كان يتميز بقدرته على التكيف والتعايش رغم كل الظروف غير المواتية، بل إنه تدرب على ذلك في الجبال والكهوف، في الحر وفي القر، جاع أو شبع، كان يؤمن أن من الأفضل للإنسان في ظل الاحتلال أن لا يتعود على عادة.
إلا أنه في هذا الحيز الضيق أيقن تماماً وتجريبياً أن (الحكي مش مثل الشوف) كما كانت تردد أمــه وهـي توصيه بأن لا يقع في أيـدي الجنـودº آه يا أمي! ماذا ستقولين لو تريني أجاور برازي وبولي، وتلك الشمس التي غابت حتى خيل إليه أنها ركبت قطار عدم العودة، وذهبت هناك وراء الزمن إلى اللارجعة، حيث تركته يصادق التقرحات والجرب وأوجاع السياط وألم الوحدة، ما أفظع أن تختلط حدود الزمنº فلا ليل ولا نهار، ولا صباح ولا مساء، حتى غرفة المحقق ليس فيها ساعة.. إنها حياة الثعابين تحت الأرض.
بوابة حديدية ضخمة تحجزه عن العالم بل عشرات البوابات التي تخفي خلفها عشرات المعتقلين.. لا هواء ولا بشر، لا ضوء ولا ماء إلا القطرات التي تقدم مرة كل يوم بصورة مسرحية مقرفة خانقة عبر نافذة الزنزانة، حيث يتدلى حذاء بلاستيكي يحوي القليل من الماء الذي يأنف أن يشربه ضفدع، لقد برعوا في فن التعذيب لدرجة الإبداع، ويزيد جنونهم إصرار المعتقلين على المقاومة، حيث تبرز عظمة الإنسان وقواه الخارقة إذا ما استثيرت في هذه الظروف الحالكة، كاد أن يسترسل متذكراً كتاب «الإنسان وقواه الخفية» لكولن ويلسونº لولا أن قطع أنينه الخافت حركة نشطة داخل ممر الزنازين... أقدام ثقيلة تدوس الأرض كأنها قادمة من وراء الزمن تحدث صدى رهيباً كأنه يصطدم ويرتد من جدران الكواكب، وتلك السياط التي تهوي على الظهور محدثة ارتطامات بالأرض يخالجها أنين متهدج... تذكر بغلة أبي علي بائع الحليب.
(حِي ولي).... وهي لا تئن ولا تشتكي... كان دائماً يراها ويتأملها ويرى دموعها الصامتة كأنها تمثل الأغلبية الصامتة التي لا حول لها ولا قوة... طالما حدق فيها علَّه يجد لغة للحوار.... أما الآن فإن هؤلاء الأنذال قد منحوه شعور «أم صابر»، حتى تمنى أنه مكانها، إنها تأكل وتشرب وترى الشمس وتستنشق الهواء يا ليتني أم.... أستغفر الله {وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
(أنتي ابن كهبة، كل أرب شرموت)!!... اتلعي.
دوى صوت أقفال الباب مزمجرة كأنها وحش كاسر، واختلطت بصوت السجان.... فرحل مع الصدى، وتذكر ليلة أن هاجم المعسكر هو وصديقاه جمعة وحامد اللذان انتقلا إلى الدرجات العلا.
كانا أفضل منه فقدر الله لهما الراحة الأزلية وحماهما من دخول هذه المزبلة....
لعل الله قدر عليه أن يتطهر أكثر من أرجاس اللهو أيام الجامعة....
قومي وقف ابن كهبة.
وأخذت السياط تنزل على ظهره لكنه عصي على الانكسار، لقد قهرهم في المعسكر وأراهم الموت صليات من فوهة بركانه الآلي، لقد أمطرهم بوابل قنابله التي حولت ليلهم إلى جهنم، وحولت سكرهم إلى بالغ الحذر والوجل، إنهم يخشون نظراته الكاسرة رغم وجوده دون النزلاء تحت الحراسة المشددة... إنهم يكرهون ليلة نوبتهم إذا ما كانت عليه، إنهم يتذكرون صوته المزمجر القادم من العتمة...
أنت احمِ ظهري... صرخ عداس... وتقدم كالسيل العرم جارفاً يشعل طوفان جهنم في ثكناتهم.... لا يبقي ولا يذر... اقشعرت من هول إقدامه كؤوسهم وسيقانهم وتلحفوا بمومساتهم.... الله أكبر....
انفتل جمعة... برشاشه يبذر الموت رصاصاً في مآقيهم، ويبث الرعب بفره وكره...
(يا نابلس يا ثائرة....
خلي المعاصر دائرة....
صبي على المستوطنات شواظ نار هادرة.....)
انضم إليه حامد بعد أن استكمل زرع عبواته الناسفة حول مستودع الذخيرة والوقود، حيث أخذت تنفجر تباعاً محدثة دماراً شاملاً.... لقد ظنوا أن القيامة قامت... وأنهم على أعتاب جهنم، اشتركت الهليوكوبتر في المعركة فعبقت رائحة الشهادة، وعلت ترانيم الموت.... من لا يعرفه منهم لا بد أنه سمع به.
دفعة قوية جعلته يترنح في الساحة الكبرى للمعتقل.. إنه في لقاء حار مع الشمس... أين أنت؟
خلتك لا تعودين... وهي ساطعة صامتة... سنة كاملة مرت على اعتقاله كأنها عمر الأرض، صوت جبان يدعوهم للاصطفاف استعداداً لتحية العلم، ومن بعده تبدأ مراسم الإعدامات، فجثا على ركبتيه وتبعه عوزي بصوته المخنوق من أثر الدخان الذي ينفثه من أنفه ومن فمه، خيل إليه أنه يخرج من كل ثقوبه..... مطا سوطه كثعبان أسود فلوحه بالهواء وهوى به على ظهره وهو يرغي ويتوعد ويهدد بالعربية تارة وبالعبرية تارة وبالإنجليزية أخرى...
فشرد خلف جمعة وحامد. نعم لقد تذكر أنه رآهم البارحة وهم ينتظرونه على الغداء... نسي العلم والسوط والجلاد.. وتعلق بصره بالسماء.... أوقفوه عنوة... أراد أن يموت... بل تمنى أن يستشهد.... قابله عوزي... فك السلاسل من يديه ورجليه.... أحس بالحرية.. عبقت رائحة محيرة استنشق عبيرها وحده.. استجمع قوته.. حفز خلاياه توثب.. ضربة واحدة تحت الحزام ـ كما تعلم من مدرب الكاراتيه ـ وإذا نجحت فقد تنقل عوزي إلى عالم الآخرة هو وسوطه..... وقد تنقله إلى طاولة جمعة وحامد.... زم شفتيه.. أغلق قبضتيه كأنه أمام المدرب الذي يعرف سطوته لو أخفق، ثم تفجرت رجله اليسرى مع صرخة كأنها خرجت من بئر.
سددها أسفل البطن... كأنه يكمل عملية اقتحام المعسكر...
لملمت روحه أشلاءها بفرح وتركت جسده يتلوى تحت صليات البنادق.... والتحقت بالحبيبين... رمقت عوزي.. خيل إليه أنه ركب زورق جهنم.. تفل.... رفع ذراع روحه ملوحاً لإخوة الثورة: {وَلا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَموَاتًا بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ} [آل عمران: 169].
تعالت الأصوات والأنفاس.. شق زامور السجن جمال صباح النقب الصحراوي، وأسرعت فرقة إسعاف السجن لحمل الجثتين، بينما علت الله أكبر، ودوى صوت الغدر والرصاص.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد