الوراثة ونوع الغذاء ... وراء ارتفاع ضغط الدم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في المؤتمر الطبي الذي عقد أخيراً في مدينة <ميلانو> الإيطالية لتدارس ارتفاع ضغط الدم، طرحت خلاصة أبحاث أجريت لسنوات عدة، بهدف إماطة اللثام عن اللغز المحيِّر: لماذا يحدث ارتفاع ضغط الدم؟! ويبدو أن الإنسان وضع يده أخيراً على الجواب ـ أو على الأقل وضع قدمه على الطريق الذي يهدي إلى جواب.

ارتفاع ضغط الدم من الأمراض الشائعة التي قلما يهتدي الطب فيها إلى سبب! إذ لا يكشف الفحص الطبي المتأني والمستفيض عن علة عضوية إلا في 10% من الحالات، ويبقى السبب مجهولاً في معظم الحالات·

ولأنه لا يولد شيء من فراغ، فلا بد أن يكون وراء ارتفاع ضغط الدم سبب، فما السبب؟! وأين موطن العلة في الجسم؟!

اشتغلت مراكز البحث الطبي بالعثور على إجابة لهذه الأسئلة لزمن غير قصير، ومن خلال البحث المستفيض في كيمياء وفسيولوجيا الجسم، اتضح أن عنصر الكالسيوم هو السبب وراء ارتفاع ضغط الدم! <الفسيولوجيا> هي <وظائف الأعضاء>، وهي كذلك التسمية التي تطلق على العلم الذي يبحث في وظائف الأعضاء·

كيف يكون الكالسيوم سبباً في ارتفاع ضغط الدم؟! قبل الإجابة على هذا السؤال، نذكر أن الكالسيوم من الأملاح المعدنية الرئيسة في الجسم، فهو مادة تكوين العظام والأسنان، وهو لازم لتجلط <تخثر الدم، ولتوصيل السَّيَّال العصبي، أي لازم لنشاط الخلية العصبية>، فضلاً عن أنه ضروري لانقباض العضلات·

دور الكالسيوم في انقباض الخلايا والألياف العضلية، هو الذي يهم في سياق الكلام عن ارتفاع ضغط الدم، والعضلات في جسم الإنسان ثلاثة أنواع:

عضلة القلب، وهي نسيج فريد في الجسم لا يتكرر في أي عضو آخر، والعضلات الإرادية وهي التي يحركها الإنسان بإرادته فيقعد ويقوم ويمشي ويكتب ويمضغ الطعام ويتكلم بوساطتها، والعضلات غير الإرادية وهي التي تنقبض وتنبسط بمعزل عن إرادة الإنسان مثل عضلة القلب، والعضلات في جدار المعدة والأمعاء والعضلات في جدار الأوعية الدموية، والكالسيوم لازم لنشاط <انقباض وانبساط> هذه العضلات على اختلاف أنواعها·

العضلات في جدران الأوعية الدموية تعمل في تناسق بديع مع عضلة القلب، بهدف توصيل الدم الذي يضخه القلب إلى سائر خلايا الجسم، فعندما ينقبض القلب ليدفع الدم المتجمع فيه إلى الشرايين تنبسط <أي ترتخي> العضلات في جدران تلك الشرايين بالقدر الذي يسمح باستقبال تيار الدم من القلب· ومتى وصل الدم إلى موضع ما في أي شريان، تنقبض العضلات في جدران الشريان في ذلك الموضع لتدفع الدم إلى موضع تال، وهكذا دواليك إلى أن يصل الدم إلى الشعيرات الدموية، حيث يحدث التبادل مع خلايا الجسم·

حركة العضلات في جدران الأوعية الدموعية من العوامل الرئيسة في تنظيم ضغط الدم والمحافظة عليه في حدود معدل طبيعي، لذلك فمن الطبيعي أن يؤدي اضطراب حركة تلك العضلات إلى اضطراب ضغط الدم·

يلزم وجود الكالسيوم <في صورته المتأنية> بمقدار معين داخل الخلية العضلية لكي يحدث الانقباض، ثم لكي ينتهي الانقباض ويحدث انبساط <ارتخاء> يتعين به خروج الكالسيوم من الخلية، فعملية دخول الكالسيوم إلى الخلايا وخروجه منها واحدة مشكلة من مجموعة عمليات حيوية تتم عبر جدران الخلايا وتسمَّى <التبادل الأيوني>، عمليات التبادل الأيوني واحدة من معجزات الخلق التي تتكرر في اليوم الواحد ملايين المرات في ملايين الخلايا! ·

إذا حدث ووجد الكالسيوم داخل الخلية العضلية بمقدار أكبر من اللازم، أي أكبر من المعدل الطبيعي، زادت شدة الانقباض· وإذا استمر وجود الكالسيوم في الخلية العضلية، استمر الانقباض مؤدياً إلى ما يوصف بأنه <توتر> في العضلات·

وقد كشفت الأبحاث التي طرحت نتائجها في المؤتمر المذكور آنفاً، أن المصابين بارتفاع ضغط الدم تكون نسبة الكالسيوم عندهم بطريقة أو بدرجة غير طبيعية، إذ إن نسبة وجود الكالسيوم في خلايا العضلات في جدران الأوعية الدموية أعلى عندهم من المعدل الطبيعي، كما أن الكالسيوم يختزن في الخلايا على عكس النسق السوي ويترتب على ذلك انقباض جدران الأوعية الدموية بصورة غير سوية، الأمر الذي يحوِّل الأوعية الدموية إلى أنابيب ضيقة تقاوم مرور الدم فيها، فيرتفع ضغط الدم تبعاً لذلك·

 

الوراثة والغذاء

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا يكون الكالسيوم موجوداً بنسبة عالية في خلايا عضلات جدران الأوعية الدموية، ولماذا يختزن في تلك الخلايا؟!·

الظاهر من الأبحاث أن سبب ذلك هو المادة المسماة <الدهن الفوسفوري>·

الدهن الفوسفوري مركب من الأحماض الدهنية وعنصر الفوفسور، يوجد الدهن الفوسفوري في جدران الخلايا، وبمقادير ضئيلة جداً داخل الخلايا، وهو البوابة التي تسمح للكالسيوم بالدخول إلى الخلية والخروج منها، كما أنه يتحد مع الكالسيوم في أثناء وجوده داخل الخلية الحية·

وقد كشف البحث المتأني وجود نسبة عالية من الدهن الفوسفوري في خلايا عضلات جدران الأوعية الدموية عند المصابين بضغط الدم المرتفع، وهذا بدوره يفسر وجود الكالسيوم بنسبة عالية عند المصابين بارتفاع ضغط الدم·

إذن السؤال المطروح هنا هو: ما سبب زيادة الدهن الفوسفوري عند مرضى ضغط الدم المرتفع؟ يعتقد الباحثون أن الوراثة هي السبب! إذ ترتفع نسبة الدهن الفوسفوري في خلايا ذرية <أبناء وبنات> المصابين بضغط الدم المرتفع، ونصف الذرية على الأقل سوف يشكون من ارتفاع ضغط الدم في مستقبل حياتهم ـ كما ظهر من متابعة المرضى وذرياتهم، ويعتقد الباحثون أن العيب الوراثي قد يكون كامناً في الجين الذي يُوَجِّه تكوين الدهن الفوسفوري في الجسم·

لكن يبدو أن الوراثة ليست المتهم الوحيد في هذه القضية، ذلك أن نسبة الدهن الفوسفوري تزيد نتيجة لتناول الدهون المشبعة، مثل تلك الموجودة في الزبدة والسمن والشحوم الحيوانية، وفي المقابل تنخفض نسبة الدهن الفوسفوري نتيجة لتناول الدهون غير المشبعة، مثل تلك الموجودة في الزيوت النباتية·

وقد يكون التفسير المقبول هو أن الوراثة تهيئ المناخ لحدوث زيادة غير سوية في الدهن الفوسفوري، والتي تؤدي بدورها إلى زيادة غير سوية في عنصر الكالسيوم، فإذا أضيف إلى ذلك عنصر الغذاء، اكتملت فصول القصة، وترتب على ذلك ظهور المرض! ·

 

الدرس المستفاد:

النتائج التي طرحت في مؤتمر <ميلانو> هي الأولى من نوعها، ومن قبل كان ارتفاع ضغط الدم حالة محوطة بالغموض، محفوفة بنظريات متضاربة مثيرة للجدل، لكن اليوم، وبعد الأبحاث المستفيضة، أمسك الإنسان بطرف الخيط·

مما يستفاد من النتائج الحديثة حول ضغط الدم المرتفع، مايلي:

أولاً: توجيه البحث وجهة صحيحة بحثاً عن العامل الوراثي المسؤول عن نقل العلة من مريض إلى ذريته·

ثانياً: صار من الثابت أن ارتفاع ضغط الدم يرتبط بنوع وطبيعة الغذاء، وعلى ذلك يمكن الوقاية من المرض بتجنب أنواع الغذاء المتهمة، والاعتقاد بين الباحثين أن الامتناع عن تلك الأطعمة أو التقليل منها سوف يؤخر ظهور المرض إن لم يمنع حدوثه تماماً، ويمكن توعية المرضى، والجمهور كذلك، بدور الغذاء في ارتفاع ضغط الدم عسى أن يكون ذلك دافعاً إلى تبني أسلوب غذائي صحي، بدلاًمن الاستمرار على عادات غذائية ضارة·

والجدير ذكره أن الدهون المشبعة لها كذلك علاقة وطيدة بتصلب الشرايين وبالذبحة الصدرية، فضلاً عن العلاقة التي تكشفت حديثاً، بارتفاع ضغط الدم·

ثالثاً: قد يكون في اتباع أسلوب غذائي صحي وقاية كافية لمنع حدوث ارتفاع ضغط الدم، وإلى أن يتحقق ذلك في الأجيال المقبلة، فإن مرضى ضغط الدم المرتفع الذين يحتاجون إلى عقاقير <أدوية> لعلاجهم صار لديهم أمل أكبر في تحقيق أكبر فائدة من العقاقير المتعاطاة، إذ من المرتقب أن تسترشد شركات إنتاج العقاقير بالنتائج الحديثة في تصنيع العقار الناجع في شفاء ضغط الدم المرتفع·

رابعاً: ظهر من الأبحاث أن تعاطي زيت السمك يقلل نسبة الدهن الفوسفوري في الخلايا، وسبب ذلك هو غنى زيت السمك بالأحماض الدهنية، غير المشبعة، والطريف أن إعطاء زيت السمك لبعض مرضى ضغط الدم المرتفع الذين شملتهم الأبحاث أدى إلى انخفاض ملحوظ في ضغط الدم! وعلى ذلك، فإن زيت السمك قد يستخدم لعلاج ارتفاع ضغط الدم، إلى أن تتفتق أذهان الباحثين في شركات العقاقير عن الدواء المثالي!

قد يسأل سائل عن سر الاهتمام بضغط الدم المرتفع، وجواب ذلك أن ارتفاع ضغط الدم تترتب عليه مضاعفات خطيرة، أهمها:

ـ الذبحة الصدرية: وهي حال تتميز بحدوث ألم في القلب نتيجة نقص الدم الوارد إليه، ويحدث الألم عندما يُطلب من القلب القيام بمجهود إضافي، كما في حال صعود دَرَج أو ارتقاء تل، أو بعد وجبة طعام كبيرة·

احتشاء القلب: تشير هذه التسمية إلى موت جزء من عضلة القلب نتيجة انقطاع ورود الدم إليها، واحتشاء القلب من أسباب الموت المفاجئ، خصوصاً عندما يكون الجزء الميت من عضلة القلب كبيراً·

نزيف المخ: قد يكون نزيف المخ كذلك سبباً في وفاة مفاجئة، وإذا قُدِّرت للمريض حياة بعد النزيف فغالباً ما يفقد وظيفة ما تبعاً للمنطقة من المخ المصابة بالنزيف، فيمكن أن يصاب بالبكم <فقدان القدرة على النطق>، أو فقدان الذاكرة، أو فقدان حاسة الشَّمِّ أو بالشلل، وقد يكون الشلل <فقدان القدرة على الحركة> في موضع محدود وقد يشمل نصف الجسم، وفي أحيان نادرة يشمل الجسم كله من تحت الرقبة·

أمراض شبكية العين: يحدث نزف صغير ولكن متكرر من الشعيرات الدموية في شبكية العين، يؤدي إلى تدهور تدريجي في القدرة على الإبصار إلى أن ينتهي إلى العمى التام·

نظراً إلى خطورة المضاعفات المترتبة على ارتفاع ضغط الدم، فمن البدهي أن يحظى هذا المرض بذلك القدر من الاهتمام، ذلك أن علاج المرض يحول دون حدوث المضاعفات المذكورة، ومن باب أولى، فإن الوقاية من ارتفاع ضغط الدم يكون أجدر بالاهتمام وأرجى في تحقيق الفائدة·

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply