من ابن قتيبة إلى من يهمه الأمر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

في لحظة تفكير مفعمة بالتأمٌّل سافر بي خيالي إلى ذلك البستان الجميل الذي تقف دونه مئات السنوات حيث تبدأ ملامح نضارته وبهائه وجمال أشجاره وأزهاره من وراء حائط زمني له بوَّابة كبيرة محكمة الإغلاق، نُقش عليها عبارة جميلة الرسم واضحة الحروف، هي «أدب الكاتب لابن قتيبة - رحمه الله -» وتحت هذه العبارة برزت أرقام ثلاثة هي «276هـ» حينما تأمَّلتُها ترحَّمتُ على ابن قتيبة لأنها تفيد تاريخ العام الذي مات فيه، وما كدت أكمل عبارات ترحمي عليه ودعائي له بالمغفرة حتى رأيت تلك البوَّابة الكبيرة تنفرج بمصراعيها المنقوشين بأجمل النقوش عن حدائق ذلك البستان الجميل، حيث برزت أمامي شجرة بديعة الخضرة، ظاهرة الرٌّواء، دانية الثمار، وقد نقشت على جذعها الكبير عبارة «أدب الكاتب لابن قتيبة»، وإني لفي لحظة دهشتي بجمال ما رأيت وجلاله، فما راعني إلا صفحة بيضاء نقية، قد انتظمت فيها سطور مكتوبة بخط بديع، ظهرت أمامي في صورة رائعة من التناسق والانسجام، لا يختل فيها حرف عن موقعه، ولا كلمة عن مجالها، ولا يميل فيها سطر عن خطِّه المستقيم، فآثرت أن أنقلها بصورتها ورونقها إلى القارئ الكريم، رسالةً حيَّة من ابن قتيبة إلى كلِّ ذي معرفةٍ, وثقافةٍ, في عصر الشبكات العنكبوتية، والقنوات الفضائية، والإثارات الصحفية، والتجاوزات الفكرية والأدبيَّة، فإلى تلك الرسالة مع التحية:

«أما بعد حمد الله بجميع محامده، والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة على رسوله المصطفى وآله، فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولأهله كارهين، أما الناشئ منهم فراغبٌ عن التعليم، والشَّادي تارك للازدياد، والمتأدِّب في عنفوان الشباب ناسٍ, أو متناسٍ,، فالعلماء مغمورون، وبكَرَّةِ الجهل مقموعون، حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البر، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عاراً على أهله، والفضلُ نقصاً، وأموال الملوك وقفاً على شهوات النفوس، والجاهُ الذي هو زكاة الشرف يباع بين الخَلَقِ البالي، وسقطت همم النفوس، فأبعَدُ غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسَن الخط، قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أُبيَّاتاً في مدح قَينَةٍ,، أو وصف كأس، وأرفَعُ درجات لطيفنا أن يطالع شيئاً من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء، وحَدِّ المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن، وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب وهو لا يَدري مَن نقله، قد رضي عِوَضاً من الله ومما عنده بأن يقال «فلانٌ لطيف» و« فلان دقيق النظر»، يذهب إلى أنَّ لُطفَ النظر قد أخرجه عن جملة الناس، وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم الرَّعاعَ، والغُثاءَ، والغُثرَ، وهو لعمر الله بهذه الصفات أحرى وهي به أَليَق، لأنّه جهل وقد ظنَّ أنه قد علم، فهاتان جهالتان، ولو أنَّ هذا المعجَبَ بنفسه، الزَّاريَ على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياه الله بنور الهدى وثَلج اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب، وفي أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فَنَصَبَ لذلك وعاداه، وانحرف عنه إلى علمٍ, قد سلَّمه له ولأمثاله المسلمون، وقلَّ فيه المتناظرون، له ترجمةٌ تَرُوق بلا معنى، واسمٌ يَهُولُ بلا جسم، فإذا سمع الغُمرُ والحَدَثُ الغِرٌّ قولَه: الكونَ والفسادَ، وسَمعَ الكيان، والأسماءَ المفردَة، والكيفية والكميّةَ والزمانَ والدليلَ، والأخبارَ المؤلَّفةَ، رَاعَه ما سمع، وظنَّ أنَّ تحت هذه الألقاب كلَّ فائدة، وكلَّ لطيفة، فإذا طالعها لم يخرج منها بطائل».

هنا لاحت لي ثقافة ابن قتيبة كما يلوح الكوكب الدٌّريّ في أديم ليلةٍ, ليلاء من ليالي الشتاء، كما ظهرت لي بوارح وسوانح من كلماتٍ, ومصطلحاتٍ, تشيع بين المستغربين من أبناء المسلمين هذا العصر، يتعالم بها الجاهل، ويتثاقف بها اللاَّهي، ويتظاهر بها المشغول بقشور الثقافة عن لُبابها، وبرديء الأفكار عن جيِّدها، فرأيتُ حالتين متباينتين، وعالمين متباعدين، وقلت لنفسي، أو أنها قالت لي: اقطف هذه الثمرة، وقدِّمها إلي مثقفي عصرك من أبناء أمتك الذين استهوتهم هُلامياتٌ لا تستقرٌّ في ذهن، ولا تجري على لسانٍ, فصيح جريان اللغة الراقية، والبلاغة العالية، والبيان الأصيل، فلربما وجدوا في نبرات صوت ابن قتيبة ما يعيدهم إلى جادَّة الطريق، ويكشف لهم ما يخدع الأبصار من البريق.

 

إشارة

 

كم بلبلٍ, رَوَّى بألحانه قلبي،            فلما هاج بي الشوق طار

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply