تجربة ذاتية تعكس رؤيا جماعية
هل النثر الفني (الأدبي) في أزمة؟
لقد كان حظ النثر في عصرنا غير حظ الشعر، فقد ازدهر النثر بأنواعه الأدبية والعلمية، بل كان حظ أنواع منه أكثر ازدهاراً من أنواع أخرى، فالنثر العلمي والإعلامي نشطا نشاطاً ملحوظاً لا يكاد يتوقف، ومثل ذلك النثر الدرامي: من قصة ومسرحية، والقصة فيها الروايـة والأقصوصة وما بينهما وغيرهما. ويمكن أن نرسم خطاً بيانياً يوجز درجات الازدهار لكل نوع من هذه الأنواع، فكلما كان النص أقرب إلى الأسلوب العلمي كان ازدهاره أكبر، وبالعكس كلما كان أقرب إلى الأسلوب الشعري كان ازدهاره أقل، وهكذا.
هذا المشهد الثقافي له أسبابه ودلالاته، لكننا لن نبسط القول فيها، وسنكتفي بالإشارة إلى أن التعبير عن الأحاسيس والمشاعر في هذا العصر ليس على ما يرام، بل يعبر ذلك عن أزمة روحية حيث ضجيج الآلة، وحمى المختبرات، والقفزات العلمية، والتنافس على ذلك وفيه، ضيّق مساحة العاطفة والأحاسيس والمشاعر.
فن المقالة نوع أو لون من ألوان الكتابة النثرية، ينطبق عليه ما ينطبق على بقية الأنواع الأدبية، فمن أنواع المقالة نجد المقالة الأدبية لا سيما الخاطرة تضاءلت مساحتها، إذا قورنت بالمساحات التي تحتلها المقالة الاجتماعية أو السياسية أو الإعلامية فضلاً عن المقالة العلمية، لأن الخاطرة أكثر الألوان تعبيراً عن الأحاسيس والمشاعر. هذه ظاهرة وظاهرة أخرى في الخاطرة، أنها أفرزت لوناً من الكتابة الأدبية أطلق عليه بعضهم اسم \"قصيدة النثر\". وعلى الرغم من الاحتفاء بهذا اللون الذي لم يكن جديداً كل الجدة فقد سبق إليه أعلام النثر الحديث كالرافعي وميّ زيادة، فإنه لا يخرج عن دائرة الأحكام المصيرية التي آل إليها فن الكتابة في عصرنا.
\"في انتظار المطر\" أول نتاج للكاتبة السيدة \"رفاه أحمد المهندس\" يعدّ مؤشراً في حقل المقالة الأدبية لا سيما الخاطرة بالذات.
ثنتان وعشرون خاطرة قصيرة لكنها حافلة بالموضوعات والأغراض الاجتماعية والنسوية والذاتية، كتبت كلها بضمير المتكلم. الخواطر الذاتية الصرف لا تتعدى اثنتين، حتى الخواطر النسوية التي بلغت النصف (إحدى عشرة) كانت موزعة على موضوعات تربوية: (5 مقالات) واجتماعية: (4 مقالات) وعامة أو متراوحة بين الاجتماعية والتربوية: (اثنتان).
على أن السرد بضمير المتكلم لم يكن نوعاً من الاستهواء أو السادية أو النجاوى السائبة، بل لا تكاد تحس بهذا الظل الشخصي إلا في ختام المقالة الخاطرة أحياناً. انظر خاتمة مقالتين متتابعتين بعنوان: (امرأة اليوم موجودة أم موءودة؟) تقول: (فهذا السبيل قد أُنير بهن، فمتى يكون عبورنا؟ ومتى يكون إليهن المسير؟ ومتى نؤذن عن الحاضر المستكين، بالعودة الراشدة، والرأي المستبين؟ فلعل ذلك يكون قريباً.. وحتى لا نترك صفحات تاريخنا.. مهجورة الشذى والعبير). لعلك لاحظت معي استخدام ضمير المتكلم بصيغة الجمع، وهذا أخف وطأة من ضمير الفرد، وهو أقرب إلى الموضوعية من الذاتية.
ومن الملاحظات الإضافية براعة العنوان الذي جاء غير تقريري نهائي، بل فيه سؤال موحٍ, مُحرِّض مُشّوِق، دعك من الجناس الرشيق. حتى هذا الختام لم يخل من رشاقة التوقيع الموسيقي والإيحاء التصويري، والسرد التحريضي المحبب. فاستخدام صيغة السؤال الإنشائية بذاتها وبتكرارها: تحضيض وتحريض، واستخدام النور لدور أعلام النساء في الطريق، وتصوير المسافة بيننا وبينهن بجسر يُعبر، وتخييل الحاضر بإنسان أو مخلوق يستكين، وإضفاء الرشد على العودة نفسها، مثل ذلك الرأي المستبين، ثم إضفاء العبير والشذى على صفحات التاريخ.. كل ذلك صور جميلة لطيفة بتلاؤمها، لا تكاد تلحظ الفرق بين الحقيقة والمجاز أحياناً. ثم تجد السجع وشبه السجع في ختام الجمل المناسبة الطول بين (المسير المستكين المستبين العبير)، هي لم تقصد أو تتعمد تقارب سجعتي (المستكين المستبين) لقربهما بعضاً من بعض، ولا تعانق السجعتين: (المسير العبير) على تباعدهما نسبياً. إنها الصنعة المطبوعة، الناشئة عن تمكن في الكتابة وعن حس فني رفيع صقيل. هذا غير الترادف وحسن اختيار الألفاظ المناسبة معنى ولفظاً هل يذكرك ذلك بمدرسة الجاحظ ومصطفى صادق الرافعي وأبي حيان التوحيدي؟!
إن مطالعة هذه المقالات الخواطر لتقول بصراحة: إن البلاغة العربية لا تجافي أي موضوع اجتماعي أو نسوي أو علمي تتعامل معه، بل كلما ارتفع قدم المبدع في ميدان البلاغة العربية ازدادت قدرته على العطاء والانسجام مع موضوعه وقرائه وزمانه. هذا سرّ من أسرار العربية، يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله!
إن المجال لا يتيح للاستشهاد بأكثر من مقطع أو عينة، وهذه دعوة لمطالعة النصوص في مواضعها، لأن لكل نص شخصيته الكاملة المتكاملة: من بدء وعرض وختام، أو انطلاق من الجزء الشخصي إلى (الكل) العام: في مقالة (وقفة.. ونظرات) نظرت الكاتبة في المرآة الصقيلة فرأت ما تريد، فتمنت أن يأتي يوم ما فتريها المرأة ما لا تريد من عيوب النفس، ومواطن القبح كما تبصرها بمواطن الجمال. وفي مقالة (الأمومة المجزوءة..) أحست الكاتبة بالحاسة السادسة (وهي اسم للحس بالمسؤولية هنا) أن ابنها الرضيع على وشك السقوط من سريره فوصلت إليه في الوقت المناسب، فزال أرقها، واستطاعت الإخلاد إلى النوم، فانتقلت إلى وصف تبلّد الإحساس العام بأنات المحرومين، وزفرات المشردين: (وعشنا نقنّن الآلام والعواطف إلا لما يخص كلاً منا بذاته). هكذا يجيء ضمير المتكلم للنقد لا للفخر والتبجح. لا أذيع سراً إذا قلت: إن الكتابة تعمل في ميدان الخدمة الاجتماعية النسوية بمبادرة شخصية.
إن بنية المقالة على الانطلاق من التجربة الشخصية (الجزئية) إلى المسألة الجماعية (الكلية) ليست نقلة فكرية ساذجة، ولا تعميماً مسطحاً، بل هي تجربة حيوية ناضجة من ذات خبيرة متمرسة، ثم هي طريقة في التربية والكتابة تلفت النظر، وتسهل العرض وتمتن الأداء. مثلاً تأخرت زميلتها عن موعد لها ساعتين من الزمن، ولم تتصل أو تعتذر إلا بعد مضي خمس ساعات، فاعتذرت لها الكاتبة عن قبول تحديد أي موعد آخر معها: \"اليوم تأخرت في السوق.. وغداً عند الخياطة.. والله يحميك عندما تتأخرين في أمر جاد لازم\" فرتبت على الحادثة فهماً لمشكلة عامة. قالت: \"وقديماً قالوا: الوعد كالرعد، والوفاء كالمطر.. فما لها أمسكت السماء عنا.. نرى البوارق تلتمع ضياء.. ونسمع الرعود تزمجر واعدة.. ثم تُجدب أرضنا.. وتتجمد قطيرات المطر.. \".
إن الترادف في الألفاظ والتوازن في الجمل، وطلب التوقيع الموسيقي بالسمع، أو توضيح الفكرة بتقليب النظر والعبارات أمور تغري الكاتب بالإطالة والإسهاب. على الرغم من ذلك كله تراوحَ طول المقالة الخاطرة بين صفحتين وخمس صفحات من القطع الصغير، مما يدل على قدرة الكاتبة وامتلاكها لناصية التعبير من جهة، وعلى نضج تجربتها في التفكير والتعبير على حد سواء من جهة ثانية. زد على ذلك إدراكها لطبيعة القراء في عصرنا، عصر الانشغال عن القراءة بالتلفزيون والأقنية الفضائية والانترنت، والميل إلى أدب \"الساندويتش\" إن كان ثمة ميل. من براعة النّحات أن يجعل الحجر الصلب يتكلم، والرسام يجعل الألوان تغرد، والأديب أو الشاعر يتجاوز القيود قيود الوزن والذوق والتحديات بأنواعها، تجاوُزَ العالم بها الخبير بأدواته في التعامل معها إلى إبداع ينسينا تلك القيود والضرورات.. هكذا جاءت استجابة الكاتبة للاقتصاد في طول الخاطرة.
من أسرار الإصلاح الاجتماعي أو التربوي الإقناع، ومن أسرار الإقناع القدوة أو البدء بالذات، ذات الفرد، أو ذات الجماعة التي نحن منها أو ننتمي إليها. سبق أن أشرنا إلى مقالة ذاتية، نظرت فيها الكاتبة إلى المرآة الصقيلة. مقالتها الذاتية الثانية بعنوان \"بحث عن الذات\" هكذا بصراحة.. هي آخر مقالة في الكتاب كالتوقيع على ختام الرسالة، فإذا هي مقالة في النقد الذاتي أولاً. تقول: \"ووجدتني أخيراً في محطات الجواب.. ها أنا الذرة من مجموع منثور.. قد أثبتٌّ في لحظات أن جيشنا قد استرخى طويلاً وراء أسوارٍ, صنعتها أنفاسه.. \".
هل نحن نشهد اليوم ظهور جيل من الكاتبات تقول غير التي كانت تقول: \"أعلنت عليك الحب\".
نحن.. \"في انتظار المطر\".
ــــــــــــ
(1) في انتظار المطر-رفاه أحمد المهندس دار ابن حزم-بيروت 1420هـ: 1999م-ط2.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد