ماتت قبل أن تموت


 

بسم الله الرحمن الرحيم

رحلة العمر مرت بي..هكذا..تركتني، ظهر أحناه الزمن، وخطوط رسمت طريقها بقوة على جسدي.. ألهث حين أمشي، أتعب حين أعمل، تسلل المرض إلى جسدي، أشكو قلة النظر، والأحرف تتساقط من الكلمات حين تصل مسمعي كنت وكنا.. قلب ينبض بالحياة وجسد مفعم بالحيوية والنشاط وهمة لا تفتر ولا تمل عن العمل.

كانوا حولي أطفالاً يطلبون الرعاية، يحتاجون العناية وقبل كل ذلك كانوا متعطشين إلى الحب إلى العطاء إلى كلمة معناها أكبر من أن تشملها حروف...

 

إلى الأم...

وكنت تلك الأم التي تمنوا وأرادوا، لم أعرف الملل يوماً، أحببت العطاء لأنه يرضي غريزة الأمومة في داخلي، كنت كل شيء في حياتهم، كنت الأمان الذي يلجأون إليه عندما يطرق الخوف قلوبهم، وكنت الإجابة على إشارات الاستفهام والتعجب المتصاعدة في رؤوسهم، وكنت نعم حين كان الجميع يقول لا في وجوههم.

تحملت أخطاءهم، ورسمت لهم طريقهم، أخبرتهم عن الصح والخطأ، عن الحلال والحرام، عن الحب وصلة الرحم، عن العبادة والتقرب إلى الله.

تمنيت أن يدخلهم الله الجنة فحرصت أن أرشدهم إلى طريقها.. تعبت.. عانيت.. فرحت وبكيت.. ولكني ربيت.

كبروا وكبرت، شبوا وشبت، أينعوا وذبلت، وفجأة نظرت حولي فلم أجد أحداً منهم، وبدأت أسأل بعد أن كنت أجيب أين ذهبوا، أين هم، كيف هو حالهم، وكان ردهم واحدº مسـؤوليات الحياة، المشاغل، العائلة، الزوجة، الأطفال، العمل والمستقبل.

وأنا؟... أين أنا من كل هذا، صرت ماضياً لا قيمة له، مجرد ذكرى، صفحة في كتاب طفولتهم المليء بالذكريات التي يستمتعون بالحديث عنها بين فترة وأخرىº أيام البراءة واللعب، الشقاوة والحرية..

نعم مجرد صفحة لا تجد لها مكاناً في يومياتهم.

 

فراغ في حياتي، لم أعتقد أني سأعيشه يوماً، كنت أبحث عن دقيقة هدوء أرتاح بها من أصوات مشاجراتهم حتى تلك الألعاب التي تصدر أصواتاً كنت أرمي بها بعيداً..

كنت أجد في نومهم إجازة ممتعة لي.. والآن أبحث عن ضجيجهم، أدخل غرفهم القديمة، أتناول ألعابهم، حتى تلك التي تصدر أصواتاً أصبحت أستمتع بضجيجها ربما لأنها تعيدني إلى ذكريات قديمة تعيش داخلي واقعاً لم أقتنع بعد بأنه أصبح ماضياً لا أكثر بالنسبة لهم.

أسماء جديدة دخلت عالمهم، لم أكن أعرفها، لم أخبرهم عنها، بدءوا هم يخبروني وهناك أشياء كثيرة لم أعلمها بدءوا يعلمونها لي.

رأيت أمومتي تتجسد في أمومتهم وتعاملهم مع أطفالهم، ورأيت انشغالي بهم ينعكس في بيتهم ومسؤولياتهم.

ابنتي.. في بيت زوجها، تبحث عن ذات الراحة التي كنت أبحث عنها، وإن وجدتها فلن تقضيها عندي، ستلجأ إلى فراشها دون تفكير..

وابني محكوم بمطالب بيته وأطفاله التي تجعله يعمل بدون أن يفكر بالراحة وإن أنشدها فلن تكون إلا في بيته ومع زوجته التي تعمل أيضاً دون ملل أو كلل ليلتقيا سوياً كما هو حالي وحال زوجي سابقاً ينشدان الراحة معاً.

هكذا هي الحياة أعرفها.. ربما الآن والآن فقط تذكرت أمي - رحمها الله - حين لون الشيب مفرقها وغزت التجاعيد محياها، وأحنى الزمن ظهرها وكانت لا تطلب إلا أن ترانا، لنملأ فراغها بوجودنا حولها، وتنعش ضحكاتنا قلبها، أن نشركها ولو في الكلام في مشاريعنا وأفكارنا وأن نقول لها أمي من صميم قلوبنا.

 

رحلت.. وربما ماتت قبل أن تموت حقيقة بسنين، رحلت حين أيقنت ألا دور لها في حياتنا، وأنها مجرد صفحة في كتاب ذكرياتنا تماماً كما أنا الآن.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply