تألمت فريال كثيراً عندما علمت بوفاة جارتها أم محمد...هي لم تحزن لفراقها... إذ كانت، - رحمها الله -، تعاني من المرض منذ زمن طويل... ولكنها حزنت على ابنتها فاطمة... صديقتها التي أصبحت بعد وفاة أمها وحيدة من دون أنيس أو صديق...
بقي هذا الموضوع يشغل تفكير فريال طوال يوم الدفن... كان شغلها الشاغل هو مراقبة فاطمة في تحركاتها... في ذهابها وإيابها... تنظر إليها وهي تتقبل التعازي بصبر واحتساب... تشارك الحاضرات في قراءة القرآن والذكر... تدعو لوالدتها وترجو لها الرحمة والمغفرة.
مسكينة فاطمة... ها هي الآن وحيدة من دون زوج أو ولد... وحيدة بعد أن قضت ريعان شبابها ترعى أمها المريضة... وها هي الآن تضطر لتقضي باقي حياتها مع وَحدتها وذكرياتها وآلامها...
كانت دوماً تطلق على صديقتها لقب... شهيدة الواجب.
أذان المؤذن لصلاة المغرب جعل فريال تنتبه إلى أن هذا النهار قد انتهى... وأن عليها أن تغادر إلى بيتها وعائلتها... ولكن كيف تترك صديقتها لوحدها في هذا اليوم... ماذا تفعل؟ فكرت بالاتصال بزوجها لتخبره أنها ستبيت مع فاطمة الليلة... هو لن يمانع... سؤال فاطمة أنجاها من أفكارها:
- فريال... ألن تذهبي إلى بيتك؟ لقد تأخرت على الأولاد...
-لا... لا... سأنام معك اليوم... تعرفين نحن في فصل الصيف... والأولاد في إجازة... لن أتركك لوحدك.
-اذهبي... لا عليك مني... فهذا أمر عليّ أن أعتاد عليه... لا تخافي عليّ.
-حسناً... أبقى قليلاً... ثم أذهب... أنا حزينة جداً لأجلك! لقد ضحيت بوظيفتك وشبابك... بعمرك كله... وها أنت الآن وحيدة...
-لا تحزني يا صديقتي... الموت علينا حق... صحيح أن أمي توفيت وأصبحت لوَحدي... ولكني لست نادمة على الماضي... ما كنت أستطيع أن أفعل غير ما فعلته...
لقد كنت دوماً أحسب حساب هذا اليوم... ولكن لم يكن لديّ أي خيار آخر... يكفيني رضا والدتي عني... فهي طالما قبّلت يديّ عندما كانت تجدني متعبة وتقول لي: أنت أفضل أولادي... صحيح أنهم يعطونني المال ولكنك أنت ضحيت بحياتك من أجلي... فسامحيني يا ابنتي.
- كثيراً ما كنت اتساءل عن تلك القدرة على العطاء التي منحك إياها الله - عز وجل -... وكنت أقول بأنه لو كان لديك أطفال لكنت أفضل أم على الإطلاق...
-لماذا هذا الاستغراب؟ لا... أنا لم افعل سوى الواجب... أي ولد بار بأهله كان سيفعل ما فعلته... أذكر مرة أني قرأت قصة رجل ترك عمله وعائلته وبقي أمام والده المريض... وكان هذا الولد البار يضع يديه ليقضي والده حاجته عليهما...
أنا لم أفعل شيئاً...
- ولكنك لست لوحدك في الميدان... أين إخوتك؟ كلهم تزوجوا وتركوك لوحدك تتحملين هذا الأمر... هذا ظلم.
- لا تحزني يا صديقتي... هذا قدَرَي... إخوتي... لو كانوا هنا فلن يستطيعوا أن يساعدوني... أعرف طباعهم جيداً... حتى من قبل مرض أمي ووفاة أبي، - رحمهما الله -، كنت أنا وحدي الذي أقوم بشؤون الأسرة... أجلب اللوازم والاحتياجات... أرعى أمي وأبي... وحتى مشاكل إخوتي فأنا التي كنت أساعدهم على إيجاد حلول لها... كل هذا في غفلة من الجميع عني وعن همومي... ومع ذلك ما كنت أتذمر... أتعرفين لماذا؟ لأني كنت أحب هذا الفعل... كان يجلب لي السعادة والفرح... لذلك لم أعتبر نفسي يوماً إنسانة مضحّية... إذ إن المضحي هو الذي لا يلقى مقابلاً لما ضحى به... أما أنا فلقد كنت آخذ الأجر مقابل كل عمل أقوم به... كنت آخذ أكثر مما أعطي... وكنت لا أجد المتعة إلا عندما أرى السعادة على وجوه الآخرين... وكم كان يشتد فرحي عندما أعطي شيئاً أحبه... وكم يشتد حزني عندما أشعر بالعجز أمام بعض الاحتياجات التي تفوق طاقتي المادية والمعنوية.
- ما تتحدثين عنه صحيح... فلقد عبّر كثير من الصالحين قديماً وحديثاً عن تلك السعادة التي يجدونها في العطاء... فقال أحد الصحابة عندما سئل عن أحب الأعمال إليه: \" إدخال السرور على المؤمنين، قيل: فما بقي من لذتك؟ فقال إدخال السرور على الإخوان \".
كما قال \"سيد قطب\" متحدثاً عن تجربته في العطاء: \" يصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء لأنهما يعطيان مدلولاً واحداً في عالم الروح، فكل مرة أعطيت لقد أخذت، لست أعني أن أحداً قد أعطى لي شيئاً، إنما أعني أنني أخذت نفس الذي أعطيت لأن فرحتي بما أعطيت لم تكن أقل من فرحة الذين أخذوا \".
- لا أدعي؟ أنني إنسانة صالحة... فأنا ما اعتدت أن أزكي نفسي... ولكن مسؤوليات البيت لم تجعل لي خياراً آخر... أذكر مرة أني حاولت أن أحتج على ما أنا فيه وأرفض الاستمرار في تحمل العبء... عبّرت عن رفضي لهذا الظلم الذي وقع عليّ وحدي... أردت أن أنصرف إلى نفسي وإلى حياتي الخاصة... لماذا الجميع لا يفكر كما أفكر أنا؟ لماذا عليّ أن أتحمل همّ الجميع ولا يتحمل أحد همّي؟ اتخذت قراري بالاعتزال... لن أعبأ بهموم الآخرين بعد اليوم... لم تمرّ فترة وجيزة إلا وساد الاضطراب جو البيت... فلان يتشاجر مع فلان... البيت ينقصه أمور عديدة... أبي وأمي لا أحد يهتم بهما... ينظران إليّ بعتب شديد... ولكني بقيت مصرّة على موقفي... لن أرضخ أو أستسلم... أريد أن ألتفت لنفسي كما يفعل غيري... ولكن هيهات... ليست المطالب بالتمني... لم أستطع أن أستمر بسياسة المقاطعة... فلقد أدركت أني إن فعلت غرقت السفينة... والسفينة، كما تعلمين، لا يوجد لها إلا ربّان واحد...
-ولكن هذا ليس عدلاً... إخوتك أنانيون... أين هم اليوم؟ انصرف كل منهم إلى بيته... وتركوك لوَحدتك وحزنك... هذا ظلم... وأنا أضع اللوم عليك... لو فرضت عليهم أن يساعدوك في تحمل المسؤولية... لو قبلت الزواج بأحد الأشخاص الذين تقدموا لك... لوجدوا أنفسهم ملزمين بمساعدتك... على الأقل... لو تزوجت لكان لديك من الأولاد من يرعاك ويحفظك عند كبرك... أنت اهتممت بأمك ولكنك الآن... إذا أصبت بمرض، لا قدّر الله، فمن سيهتم بك؟
- هذا هو الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس، إذ يعتقدون بأن جزاء الإحسان لا بد أن يأتي من الشخص الذي أحسن إليه... بينما الجزاء مرتبط بالله - عز وجل - وليس مرتبطاً بالأشخاص... فكم من والد أو والدة انتظرا البرّ من احد أبنائهم فجاءهم عن طريق ولد آخر لم يتوقعوا منه البر والصلة، وصدق الله - عز وجل - في قوله: \"آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً \".
أذكر قصة إحدى صديقاتي... كان وضعها مثلي... لم تتزوج وأنفقت مالها كلّه على إخوتها وعائلتها... وحين أقعدها المرض ولم تعد قادرة على العمل بحثت عن عائلتها فلم تجد أمامها أحداً منهم... اللهم إلا قلّة... ولكن الله - عز وجل - قيّض لهذه المرأة أناساً مدّوها بالمال والعطف والمودة حتى فارقت الحياة وليس هذا فحسب... بل بقيت هذه الأخت تعطي الآخرين من المال الذي يصل إليها... فهل كان عطاء هذه المرأة في حياتها خيراً لها أم وبالاً عليها؟ أم يصدق فيها قول الله - عز وجل - في الحديث القدسي: \" أَنفق أُنفق عليك، ويد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار \".
إن هذا الخطأ في التفكير يعود إلى عدم ربط البعض الإحسان بالنية، فالعطاء كما هو معلوم قد يكون لله - تعالى -، كما قد يكون من أجل أهداف أخرى دنيوية مثل الشهرة والجاه وحب الظهور، فإذا كان العطاء من النوع الأخير لم يلق أصحابه مقابلاّ لأعمالهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما إذا أخلصوا النية لله - عز وجل - في عطائهم، تيقنوا عندئذ بأن ما بذلوه وأنفقوه لله، وهو - سبحانه - الغني، إنما هو قرض يضاعفه لهم، ويردّه إليهم - سبحانه - عند الحاجة، قال - تعالى -: \" من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم \"، وقال - عز وجل -: \" وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين \"
ثم... لا تبالغي في تضخيم الموضوع... فهل أنا الإنسانة الوحيدة التي ضحت في حياتها؟ ولنفترض أنني تزوجت وكان لديّ أولاد... فهل ستخلو حياتي من التضحية والعطاء... انظري حولك... كم من امرأة ابتليت بزوج غير صالح ولكنها صبرت على بلائها من أجل سعادة أبنائها... إحداهن قالت لي ذات يوم: ماذا ينفع إن طلقت زوجي وتركت أولادي في قبضته؟ وهل يمكن أن تكون حياتي أسعد وأفضل وأنا بعيدة عنهم؟ لقد اخترت هذا الزوج بملء إرادتي... وعليّ أن أتحمل نتيجة هذا الاختيار... لن أجعل أولادي يتحملون هذا عني.
إن النماذج من العطاء المنتشرة في المجتمع تجعل المسلم يشعر بالفخر والاطمئنان على أن الأمة الإسلامية لا زالت بخير، فالتضحية والعطاء هما اللذان يعطيان للأمة قوتها واستمرارها أمام الأعاصير القادمة من الغرب، فالمشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات الغربية من تفكك وانهيار إنما تعود لغياب مبدأ التضحية والعطاء، وتغلّب الأنانية وحب الذات على النفوس، وما انتشار دور الرعاية الاجتماعية للأيتام والعُجَّز إلا نماذج حيّة عن غَلَبة المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية.
- تعرفين... أنت طوال عمرك إنسانة قوية... حتى في لحظات ضعفك قوية...
- عظيم... هكذا تطمئنين أنني بخير... اذهبي إلى بيتك... لا تخافي عليّ فأنا راضية بقدَري... محتسبةً الأجر على الله - عز وجل -... وأرجو ألا أكون قد قصّرت بواجبي تجاه والدتي... هيا اذهبي...
أقفلت فاطمة الباب بالمزلاج... ودخلت إلى داخل البيت وهي تتمتم بالدعاء وتقول: \" اللهم لا تكِلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله \".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد