العاصفة والنمر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

على جناح بغتة تعكر صفاء الطبيعة ولاحت بدايات عاصفة محتقنة في الأفق، كل الكائنات المنتشرة في حضن الطبيعة فترة ما قبل الظهيرة هذه أصابها الجفل من التحول المباغت في السكون الخريفي، وغدا كل كائن صغير وكبير مثل السهم وصولاَ إلى وكره، أو باحثا عن أي ملجأ يقيه عواقب هذه العاصفة التي بدت كهزة في قلب الخريف الآمن . في هذه الأثناء كان ثمة نمر يلتهم فريسة وقع عليها للتو، فانتبه إلى الضجيج الذي غدا شبيهاَ بحرب فتاكة من حوله، رفع رأسه بحركة سريعة وأدرك بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من دائرة الخطر، كانت العاصفة إذ ذاك قد غدت على مقربة منه ومقدمتها تعصف بكل شيء في دربها، فلم يجد النمر الممتلئ بالرعب سوى أن يركض أمام العاصفة علها لا تلحقه أو عله يجد صدفة ملجأ يحميه من هذا الغضب العاصف ..

يركض النمر .. ما يزال يركض النمر بقوة ركض لم يكن يتخيلها في طاقته والعاصفة القاتمة تلاحقه بسرعة الصاعقة .. لم يعد يعرف إن كان هو الذي يقترب منها، أوهي التي تقترب لتشرب روحه وتفتت جسده كأنه لم يكن . تمتلىء روحه بالذعر الذي يفجّر من طرفه طاقة أقوى للركض، كل ذرة فيه ترتعد رعباَ من النهاية المأسوية الشرسة، إنها العاصفة التي تحصد الغابات والبيوت وحتى الجبال الصغيرة، بينما تخلع كل شيء من الجبال الشاهقة فتحيلها إلى جبال ملساء، يتخيل النمر كل هذه المناظر وهو يرى الآثار تتطاير وتتناثر أمامه في مقدمة العاصفة . كل هذه المناظر تمضي أمام عينيه وهو طائر كسهم طائش لا يدري أين سيقع .. يركض من مصير مجهول يلاحقه ثانية بثانية وهو يشعر بأنه يهرب نحو الخروج من الحياة برمتها، الخروج من الغابات والأشجار ولحظات الظفر بطعام شهي، وبغتة أحس بدنو العاصفة فلم يعرف ما الذي سيفعله، كل ما هو مصر عليه هو عدم الاستسلام كما تستسلم تلك الفرائس الواهنة لفكيه، لم يعجبه أن يتخيل نفسه في وضع كهذا يقع فريسة مستسلمة لفكي العاصفة الشرسة، وبغتة اصطدم جسده بصخرة ضخمة بدت صامدة في وجه العاصفة وفي رفة جفن رأى نفسه وسط العاصفة وقد تشبث بيديه وقدميه بالصخرة والعاصفة تمر عليه برعب لم يكن يتخيل نفسه فيه تاركة أزيزاَ نارياَ في أذنيه، ولكنه أحس بأمر غريب عندما أدرك بأنه تمكن جيدا من الصخرة وقد حفر مواضعاَ ليديه وقدميه في جسد الصخرة الصامدة، وهذا زاده إصرارا على المواجهة وعدم ترك جسده يذهب هباءَ، فقد استطاع أن يحفر في الصخر وهذه حقيقة يلمسها، ولكنه بذات الوقت بدأ يحس بأن العاصفة تقتلع بعضا من وبره، فلم يأبه لذلك قائلا لنفسه بأن الوبر سيعود وينمو مرة أخرى عندما يأتي فصل الربيع، وبعد لحظات رعب أخرى أحس بشيء من جلده يذهب هباء من قوة العاصفة، فامتلأ رعبا وهو يشعر بأن الجلد ينسلخ عن جسد ه ويشعر بحرقة لم يذقها طوال حياته، ولكنه يشعر بالأمل مادام لم يستسلم ومادامت لديه قدرة على المواجهة والصمود وعدم الاستسلام لهذه العاصفة الشرسة . أحس بأن الجلد انسلخ تماما وأنه لبث جسدا بلا جلد يواجه عنف العاصفة وحجم الألم في لحظة واحدة . مرت لحظات مزلزلة أخرى على روحة التي ضاقت به وضاق بها وهو يواجه ما لم يكن يتخيله من لحظات يبلغ فيها العنف ذروته و تبلغ حدة الألم قمتها، وهنيهة هنيهة أخذت نيران العاصفة تخمد عليه، عبّ النمر نفسا طويلا وبدأ يسدل يديه وقدميه شيئا فشيئا عن الصخرة وهو يرى بصيص ضوء يلوح من بعيد وكأنه ضوء قادم بعد دهر من ظلام . ترك يديه وقدميه من الصخرة ليجلس على ذيله ويعب أنفاسا طويلة، وعندها قال لنفسه: كم أنت قوي أيها النمر، وكم أنك متشبث بالحياة. ولكنه أوبخ نفسه على لحظات الرعب التي عاشها قائلا: لو كنت أعرف حجم هذه القوة في جسدي لما انهزمت من العاصفة . واكتشف عند ذاك بأن ما تركه الرعب من أثر عليه كان أسوأ مما تركته العاصفة وأنه لو واجه العاصفة بالقوة التي اكتشفها للتو لعجزت عن سلخ الجلد، ولعجزت عن تسبيب كل ذاك الرعب في نفسه، ثم ألقى نظرة إلى جسده المسلوخ وأردف: في الربيع القادم سوف ينمو جسدي بجلد جديد . ومضى في حضن الطبيعة التي بدت أمامه وليدة للتو . تساقط رذاذ خفيف من السماء وسطعت الشمس مرة أخرى على الأرض خرجت على إثرها الحيوانات من مخابئها، أحس النمر بجوع ورغبة في التقاط فريسة، لكنه تذكر قوته الهائلة التي يتمتع بها وقال: وأنا بكل هذه القوة الهائلة، كم كنت جبانا في افتراس تلك الحيوانات الضعيفة الواهنة، إنني خجول من كل هذه القوة التي اكتشفتها في طاقتي .أدرك بأنه عندما كان يطارد فريسة كان بذات الوقت يجرب قوته ليكتشفها، وكان هذا دافعه الجبن الكامن في أعماقه، ولذلك لم يكن بوسعه أن يكتشف كل طاقة القوة التي يتمتع بها رغم كل تلك الفرائس التي كان يقع بها أحيانا حتى وهو مشبع: أجل لقد كنتَ جبانا أيها النمر .. كنت جبانا وأنت تجرب جبنك على الحيوانات الآمنة الضعيفة، وتذكر الألم الذي عاشه في لحظات سلخ الجلد عن جسده وهمهم لنفسه: لن يكون الجوع أشرس من تلك العاصفة . ومن يومها وهو يقاوم رغبة الافتراس كلما لاحت له فريسة ليصبح يوماَ بعد يوم نباتياَ ويزداد قوة على قوة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply