العودة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ولما طبَعتُ بقدمىَّ علامات حمراء على أرضها.. تـَبَرَّدَت روحي.. عانقتُ شجرة الزيتون الجافة.. سألتُ التراب الحبيب الذي ظل يرنو إلىّ طوال أعوام:

\" أما زلتَ يا ترابَ الوطن تذكرُهُ؟ \"

 

حملت الهول في قلبي..

في ذاك النهار المشؤوم قالوا: صديقك مات!

رأيته مطروحًا.. جريت خلف جثمانه المحمول.. وعويل الأحبة ذئاب تنهش طفولتي المذبوحة.. أرقدوه أمامي في القبر والدماء تضيف مزيدًا من اللون الأحمر للعلم الذي يلف جسده..

\" سأجلس بمفردي في مقعد الدراسة.. فمحمد قد مات! \"

تقرفصت أبكي في ظل زيتونة..

\" محمد لن يناديني لنطير الطيارة الورقية التي صنعناها معًا.. لن يحل لي مسائل الحساب الصعبة.. لن نبكر معًا في يوم العيد لنصلي بملابسنا الجديدة في المسجد العتيق ثم ننطلق لننهل البهجة \"

تساقطت أوراق الزيتون عليّ.. طقطقت فروع الشجرة الخضراء ثم تكسرت.. تشقق ساقها وأنـكـَرَت نفسها.. تابَعتُ انتحارَها.. وقررتُ الصمود!

هنا.. لابد وأن ينطبع قدي.. هذا هو صك الملكية.. وسينطبع!

 

====

في اليوم التالي جلست وحدي في مقعد الدراسة.. وفى كل عام صرت أجلس وحدي..

وأحفر على النضد اسمه..

\" محمد.. صديقي \"!

 

===

خَطـوُنـَا الهيِّن على التراب الحبيب يعذبني.. أريد أن أطأه كما أحب.. أريد أن أدبدب.. أن أهرول.. أن أعفر.. لكنه مسروق مني.. أريد أن أرى آثار قدميّ.. لكنهما لا تكادان تستقران عليه.. وإنما هو المس.. مجرد المس!

 

===

حين حطت قدماي وطبعت العلامات الحمراء.. صرختُ في شجيرات الزيتون:

\" أنبتي من جديدٍ, إن أردتِ.. فلم يعد هناك من يغرر بك \"

وسرعان ما انبثقت براعم الخضرة.. وقررتُ أن أنجب للأرض أحبابًا جددًا.. يطؤونها بثبات ولا يرهبون!

 

====

على كراساتي كتبت اسمي (....).. وصفتي:

\" صديقُ محمدٍ, \"!

ووَشَمتُ في حنايا القلب صورته.. يصرخ.. ينتفض.. يحتمي بأبيه الذي رشقه العجز بسهم أرداه حزينًا مكلومًا!

لحظتها -وأنا طفل- قررت ألا أصبح أبا لأطفال مسروقي الوطن! يحييهم النمرود ويميتهم! ونبشتُ تربة الذاكرة.. أستخرج جيف الملاعين.. أستنطقها لماذا.. ؟ وكيف.. ؟ فما وجدت إلا ألسنة جهنم تنبعث من كل تربة تحتويهم.. حدثتني الألسنة المتلظية:

\" هذه نهايتهم \"

فتحنا فجوات اللظى.. اندلعت النار المكبوتة.. امتدت أذرعها الحارقة تجذبهم نحو بؤر متأججة..

طبعنا بأقدامنا علامات حمراء.. تبردت أرواحنا.. دنونا من حدائقها التي كانت قد عقمت عن إنبات شجيرات الزيتون.. سألـنـَا ترابَها الذي ظل يرقبنا أعوامًا طوال:

\" أما زلت يا تراب الوطن تذكر أحبابك؟ \"

وقررنا أن نعيش!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply