صغيرة .. خارج النافذة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

استنجدتُ بالسِّتارة القاتمة التي استجابت لاستغاثاتي المكتومة داخلي فانحسرت أمتار أقمشتها المخملية، انتابتني حالة من التردد في فتح النافذة الموصدة بمزلاج عنيد، وصدى صوت أجوف يتردد في ثناياي يأمرني بقسوته المعتادة إلى التزام الهدوء وعدم تجاوز الحدود الخارجية، أقاسي آلام المخاض في أحلك الأيام سواداً، فصغيرتي تخرج إلى الحياة وتنمو أمامي رويداً.. رويداً.. في فكري دون أن ألمس ملامحها الغضة، أمد يدي المرتجفة.. فوهة النافذة، وأداري وجهي عن أنظارهمº لئلا يلمحوني من خلف السِّتارة، ويعاقبوني على تحدي قدراتهم الجائرة بقبضاتهم الخالية من الرحمة، أعلنت يوماً رأي بصراحة: من أبسط حقوقي أن تطلقوا سراح طاقاتي، وألحق بصغيرتي في رحلاتها المغذية لأفكاري المجاوزة لمسافاتكم المحصورة لطماتهم القاسية تنهال عليّ، وتحبسني داخل أقفاصهم الحديدية.

بت أقضي ساعات حياتي أناجيها من خلف النافذةº لتأتي إليَّ وأضمها بين أحضان أمها المسلوبة الحرية والإرادة، الأعمدة الحديدية تزداد صلابة وتتكاثر على مساحة نافذتي، وعينان ترافقاني إلى ساحاتها المثيرة لعقلي المحدود فكراً وتجربة، التقطت يديَّ الوجلتين ومنحتني ابتسامة الصغيرة لوالدتها المحبة: تعالي معي نرحل سويّاً إلى عالمي الرحب، الحافل بالمفاجآت وأجني منه بناتك الصغيرات المتجددات لم أرحب بدعوتها المسافرة، خوفاً من العقول الكبيرة أن تجرح مشاعرها، والألسنة الحادة أن تئدها في مهدها.

 

قاومتني صغيرتي المصممة على رحلتها، بكل شجاعة، وخاطبتني بقلبها الدافئ، عيشي تجاربك لترطبي بها أوراقك الجافة.

 

أطرقت رأسي، ورضخت لمشيئتها، تسربت معها من أعمدة النافذة، نظرت للوراء، لمحت جسدي يقف ثابتاً بعينيه المتلهفتين لبريق رحلتي غير المحجوز لها مسبقاً في سجلات التذاكر.

 

وإن نقبوا عني لإرجاعي إلى قوقعتي فلن يجدوا اسمي مدوناً بين الأسماء المجهولة لهم، رأيت العقول والألسنة الحادة تدلف إلى ساحتها المحدودة، تطمئن على جسدي الساكن، لا يهم إن كانت فارقت حياتها، المهم أنها موجودة بأطرافها وأجزائها الميتة دون صحوة عقلها وأفكارها الخانعة لرغباتهم الأنانية، هدأت بالاً فلن يفتقدوا غياب داخلي إلى رحلاتي الخارجية، سأعيدها مراراً، وأنجب بناتي الصغيرات في مخيلتي الولود، أربط حزامي الواقي، وأمسك بأنامل صغيرتي، وأشعر بتغلغل نسمات الهواء اللافحة لوجهي وأشفق على أجسادهم المهشمة على الطرقات الثكلى على عابريها الأبرياء..

أرواح شريرة تزرع الأشواك النافرة والقطع المفخخة على المساحات المتألمة من جورهم وظلمهم وتلطخ صفحاتي البيضاء، أعبس في وجوههم وأتجاوز بحذر وهلع مسافاتهم السوداء يبكين إطلالة أعوامهن الجديدة، نساء ملثمات ويخشين الشيء القادم من الغرب، وأطفالهم الصغار يدمغون بأوبئة قاتلة لأعضائهم الهشة، ويمتد سرب أحزانهن على أفلاذهن المفقودة والمبتورة.

\"صغيرتي\" فضولها الجامح يقتادها إلى خارج حدود المشاة وتسير على الكثبان الرملية المتحركة، أعدو خلفها وأنشلها من الواقع المرير، تصيبها طلقة نارية متهورة في الصميم، تنزف بغزارة أجمع عُدتي وأجابه قلوبهم الفظة: لن تبيدوها من أفكاري ولن تخرجوها من حدود قلمي، أسعفها بأنفاسي المقاومة للإبادة وأشعر بشهقاتها العائدة للحياة، أحملها إلى جسدي المنتظر خلف النافذة، وألد بناتي الصغيرات على أوراقي المفتوحة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply