في الدلالة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

سأعرض في هذا الفصل لجملة مواد من القرآن أخذتها لخصوصيةٍ, في استعمالها على نحوٍ, لم يهدنا الاستقراء إلى ضبطه في النصوص الأخرى.

 

وليست هذه الألفاظ التي عِدَّتُها دون العشرة هي كل ما في كتاب الله من هذه البدائع ذوات الأسرار اللطيفة العالية، التي لا يدركها القارئ بيسر. إن هذه الألفاظ التي أشرنا إلى صفاتها الخاصة، كثيرة في كتاب الله، ولكني اجتزأت من هذا المعين الثر بشيء اتخذه نماذج لهذه اللغة القويمة، التي أفرغت فيها الذات الإلهية شيئاً من عظمتها، وقدرتها الخارقة. وها هي على النحو الآتي:

 

1- الرؤيا والحلم:

أقول: عرضت الأستاذة الدكتورة بنت الشاطئ إلى هاتين المادتين في كتابها (الإعجاز البياني للقرآن) فاستقرت الآيات التي وردت فيها لفظة (الأحلام) وهي ثلاث آيات. ويشهد سياقها بأنها الأضغاث المشوشة والهواجس المختلطة. وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع، دلالة على الخلط والتشويش لا يتميز فيه حلم عن آخر.

 

وأنا اجتزئ بآية من هذه الآيات الثلاث وهي قوله - تعالى -: (بل قالوا أضغاث أحلامٍ, بل افتراه، بل هو شاعر، فليأتنا بآيةٍ, كما أرسل الأولون) (الأنبياء: 5).

 

أما الرؤيا فجاءت في القرآن سبع مرات، كلها في (الرؤيا) الصادقة، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد، دلالة على التمييز والوضوح والصفاء.

 

ومن بين المرات السبع، جاءت الرؤيا خمس مرات للأنبياء، فهي من صدق الإلهام القريب من الوحي. وأجتزئ من هذه الآيات السبع بواحدة هي رؤيا إبراهيم - عليه السلام -: (وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين)(الصافات: 104-105)

 

أقول إن هذا الذي جاء في القرآن في مادة (الرؤيا) ودلالتها على الصدق في الآيات السبع. في حين أن (الأحلام) لم ترد إلا في الأضغاث المشوشة المختلطة الكاذبة، مما اهتدت إليه الأستاذة بنت الشاطئ - خصوصية معنوية اختصت بها لغة التنزيل العزيز، يحسن بنا أن نقف عندها لنرى أن العناية الإلهية أفرغت في هذا الكتاب عربية قويمة عالية تتصف بالأصالة والحسن.

 

2 - آنس:

وهذه كلمة أخرى أقتبسها من (الكتاب) نفسه.

 

جاء في قوله - تعالى -: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى)(طه: 10).

 

وقد ورد هذا الفعل في خمس آيات أخرى موزعة في سور القرآن الكريم.

 

وفي معجمات العربية أن: آنس الشيء أبصره، والصوت سمعه، واستأنس: استأذن.

 

تقول الأستاذة بنت الشاطئ: نستقري الاستعمال القرآني، فيعطينا حس العربية المرهف، لا تقول (آنس) في الشيء تبصره أو تسمعه، دون أن تجد فيه أنساً. فإذا قال العربي الأصيل: آنست، فقد رأى أو سمع ما يؤنسه.

 

وليس الإيناس في الآيات الخمس مجرد إبصار لظواهر الرشد المادية الحسية في سن البلوغ، ولكنه الطمأنينة المؤنسة بالابتلاء والامتحان، إلى أنهم قد رشدوا حقاً.

 

وكذلك (الاستئناس)في قوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)(النور: 27).

 

وليس الاستئناس مجرد استئذان كما وهم الذين فسروه بذلك، وإنما هو حس الإيناس لأهل البيت قبل دخوله.

 

أقول: وهذا الذي اهتدت إليه بنت الشاطئ من بديع لغة القرآن في إفراغ الخصوصية المعنوية. وأريد أن أضيف شيئاً يتصل بهذه المادة الغنية فأقول: إن (الأنس)مصدر معروف، منه جاء الفعل (آنس) كما أشرنا وأشارت الباحثة الفاضلة. غير أن أصل (الأنس) في العربية وفي غيرها من اللغات التي تتصل بها بأرومة النسب، هو (الإنس) أو (الإنسان) أي الرجل أو المخلوق الذي يتصل بغيره من الأناسي. ومن (الإنس) أو (الإنسان) جاء المصدر وهو اسم معنى ثم توزع في هذه الخصوصيات الدلالية. ومثل هذا أو شيء منه، حصل في تلك اللغات التي أشرنا إليها.

 

3 - بشــر:

وردت كلمة (بشر) في لغة التنزيل سبعاً وثلاثين مرة في آيات مختلفات. وقد وقفت على هذه الآيات فوجدت (البشر) فيها هو المخلوق الضعيف أزاء الخالق القوي الكبير:

 

(بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)(المائدة: 18).

 

ثم إن (البشر) متساوون في أنهم ضعاف أمام الخالق، وأنهم هم والأنبياء سواء من حيث أنهم جميعاً خلق الله، سوى أن الأنبياء والرسل قد أوحي إليهم فكلفوا ببينات ورسالات.

 

 قال - تعالى -: (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه)(المؤمنون: 33).

 

قلت: إن النبي صاحب بينة أو رسالة وإنه ممن اصطفاه الله لأمر من الأمور - جلت عظمته.، وقد أدرك الناس هذه الحقيقة.

 

قال - تعالى -: (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين)(الشعراء: 154).

 

وقال - تعالى - أيضاً:

 

(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد)(الكهف: 110).

 

فالرسول والنبي من البشر خص بالوحي والرسالة والبينة. وقد فهم الخلق أن الأنبياء منهم: (فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله)(التغابن: 6).

 

إن هذا (البشر) من هذه الأرض، خلق منها، وعليها درج، وإليها يعود:

 

(ومن آياته أن خلقكم من ترابٍ, ثم إذا أنتم بشر تنتشرون)(الروم: 20)

 

(وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصالٍ, من حمأٍ,.. )(الحجر: 28)

 

أقول: وفي هذا القدر من الآيات الكريمة كفاية أخلص منها لأقرر أن (البشر) في (القرآن)، من الكلم القرآني، فلم أجده في الشعر الجاهلي مما بين أيدينا من نصوصه الوافرة.

 

ثم إني أحس أن (البشر) يعني في أول إطلاقه (الهالك أو الفاني)، الذي لم يرزق البقاء والخلود، بالنظر إلى الذات الإلهية العلية الباقية الخالدة.

 

ويحسن بي أن أرجع إلى أصل هذه المادة فأجد (البشرة) بفتحتين وهي أعلى جلدة الرأس والوجه والجسد من الإنسان وهي التي عليها الشعر، وهذا يعني أنها ظاهر الجلد.

 

إن هذه المادة التي تصرفت بها العربية، فجاء الفعل (بَشَّر)، أي انطلقت وانبسطت بشرته إعراباً عن الارتياح، ومنها البشارة والتباشير، وبشرت الشجرة وغيرها كثير. ألا ترى أن هذه المادة تعني أن (البشرة) شيء فان، وأنه لا بد من هرم، فعجز، فموت، ومن هنا سمي بها المخلوق الفاني، أي الإنسان، فكان (بشراً) أي هالكاً وفانياً.

 

وأكتفي بهذا القدر من النظر في هذه المادة القرآنية التي أعانني كلام الله جلت عظمته على فهمها وإدراكها، عصمني الله من الخطأ والسهو.

 

4 - بصر وسـمع:

استعملت كلمة (البصر) مصدراً ثماني مرات في ثماني آيات منها: (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر)(النحل: 77)، وكلها بصيغة المفرد.

 

ولكننا حيثما وجدنا (البصر) مع (السمع) في آيات أخرى، جمع (البصر) على أبصار) وبقي (السمع) مفرداً وذلك في أربع آيات منها: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)(النحل: 78)

 

وقد شذت واحدة عن هذا النمط هي: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ً)(الإسراء: 36)

 

على أننا لا نجد (السمع) مجموعاً على (أسماع) وهي تجاور (الأبصار). وهذا بعض خصوصيات هذه اللغة الرفيعة.

 

5 - عــين:

وردت (العين) في عشر آيات مجموعة على (عيون) وكلها تعني (عيون الماء) في الكلام على الجنة ونعيمها، منها: (إن المتقين في جناتٍ, وعيون ٍ,)(الحجر: 45).

 

وقد ورد في اثنتين وعشرين آية مجموعة على (أعين) للدلالة على (الأعين) المبصرة، وهي أصل المعنى في هذه الكلمة، ومنها توزعت مجازاً واتساعاً، ومن هذه الآيات: (ولهم أعينُ لا يبصرون بها)(الأعراف: 179).

 

أقول: إن هذا التوزيع في اختيار أبنية الجمع، لاختلاف الدلالة، شيء من خصائص هذه اللغة الكريمة، مما لا نعرفه في النصوص الأخرى.

 

6 - غيث:

وردت الغيث في ثلاث آيات منها: (وهو الذي يُنزلُ الغيثَ من بعد ما قنطُوا وينشر رحمته)(الشورى: 28) كلها يشير إلى أن المراد الرحمة والخير، وهذا يعني أن (المطر) قد استعمل استعمالاً آخر في الشر والعذاب كما سنرى.

 

ومن (الغيث) هذا، جاء الفعل غاث وأغاث واستغاث والمصدر الغوث، وكلها يعني الرحمة والمساعدة. وهذا بعض خصائص لغة القرآن في اختيار لفظٍ, دون آخر.

 

7 - قـصـد:

استعملت مادة (القصد) الثلاثية ثلاث مرات، في ثلاث آيات، فعل أمر في واحدة (اقصد)، ومصدراً هو (قصد)، واسم فاعل هو (قاصد)، وهذه الثالثة هي موضوعنا في الكلام عليها:

 

(لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة)(التوبة: 42)

 

أقول: ذكر الزمخشري في (الكشاف)، أن السفر (القاصد)، هو الوسط المقارب، وجاء في (لسان العرب): وسفر قاصد، هو السهل القريب.

 

أقول: كان الدكتور مصطفى جواد يشير إلى خطأ استعمال المعربين كلمة (مباشر) في قولهم: (بصورة مباشرة)، وكان يرى أن يقال: بصورة قاصدة. وعندي أنه توسع في فهم (القصد) للوصول إلى هذا المعنى في اللغة المعاصرة.

 

8 - مـطـر:

وردت كلمة (مطر) وهي مصدر، في سبع آيات، كما وردت فعلاً في سبع آيات أخرى، وفي آية واحدة، جاءت اسم فاعل (ممطر) من الرباعي. وكلها ينصرف إلى العذاب والنذر بالشر ومنها:

 

(وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين)(الشعراء: 173)

 

(وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) (الحجر: 74)

 

قلت: لقد فرقت لغة التنزيل العزيز بين المطر والغيث، فكان المطر عذاباً وشراً ونذراً بالويل والثبور، وكان الغيث رحمة وخيراً ونعماً.

 

هذه جملة مواد آثرت أن أضعها نماذج لهذه اللغة الكريمة، وكيف انصرفت لدلالات تملك من خصوصية المعنى، ما لم نره في غيرها من النصوص العربية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply