الإجهاض بين القواعد الشرعية والمعطيات الطبية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

1 ـ لم يفت الفقهاء المسلمون بحث مسألة إجهاض المرأة، واستنباط حكم شرعي لهذا التصرف البشري، وكان منطلق أكثرهم في البحث عن حكم الإجهاض حديث صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الشيخان (البخاري ومسلم)، واختاره النووي في اربعينه ليكون الحديث الرابع فيها.

وفيه يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، قال \" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا، فيؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح....\"

فنظر العلماء في هذا الحديث، فوجدوا أن المصطفي - عليه الصلاة والسلام - قد أخبر عن الجنين البشري أنه يمر في مرحلتين منذ تمثله في عناصر حيه أولية، ليس فيها خصائص البشر وإن كان فيها خصائص الحياة، على تشكله خلقا سويا مفعما بالخصائص الآدمية أو أصولها. وتشمل المرحلة الأولى أطوار ثلاثة للجنين هي النطفة والعلقة والمضغة. وتبدأ المرحلة الثانية بعد 120 يوما من عمر الجنين بنفخ الروح فيه.

ومن هذا المعني الذي دل عليه هذا الحديث انطلق الفقهاء يبحثون عن حكم الإجهاض فاتفقوا في بعض النتائج واختلفوا في البعض الآخر.

 

2 ـ وكان مما اتفقوا عليه ضرورة التمييز في حكم الإجهاض بين نوعين من الأجنة التي يقع عليها هذا الفعل.

جنين في المرحلة الأولى بأطوارها الثلاثة (النطفة والعلقة والمضغة) ـ وجنين نفخت فيه الروح الذي تميز بها ابن آدم عن بقية المخلوقات الحية.

 

3 ـ وكان أيضا من مواضع اتفاق الفقهاء اتفاقهم على حكم الإجهاض في المرحلة الثانية أي بعد نفخ الروح فيه حيث قالوا بتحريم ذلك، وأطلقوا عباراتهم، ولم يستثن فقيه واحد منهم أية صورة من هذا التحريم فشملت بإطلاقها تحريم الإجهاض حتى وان كان في بقاء الجنين خطر على أمة.

بل صرح بهذا بعضهم فقد قال ابن عابدين(لو كان الجنين حيا، ويخشي على حياة الأم من بقائه، فأنه لا يجوز تقطيعه لأن موت الأم به موهوم، فلا يجوز قتل آدمي لأمر موهوم).

ومع هذا فقد رأت اللجنة العلمية للموسوعة الفقهية التي تصدر عن وزارة الأوقاف في الكويت أن الحفاظ على حياة الأم أولي بالاعتبار من بقاء الجنين، لأنها الأصل وحياتها ثابتة بيقين، ولأن بقاء الجنين سيؤدي غالبا إلى وفاته بموت أمه

 

4 ـ وفى اعتقادي أن اتفاق الفقهاء على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح، يرجع إلى أمرين:

الأول: اعتبارهم أن سببية بقاء الجنين بعد وفاة أمه غير مقطوع بها، والقاعدة في أحكام النفوس المحترمة شرعا أنه لا يجوز التضحية بها مع وجود الشبهة في السبب المقتضي لهذه التضحية.

 وهذا قرب من القاعدة الراسخة في نظام العقاب الإسلامي وهي قاعدة درء الحدود والقصاص بالشبهات بالرغم من توفر أسبابها المقتضية لها وعدم القطع (اليقين) بوفاة الأم بسبب وجود الجنين شبهة تمنح التضحية به لإنقاذ أمه..

والقناعة بهذه الشبهة تزداد مع النظر إلى المعطيات الطبية في تلك الأزمنة التي عاش فيها أولئك الفقهاء، حيث لم يكن عندهم سبيل للقطع بنتيجة بقاء الجنين في بطن أمه، ولم تؤهلهم وسائلهم الطبية إلا لتحصيل غلبة الظن في هذا الأمر.

الثاني: اعتبارهم الجنين بعد دخوله مرحلة نفخ الروح جائزا على وصف الآدمية ومستحقا للاحترام الذي يناله ابن آدم فيما يتعلق بحق الحياة \".

 

5 ـ واختلف الفقهاء في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح المشار إليه في حديث الرسول - عليه الصلاة والسلام -، اختلافا كثيرا يتراوح بين الإباحة بدون عذر، والتحريم في غير ضرورة، وبينهما من يقول بالإباحة لعذر وإن لم يصل هذا العذر إلى مرتبة الضرورة حيث اعتبروا من الأعذار حاجة الأم لشرب دواء، أو انقطاع لبنها بالحمل وليس في مقدور الأب استئجار الظئر لإرضاع الوليد.

 

6 ـ ذلك تلخيص لآراء الفقهاء في مسألة الإجهاض، وهي متبناة على قواعد شرعية ونص ظني الدلالة، ومعرفة إجمالية ظنية بالواقع غير أن الواقع الذي يتعلق به حكم الإجهاض غدا في أيامنا أكثر وضوحا، وأقرب يقينا إن لم يكن هو اليقين بعينية، فلابد مع هذا الوضوح في الواقع من تأويل النص تأويلا يتفق مع اليقين مع غير تكلف ولا بعد، وبيان ذلك: ـ

أن العلم في مجال الطب أعطى حقيقة مفادها أن الحياة تبدأ مع الجنين مبكرة وقبل مرحلة نفخ الروح التي ورد ذكرها في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبدأ مع هذه الحياة حركة تستطيع الأجهزة الطبية العصرية من تبينها قبل مضي شهرين من عمر الجنين.

وقد يظن ظان أن هذه الاكتشافات تتعارض مع ما ثبت من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي تنفخ فيه الروح في الجنين، وهو مطلع الشهر الخامس من عمر الجنين.

والحق أنه لا تعارض ولا تناقض، لأن الحديث الشريف لم يخبر عن بدء الحياة في الجنين بصراحة، وإنما أخبر عن الزمن الذي يمنح فيه الجنين وصف الآدمية وخصائصها، وهو الوقت الذي ينفخ فيه الروح، ويكتب له قدره وهو كما اخبر الرسول - عليه الصلاة والسلام -، بعد التحام المنوي بالبويضة بمائه وعشرين يوما.

وهو أمر يختلف عن بدء الحياة، وعدم نفخ الروح فيه قبل ذلك الوقت لا يعني كونه جسما ميتا، بل إن إشارة الرسول إلى تطوره وتشكله من نطفة إلى علقه إلى مضغة ليشير إلى وجود نوع من الحياة فيه قبل نفخ الروح.

ولكنه وإن كان جسما حيا لا يسمي بشرا ولا آدميا، وإنما هو الجسم الحي الذي سيكون بشرا بنفخ الروح فيه بإذن الرب - جل وعلا -.

ويري بعض العلماء أن هذا الجسم الحي الذي لم ينفخ فيه الروح لا يبعث يوم القيامة، وإنما يختص البعث بمن نفخت فيه الروح، أي وصل عمره 120 يوما أو زاد عليها.

 

7 ـ هذا الفهم لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقوي بشيء من تدقيق الفكر في معظم الآيات التي تحدثت عن أطوار خلق الإنسان في بطن أمه وخارجه مثل قوله تعالي (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا).

 وقوله تعالي (فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة، ثم من علقة ثم من مضغة... ) وقوله تعالي (هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة) فهذه الآيات الكريمة وأشباهها تشير إلى أن الأجسام الأولية التي جعلت منطلقا للخلقة الآدمية هي التراب والنطفة والعلقة والمضغة، وبعضها غير حي، وهذا الاستعمال القرآني يمنع أن يطلق اسم الإنسان أو الآدمي على التراب أو النطفة أو العلقة أو المضغة من الناحية اللغوية، إذا لو كانت النطفة مثلا هي الإنسان بعينه لكان مآل المعني خلق الإنسان من الإنسان وهذا لا يصح فتعين أن تكون الأطوار السابقة لنفخ الروح جسما حيا مهيا ليصبح إنسانا وليس الإنسان نفسه، وربما يقوي هذا الفهم استعمال آخر ورد في كتاب الله - عز وجل - وهو قوله تعالي (ألم يك نطفة من مني يمني ثم كان علقة فخلق فسوي فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى.. ) وهو ذكر الخلق بعد النطفة والعلقة، وترتيبه عليها بحرف الفاء، مما يدل على أن عملية الخلق تكون بعد مرحلتي النطفة والعلقة، وهي طور المضغة التي يتم تخليق الجنين في آخرها ليكون صالحا لنفخ الروح، وأخذ الهوية الآدمية، فالحياة والحركة وبدء التخليق يكون قبل نفخ الروح المميزة للإنسان عن بقية المخلوقات، يدل على ذلك وصف المضغة بالمخلقة في الآية الخامسة من سورة الحج، والمضغة في حديث الرسول جاء ترتيبها قبل نفخ الروح، مما يدل على أن الحياة والتخليق شيء يحدث للجنين قبل نفخ الروح وهذا التأويل للحديث والآيات لا يتعارض مع معطيات العلوم الطبية والأجهزة الحديثة التي دلت على بدء حياة الجنين وحركته وتشكل بعض أطرافه وأجهزته قبل مرور شهرين عليه، ولكن تمام الخلق للجنين لا يكون بمجرد تكامل أعضائه وإنما بالمنحة الربانية المتمثلة بنفخ الروح فيه والتي لا تكون إلا بعد مرور أربعة أشهر (120 يوما) كما اخبر الصادق المصدوق - عليه الصلاة والسلام -.

 

8 ـ وإذا كان بعض العلماء من مفسرين وفقهاء أولوا الحديث وتلك الآيات القرآنية بما يتعارض مع بعض المعطيات الجديدة من الحقائق العلمية في مجال الطب فإنما يرجع ذلك إلى أخذهم المعني اللغوي للعلقة والمضغة وحمل الحديث والآيات عليه بصورة تطابقية، مع أن الحيوان قد يكون على شكل علقة مع ظهور بعض الأعضاء فيه كالعينين مثلا وقد يكون وجه الشبه مع العلقة كون الرأس وبقية الجسم على مستوي واحد لعدم وجود الأطراف وكذلك المضغة ليس من الضروري أن تكون قطعة لحم لا خلقه فيها بل أنها قد تكون مخلقة كما وصفها القرآن في بعض المواضع.

وعلى أية حال فإن تفسير العلماء للحديث والآيات ليس هو الحجة وإنما الحجة في النص ذاته وليس في القرآن والحديث تفسير خاص للعلقة والمضغة يلزم حملهما على معني متعارض مع ما أكتشف من الحقائق الطبية.

 

9 ـ إن ذلك التأويل المختار للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تناولت بيان أطوار ومراحل خلق الجنين لا يلزم المقتنعين به بترجيح معين في حكم الإجهاض وذلك أنه إذا كانت حياة الجنين تمر في مرحلتين ولا يمنح الجنين وصف الآدمية إلا في الثانية منهما فلابد إذن من التمييز في حكم إسقاط الجنين بين المراحل التي تقع فيها، لأن من البدهي أن لا تكون الجانية على حي حاز وصف الآدمية بفضل الله تعالي، كتلك التي تقع على حي لم ينفخ فيه من روح الله ولم يحز بالتالي على ذلك الوصف، بل هي في الأولي اشد وأقبح وأجدر بالعقاب عليها والجنين فيها أولي بالحماية لأنه عندئذ آدمي محترم له حق الحياة لا يحرم منها إلا بسبب شرعي والأسباب الشرعية لا هدار حق الحياة لا يتناول شيء منها الجنين سوي سبب واحد وهو سبب الضرورة بأن يكون قبل الجنين أحد شرين لا مفر من وقوع أحدهما وهو أهون من الشر الآخر وأخف كما لو تيقن الأطباء العدول من أن بقاء الجنين في بطن أمه سيتسبب في هلاكها وهلاكه فيجوز إسقاطه لإنقاذ أمه.

وأما في المرحلة التي لا يكون الجنين فيها مؤهلا بالروح الآدمية، فالأصل أن إسقاطه إفساد لأنه إتلاف لحي صالح لأن يكون آدميا، فيكون حراما ولكن هذه الجريمة لاتصل في مستواها إلى جريمة إسقاط الجنين في مرحلة نفخ الروح ويجوز إسقاط العقاب فيها عن أصحاب الأعذار والحاجات.

 ولعل هذه المعني هو الذي حدا بفقهاء الحنفية أن يقولوا بوجوب ديه الجنين

(نصف عشر الدية الكاملة) في إسقاطه إذا حدث بعد نفخ الروح وبوجوب تعويض أقل قدرة القاضي إذا كان قبل نفخ الروح \"

 

10 ـ وبناء على ما تقدم يتلخص الرأي الذي نرجحه في حكم الإجهاض بما يلي: ـ

أ ـ يكون الإجهاض محرما في أي مرحلة من مراحل التطور الجنيني وجريمة يعاقب عليها بعقوبة تعزيزية بالإضافة إلى التعويض المالي.

ب ـ إذا كان الجنين قد بلغ 120 يوما لم يبح إسقاطه إلا لضرورة إنقاذ أمه ولا يسقط العقاب عليها لأي عذر آخر.

جـ ـ إذا اسقط الجنين ولم يبلغ 120 يوما وكان الإجهاض، بعذر سقط العقاب عن فاعله، ولا يقصد بالعذر هنا مجرد الضرورة المشار إليها الجنين أو الخوف على صحة الأم وإن لم يصل ذلك إلى درجة القطع واليقين فالضرر المحتمل هنا يصلح عذرا بخلاف الإجهاض إذا كان بعد نفخ الروح.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply