لاشك أن النص الذي يريد أن يؤسس هويته، لا ينطلق من محو ذاته بقدر ما يحاول أن يشكل وجهه الغائب لكي يأتي منفعلاً بالثبات لكنه لا يلتصق فيه بوصفه الدريئة التي تمنحه الخلود، وإنما ينشط واقعه تعالقه (بالمتشكل) لكي ينفصل عنه بوصفه طاقة متلونة تتجه إلى الخارج أو الخروج من سكونية القاعدة إلى حيوية الاستثناء وحركيته، وهذا يعني أن الكينونة المعطاة في النص الراهن لا تعني في الواقع أنها هي نفسها كينونة النص القادم
ذلك أن قلق الانفتاح والانغلاق على الوجود يعني بالضرورة أن الاضطراب في التجربة راهناً أو قادماً هو الذي يدفع إلى أن يكون لكل قضية شكلها، وهذا ما يدعونا إلى القول: إن الوعي هو اللحظة الفاصلة بين بث يحاول أن يجعل ديمومته وسيلة لاستلاب الآخر وجوداً ومشهداً فيُبقي تعاليه ومركزيته، وبين بث يحاول إحضار الغائب عياناً بقصد تمثّله وتحريره من قيد النمذجة باتجاه صيرورة شكلية تنبثق من تعددية المرايا وتعددية السطوح في جيولوجيا تنافذ الأشكال واختلافها لا مطابقتها وإطلاقها، لأن هذا سيؤدي بالضرورة إلى تأسيس المركز ونظام المصادرة بالقيام على مرجعية ضيقة يصدق عليها سكون الذاكرة لا انبثاقها، لذلك لابد للشكل أن يحقق ذاته بوصفه إشارة حرّة تتخلّق بمهارة وتؤدي دورها بعيداً عن الالتباس بالآخر.
\"إذن ليس هنالك وساطة بين المادة وشكلها، بل هنالك إذا شئنا حركية فنية، أي حركة تحويل للمادة يعمد إليها الفنان عبر تفكيره وإحساسه بالأشكال بغية خلق أشكاله الجديدة، فحياة الأشكال المتجددة باستمرار لا تتهيأ تبعاً لمعطيات دائمة واضحة بشكل عام ودائم، بل إنها تولّد هندسات مختلفة داخل الهندسة نفسها، وكأنها تخلق المواد التي يحتاج إليها\"(1).
وإذا قيل إن (المادة) في ذاتها أشكال، فإننا نردّ بأنها ليست قادرة على التشكل بمعزل عن المحرّك الذي يستطيع أن يجعل منها تشكيلات متنوعة قادرة على أن تتجسّد في شبكة يمتلك القدرة على أن تغيّر إيقاعها ونظام خيوطها تبعاً لمواصفات الحالة التي تدخل عليها أن تنبثق فيها \"فالشكل يتغيّر، لكن تغيّر الشكل لا ينطق دائماً بالحال، بل يحدث في الأغلب نتيجة الوصول إلى موقف حاد تدريجي للمتناقضات\"(2).
هل هذا يعني أننا أمام حالة صراع ثنائي يقوم على ثنائية الحضور/الغياب، كيف يستطيع الغائب أن يكون مقروءاً أمام حالة غيابه؟ إنه بالتأكيد يسعى إلى تحقيق كيانه بالظهور والتحرر من قيود السر إلى تجليات المعلَن، على ألا يكون هنا المعلن ذاتاً تتسلّط على الآخر وتشترط وجودها هدفاً لكل قراءة ممكنة \"وهكذا لم يعد الشكل أداة استقبال، بل شحنة تتنامى مع الشعور أو الفكر وتستنفذهما بصيغة طبيعية أصيلة وصادقة، فالعلاقات بين عناصر الشكل وتلاحم هذه العلاقات وتداخلها تترجم لنا علاقات نفسية مختلفة الألوان، لذلك لا يمكن إدراك الشكل ما لم يتم تشكيله في الذهن وفقاً لطبيعتنا الخاصة، وهذا يعني أن الشكل متكون من هذه العناصر المتفاعلة معاً، والمرتبطة ارتباطاً عضوياً.. فإن من شأن التغيير أو التبديل في هذه العناصر أن يفيد من العلاقات القائمة بينهما، وهذا بدوره يؤدي إلى تغيير الشكل\"(3).
ليس من السهل إذن في فاعلية الوعي الإبداعي أن يتخذ الشكل هوية تفرض نفسها بالقوة، بحيث تفرض نفسها مكرورة على حركيّة الإبداع، ولو حدث ذلك فإن الشكل في هذه الحالة سيكتسب صفة الإطلاق ومن ثم يصير تاماً \"ويشهد على الكمال المغلق، ومن الحتمي أن يتحوّل إلى حد وإلى حجاب لنفيه عن ذاته، كل إمكانية في التنوع ضمن الواحد\"(4) هذا طبعاً- إذا كان الإبداعي ينكتب تحت طائلة سلطة النموذج أو الاستعانة بمخزون ثقافي مؤسس يمثّل يقيناً منفصلاً عن طبيعة الإبداع التي تأخذ مفهومها من طبيعة مصطلحها، فالإبداع يستحدث شكله بعيداً عن الشروط التاريخية للأشكال ذلك أن \"الإبداع هو التحقق دون نموذج الإبداع ذاته\"(5) وبهذا يكون الشكل فعل اكتشاف لا فعل تراكم، وهو بالضرورة يشكّل في هذه الحالة انفصالاً عن التاريخي المؤسس واتصالاً بالراهن المبتكر، إنه لا يستعيد ويرقم بل يُنشئ ويبتكر، فالعمل الفني \"تشكيل يواجه تشكيلاً، تشكيل جمالي يواجه تشكيلاً تاريخياً اجتماعياً، بناء يواجه بناءً.. إن الفنان يدرك واقعه جمالياً، والعمل الفني هو تشكيل جمالي لموقف من هذا الواقع، إن الفنان يواجه واقعه بتشكيل مقابل، يقهر رمزياً التشكيل التاريخي ويعيد بناء الواقع الحقيقي، وكذلك فإن الفن أكثر من أي ضرب آخر من النشاط البشري يحرر الواقع من المثول والثبات والجمود، لأنه يقهر رمزياً الضرورة في الواقع -الطبيعة والمجتمع- ليصل بهذا الواقع إلى الحرية، إنه يقهر ويحرر جمالياً ورمزياً\"(6)
وذلك يعني أن مواجهة العالم فنياً لا تسعى إلى السقوط في أحضان الواقعة وإعادة إنتاجها، وإنما تسعى إلى نقل الواقعة إلى كشف تشكيلي/جمالي لجعل التجربة شمولية \"لها جانب باطن أو خيالي يدعى بالرؤية وجانب خارجي أو تجسيمي يدعى بالرسم أو التشكيل ولا انفصال بين هذين الجانبين في نظر المبدع، لأن العمل الفني هو شيء موجود في ذهن الفنان تولّد عن خياله\"(7)
قد يبدو من خلال هذا المدخل أن هذه القراءة تحاول أن تنتصر للشكل أو على الأقل تدعو إلى اتخاذه أصلاً للمعرفة مثلاً- في ما يكتب فنياً كما أن المبدع عادة يأمل أن يحقق ذاته بعيداً عن المبتذل والشائع المألوف، لذلك يركز مهمته \"في قدرته على التشكيل والبناء أي قدرته على صياغة الوجود الخارجي صياغة جديدة، بمعنى أنه يستطيع أن يلقف من مجرى الواقع عناصره المتنافرة، وأن يؤلف بين هذه العناصر ويخلق منها علاقة نامية نابضة بالحركة والحياة، وبالتالي يستطيع الفنان أن يحيل الوجود الخارجي إلى إيقاع منغّم منسجم يوحي بالصور والأحاسيس والخيال\"(8)
ولا شك أن الأدب الإسلامي لا يحيد عن نشدان صياغة أكثر نضجاً وأعظم تأثيراً وأثراً في متلقيها، لكننا نلاحظ أن الخطابين الإبداعي والواصف يقفان حائرين أمام سؤال (الشكل) كأنه الخطيئة التي يجب أن يتجنبها (المُنتج) خوفاً عليه من الوقوع في غواية الفتنة من جهة، ولأنها مسألة ثانوية من جهة أخرى، ذلك أن \"كثيراً من المثقفين الإسلاميين يعتبرون (المسألة الجمالية) أمراً ثانوياً، وسيكون من قبيل التكرار وإضاعة الوقت لو حاولنا إثبات الأهمية البالغة التي تحظى بها المسألة في كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وفي الرؤية الإسلامية عموماً\"(9)
فكيف إذا أردنا الخروج من الذاكرة المقيدة إلى القراءة الحرّة بالانفتاح على الآخر، والاستجابة لنصه بوصفه نسيجاً لا يتقاطع مع/ أو يقف ضد المعطى المؤسساتي الذي يهيمن على الوعي المعرفي.. هذه الحال ستكون بمثابة المؤشر على الدخول في أتون الإثم \"إن هذا يقودنا إلى ذلك الأساس المبهظ بالتأثم الذي ينتاب البعض من المثقفين إزاء قراءة الأعمال الأدبية (الغريبة) على وجه الخصوص.. باعتبارها ترفاً ومضيعة للوقت، الأمر الذي يضيّع على كثير من المثقفين فرصة طيبة قد تعينهم على تصعيد مواهبهم وتمنحهم رؤية أكثر عمقاً وشفافية ونفاذاً، وتعطيهم زاداً عزيزاً يمكنهم من مواصلة الإبداع\"(10) قد يمثّل هذا الإثم للأدب الإسلامي (الإبداع) تحديداً منجزاً تفتقر إليه الكتابة الإسلامية \"وهذا يدلنا على أن هناك علاقة تقاطعية بين الأدب الإسلامي والمذاهب الغربية تنحصر في المكان الذي يحتله الشكل الأدبي، وفي المقابل فإن كل عنصر في المذاهب الغربية لا يجد صورته في مجموعة الأدب الإسلامي والعكس صحيح، وبهذا تكون علاقة المطابقة Linpliction في درجة الصفر أثناء الكتابة\"(11) بل نستطيع أن نشير عموماً إلى أن اللغة الواصفة أو الخطاب النقدي الإسلامي في قسميه النظري والإجرائي لا يتعامل إلا مع (المضمون وربما يعود ذلك إلى سهولة التناول، وهذا مذهب المرحوم نجيب الكيلاني الذي يقول: \"قد تبدو عملية التنظير للأدب الإسلامي ميسورة وسهلة لأول وهلة، وإنها لكذلك بالفعل إذا انصبّ التنظير على مضمون الأدب ومنبعه الفكري، لكن الأمر سوف تكتنفه الصعوبة إذا ما نظرنا إلى الشكل والصورة الجمالية.. \"(12) الغائب إذن في العقلانية الإسلامية (الخطاب النقدي تحديداً) هو (الشكل) الأزمة والصعوبة، بل العقدة ولنا أن نتساءل لماذا هذه الصعوبة في الشكل الفني؟ فيجيب الكيلاني: \"إن الأشكال الفنية التي لا تكاد تستقر على حال وتختلف فيها الأذواق والأفهام والمناهج الفلسفية هي المشكلة، بل أكاد أقول هي العقبة التي تعترض طريق الباحثين\"(13)
إن هذا التبرير الذي يقدمه الكيلاني لا يصح في تقديري هنا على الأقل، لأن الأدب الإسلامي أساساً يتناقض مع المعطى الغربي، بل الإسلام مع الغرب في التبادل الثقافي يندرج تحت (درجة الصفر) كما ذكرنا سابقاً، ولعل هنالك أسباباً أخرى تدفع الناقد إلى الابتعاد عن (الشكل) من ذلك مثلاً التأثر الخالص يقول (قطب الريسوني):
\"لسنا ننكر هنا على الناقد الإسلامي أن يفيد من معايير الذوق وخلاصات الانطباع في مكاشفة النوع الأدبي وبيان العوامل الفاعلة فيه، بيد أن ما يثير الأسف والامتعاض في أن تغرق بعض المعالجات في التأثر الخالص دون أن تحتج لأحكامها وتقريراتها بتسبيب منطقي، أو تعليل مستبط من قواعد العلم وأصول الفن، مما يجعل الإجراء النقدي أشبه ما يكون بتداعيات مبعثرة وخواطر عائمة، يزنها الابتسار بمثقاله ويسمها التعميم بميسمه\"(14) والتأثر في أقل تقدير ينطلق من نظام أو تصور قائم في الذهن سابق على النص، فإذا ما تمت الاستجابة بالتنافذ بين القارئ والمقروء، حدثت عملية التأثر، وتدفّق الكلام مشبعاً بالانفعال بعيداً عن العقلية والموضوعية التي تكشف مظان الإبداع والخصوصية، غير أننا إذا تعقبنا النقد الإسلامي في الأعم الغالب نراه يوغل \"أيما إيغال في استبيان الحمولات الفكرية والأبعاد الدلالية الثاوية في العمل الأدبي، دون أن يعنى بتلمس المكونات الجمالية والأسلوبية المحددة لهوية هذا العمل\"(15)
لا أريد لهذه المقاربة أن تكون تعييناً يثبت المتناهي ويعزز البعد الواحد للكتابة في نشاطها الإبداعي، لأنها بالضرورة تنطلق من مسلمة أساسية في اشتغالها البدئي، هي أن الشكل طاقة وليس عادة، طاقة لأنه يتبدّل، يراهن على الاختلاف أكثر مما يستقر في المطابقة التي تتحول إلى عادة، وبالتالي ديمومة مقيتة تؤكد أسبقية الشكل وخطيته، وهذا مالا يرتضيه الإبداع الذي يقوم على أساس تكسّر الثابت أمام حيوية المتغيّر الذي يغيّب النموذج ليستمدّ كينونته بوصفها حضوراً قاتلاً للغياب، بمعنى أن الشكل إشارة جمالية تتحرّر من حضورها لتشكل غيابها بصيرورة غير قابلة للانغلاق. ولابد من الإشارة إلى أن \"باب التجديد في الأشكال باقٍ, ما بقيت الحياة، ولا قيد على هذا التجديد\"(16) لأن الشكل فعل ابتكار يتفوّق دائماً على ذاته بالتجاوز والمغادرة. وهكذا ما إن يأخذ الشيء شكله حتى يغدو مؤشراً عن ذاته أولاً وعمّا يخالف هذه الذات، ولهذا اعتبر هيغل أن أساس فعل المعرفة هو النفي، إذن \"ما إن يتم التعيين حتى يكون تم في الآن ذاته فعل اللاتعيين.. وكذلك يتضمن التعيين فعلاً نافياً لأنك ما إن تثبت (ب) حتى تنفي كون كل ما عداها ليس هو (ب)\"(17)
وأخيراً.. هل سينجح النقد الإسلامي الآن أو غداً... في موقعة الشكل إسلامياً؟ ومن ثم إيجاد مفهوم لكتابة تتشكل..
__________________
الهوامش:
1 شكل القصيدة العربية/جودت فخر الدين 171
2 الموسوعة الفلسفية/ روزنتال 263
3 الرسم بالكلمات في شعر السياب/ خيري صباح الدين/رسالة ماجستير مرقونة على الآلة الكاتبة في جامعة الموصل 2001، إشراف د. عبد الستار عبد الله 14
4 الثنائية العرفانية في الشكل والمضمون/ سمير الصائغ/ الكرنك ع2/81 132
5 فاتحة لنهايات القرن/ أدونيس 33
6 مداخل علم الجمال الأدبي/ عبد المنعم تليمة 73
7 الإبداع في علم الجمال/ محمد عزيز نظمي/ 93 94
8 الأسطورة والدراما/ سعد عبد العزيز/ 7
9 مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي/ عماد الدين خليل/76
10 نفسه/ 76 77
11 قراءة في نظرية الأدب الإسلامي/ محمد إقبال عروي/ مجلة الأدب الإسلامي ع6/ 1415هـ/ 19
12 المنحى الجمالي في المدخل إلى الأدب الإسلامي/ حسن الإدريسي، المشكاة عدد خاص، نجيب الكيلاني/ 173 174.
13 نفسه/ 174.
14 النقد الإسلامي المعاصر/ الأدب الإسلامي/ ع14/ 1997/73.
15 نفسه/ 73
16 المنحى الجمالي في المدخل إلى الأدب الإسلامي/ 175
17 تنوير المنير في بحث المخاطب عن الضمير/ مطاع صفدي/ الفكر العربي المعاصر ع 38/ 1986/ 5.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد