يا أبي.. صور العشق التي ترتسم في نفوسنا تحيينا بالأمل.. وفي قصاصات الأوراق تتعانق الأرواح.. وفي عالمك أرحل.. وتحت ظلالك أستظل.. وفي تغريد وحيدي أرى طيفك يبتسم لي.. يشجعني.. ويأخذ بيدي في عالم لم أعد أميز معالمه.

أتدري يا أبي.. ؟! أصبحت في كل يوم أقص ورقة من التقويم وأفرح وأشعر أنني قصصت ورقة من نفسي معها.. وأنتظر موعد الرحيل.

 

(4)

يوم الأحد: الساعة الثانية ليلاً.

كبر وحيد يا أبي.. وأصبح يطير بمهارة.. كما أنه أصبح يخرج من الغرفة ويعود إليها.. أتدري يا أبي.. ؟! أفقده كثيراً إذا عدت إلى الغرفة، ولم يكن موجوداً فيها.. أتصدق رأيته يطير كثيراً باتجاه المئذنة، شعرت أن شيئاً ما يربطه بها.

ترى هل يشعر صغيري أنه فقد أبواه هناك؟

وهل يشعر أنها منزله الأول؟

أراقبه الآن بجوار المدفأة.. أغمض عينيه وغفا.. وتركني مع أوراقي… ومعك.

آه يا أبي.. أشتاق إليك.. ليتني كنت أستطيع التحليق لأزورك.. ابتسم لهذه الخواطر، وأعود من جديد إلى أوراقي وقلمي.

 

يوم السبت: الساعة الواحدة ليلاً.

أبي.. هل هي النهاية؟ لم يعد وحيد من عدة أيام.. ترى أين هو الآن؟

فتحت له النافذة كالعادة في كل صباح، ولما عدت لم يكن موجوداً.. ترى هل رحل؟

انتظرته طوال اليوم.. وحقيقة يا أبي… بكيت من أجله.. لا أدري لماذا رحل..

بل أظن أنني أعلم.. لقد رجع إلى عالمه.. كنت شيئاً عابراً في حياته يا أبي، وها قد عاد إلى دنياه.. كل شي عابر في هذه الحياة.. حتى من نحبهم يرحلون.. تمزق الأيام الشمل فنعود في ليالي العمر الباردة نحضن الذكريات.. في هذه الغرفة يا أبي موقد.. حتى أخشابه تحترق.. كل شي ليس سوى محطة سرعان ما تنتهي.. ومع آخر محطة تنتهي حياتنا.

 

يوم الأحد: الساعة الواحدة ليلاً.

أنا سعيد نوعاً ما يا أبي.. أتدري لماذا؟

قررت هذا الصباح البحث عن وحيدي.. لم أكن أعرف مكاناً يمكن أن أجده فيه غير المئذنة.. ومع إشراقة الشمس توجهت إليها.. لم أبالِ بالجو البارد في هذه الساعة، ارتديت معطفي وانطلقت.. لم يكن هناك أي إنسان في الطريق.. تخيّلت أن كل شيء قد تجمّد.. فقط صوت الأشجار كان هو الشيء الوحيد الذي لم يصبه الخرس.

وصلت إلى ساحة المسجد.. توجهت في ثبات باتجاه المئذنة.. كنت قد عرفت الطريق جيداً هذه المرة.. لم يتغير شيء منذ زيارتي لها.. كان قد مضى على الزيارة الأخيرة قرابة الثلاثة أشهر.. صعدت السلم الحلزوني مسرعاً.. وهناك في الأعلى … وجدته يا أبي.

كان وحيد قد بنى عشاً جميلاً في الأعلى، وكانت معه أنثاه.. وقد حضنا بيضتين صغيرتين.. عرفني فلم يشعر بالانزعاج مني.. مسحت عليه برفق.. ونزلت مسرعاً.. توجهت لغرفتي. أخذت كيس الحبوب ورجعت ثانية.. تركته لهم واستدرت ثانية.. وعدت لغرفتي.

هذه المرة كانت الحياة قد دبت في كل شيء.. وابتسم الكون كله.. إلا شخص واحد كان يسير مطأطئ الرأس، يخفي دمعة.. كان ذلك الشخص أنا يا أبي.

في فراشي الآن أسطر لك هذه الرسائل.. وسأحرقها حين أنتهي من كتابتها.. لكنني واثق أنها ستصلك، وأشعر أنك معي.. للأحياء أرواح تُسّري عنهم وتؤنسهم.. وفي أرواح الأموات وجدت الحياة.

في كل صباح سأعانق المئذنة..واستمع إلى تغريد وحيدي..وحين يأتي المساء سأجتمع بك تماماً كما كنت أفعل قبل أن تموت.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply