من داخل السجن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أرهقه السهر..أضناه الأرق..أتعبه القلق..

ضاق ذرعاً بغرفته الصغيرة..

تجمَّع على بعضه ككومة من لحم...

عيناه محمرتان من طول البكاء..

شفتاه مسودَّتان مما عظ عليهما من فرط الألم والندم...

يكاد سكون الغرفة يطبق على صدره.. لا يقطع طول الصمت القاتل إلا دوي فرقعه الأصابع، وزفرات عاثرة كالبراكين الثائرة...

أطلق بصره في رفاقه في تلك الحجرة التي لا يُطفأ نورها ولا يهدأ حزنها.. فإذا كلٌّ واحد منهم مصفَّد في صمته، مقيّدٌ في حزنه.. قد حبس نفسه في ركنٍ, من أركانها، والتصق بجدرانها.. تعلوه الكآبة، وتغشاه الأحزان، كقطيع الشويهات في الليلة الشاتية

أطلق العنان لخياله... قلَّب صفحات حياته.. نبش ماضيه بأصبع الذكريات..

تذكر أهله وأصحابه.. أقاربه وأحبابه... لم يُغادر منهم أحداً..

وقفوا أمامه بصورهم، وذكرياتهم، وكلماتهم، وضحكاتهم، ومواقفهم.. في لحظة واحدة..

تذكر الربيع.. يختال من حسنه... زهور فواحة.. طيور صدَّاحة.. نسيم الليل.. وهديل الحمام... أناشيد من شعر البادية تنداح كخرير النهر فوق ألسنة الأحبة..

والشتاء البارد، يضمه بأحبته، يزيد من قربهم من بعضهم حيث الدفء والحنان وليل الشتاء الطويل..

والصيف المتوهج تحت أشعة الشمس الدافئة..

فإذا بموج البحر يضرب في أذنيه ممزوجاً بضحكات الرفاق وصخب الصغار..

سقطت صورة الأعياد أمام عينيه.. كألق الفلق..

عصفت به رياح الذكريات.. الثوب الجديد.. اللقاءات الحانية، والمساءات الحالمة، والأقاصيص الجميلة...

وفجأة!

انطفأت مصابيح الحياة، وغارت مياه الأحلام، وانقشعت سحابات الفرح، وأسدل ليل الحزن أستاره.. فالغاسق قد وقب...

حاول أن يتكلَّم.. فتلعثم!

عبرته تنهيدة حارقة كالشهقة الخانقة.. أراد أن يستحثَّهم بالحديث، ويستفزَّهم للكلام...

وكانوا يتمنون أن ينطق.. أن ينبس ببنت شفه.. لتنفجر براكين الهموم.. ففي النفس حاجات وحاجات..

أصبح الكلام في أجوافهم كالدمامل.. والأورام.. ينتظرون من يفجُرُها، لتفيض صدورهم بما فيها... فما للصبح لا يتنفس؟!

قال: لم يعد! وصمت..

أجابوا: - رحمه الله -! - رحمه الله -! وانطلقوا في البكاء كالثكالى..

تحوَّل ذلك الصمت المطبق والهدوء الخانق إلى عويل وشهيق...

هذا ما كانوا ينتظرونه.. من ينكأ الجرح الخانق.... ليفيض نهر الأحزان الدافق بما يخفف عن النفس من لوعاتها.

وقف أحدهم، ليصرخ فيهم بعلو صوته، ودموعه تهراق على وجنتيه: كفى! كفى!

إلى متى يستمر بنا هذا العذاب؟!

كلما خرج منا أحدنا لم يعد إلينا....

لا نسمع عنه إلا في وكالات الأنباء... ومن بيانات وزارة الداخلية...

قال الله - تعالى -: [ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب]

ما أقساه من بيان!

يمر على غيرنا كمرِّ السحاب، لا يشعرون بألمه، أو يحسون بوجعه..

ويعبرنا كعواصف الهجير الخانقة... تلطم قلوبنا الواجفة ونفوسنا الخائفة...

لنموت منه، قبل أن نموت به..

يا له من حزن!

ويا لها من فاجعة!

لحظة شيطانية عصفت بحياتنا فأفقدتنا الحياة.. غاب عنا فيها تفكيرنا، وطاشت عقولنا، فغدونا من القتلة!

انتقمنا لأنفسنا.. والحقيقة الدقيقة... أننا انتقمنا بأنفسنا من أنفسنا... فرحماك يا إلهنا بنا!!

صرخة نادمة.. نسترحم بها من لهم الحق في دمائنا: ارحمونا، فإنا نموت في كلِّ ساعة!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply