تثير قضية «المذهب الأدبي» و«منهج الدراسة الأدبية» تحدياً للأدباء الإسلاميين بسبب من أن العديد من الدارسين يعتبرون «الإسلامية» مجرد «معيار» يتعامل بالدرجة الأساس مع المضمون ولايكاد يحفل بالملامح والبنية الفنية التي تنسج مذهبيتها الخاصة، ولا بمنهج العمل الذي يدرس النشاط الأدبي بمقتضى تقنياته المتميزة ورؤيته للظواهر والأشياء فهل الأدب الإسلامي هو بالفعل أدب معياري فحسب يستمد قيمته من الرؤية الكلامية ويهدف إلى تكوين معطيات إبداعية، تحمل هذه القيم وترتبط بها؟ بعبارة أخرى، هل هذا الجانب ـ الذي لا يكاد يختلف عليه الإسلاميون أنفسهم ـ هو الطرف الوحيد في الصورة؟ أو هو المحور الفرد في المعطى الأدبي الإسلامي الذي لا يتجاوزه إلى محاور أخرى؟ وهل الأدب الإسلامي لم يرق إلى أن يكون مذهبه الخاص أو مدرسته المتميزة؟ لا ريب أن البداية الصحيحة، والجادة، للإجابة على هذا السؤال، والرد على التحدي، بالتالي، يقتضي متابعة متأنية لطبيعة «النشاط» أو «المعطى الأدبي» المعاصر على إطلاقه أي في إطاره العالمي، لتبين أنماطه وطبقاته، وللإحاطة بمعماره الشامل ذي النسب والأبعاد والتكوينات ذات الارتباطات الصميمة بين بعضها فالنشاط الأدبي ليس إبداعاً فحسب، كما أنه ليس قراءة نقدية للنص الإبداعي فحسب وإنما هو ـ فضلاً عن هذا وذاك ـ مذهب أو مدارس في الإبداع تتشكل وفق المنظور أو الإطار الشامل الذي يتكون العمل الإبداعي في رحمه، كما أنه «مناهج» و«طرائق» لدراسة الأدب وتصنيفه وفق سياقاته في الزمن والمكان، وفي ضوء قوانينه وارتباطاته الداخلية، ثم هو ـ في نهاية الأمر ـ «نظرية» شاملة تجمع هذا كله، وتبحث عناصر الارتباط والتأثير والتأثر بين طبقاته، وتؤثر على النسب والأبعاد بين معطياته، ثم تسعى لاستخلاص التوجهات الشمولية التي تندرج فيها، وتصب مفردات النشاط الأدبي كافة لكي تصنع أو تصوغ توجهاً ذا شخصية محددة وملامح متميزة.
ومن أجل مقاربة أدق للمسألة فإن لنا أن نتصور المعطى الأدبي معماراً ذا طبقات عديدة وتكوينات شتى، يرتبط بعضها بالبعض الآخر، وفق منظور أفقي أو عمودي، ارتباط المقدمات بالنتائج، والأسباب بالمسببات، فإذا سلمنا بذلك، أدركنا أن أي أدب متميز لابد أن ينطوي على الطبقات جميعاً، وأن يسعى أصحابه ما وسعهم الجهد لاستكمال تكويناته كافة، وعرضنا كذلك أن استنتاج بعض الدارسين حول معيارية الأدب الإسلامي الذي لا يملك مذهباً أو مدرسة إنما هو فرصة للاختبار لعودة الإسلاميين إلى تقليب دفاترهم لتبين صدق هذا الاستنتاج أو خطئه. وأيضاً سيكون هذا الاستنتاج تحدياً محفزاً لاستكمال البنيان في حالة وجود نقص ما، والوقوف بالأدب الإسلامي بعمارته المتكاملة نداً للآداب العالمية المعاصرة التي تملك أدواتها ومستلزماتها كافة وعلى ذلك، فإن بمتابعة التيارات التي تغذي نهر النشاط الأدبي المعاصر، على وجه الخصوص، يتبين، وهذه مسألة يتحتم أن تكون بديهية بالنسبة للمعنيين بالأدب كافة، أن هناك:
(1) المعطيات الإبداعية وفق أنواعها المعروفة والتي تشكل قاعدة البناء كله.
(2) المنظور أو الرؤية الشمولية التي تتشكل بموجبها هذه المعطيات فتكون بمجموعها مدرسة أو مذهباً أدبياً معيناً.
(3) الجهد النقدي الذي يسعها لإضاءة الأسس الجمالية للنص الإبداعي، فيضع له المبادئ والقواعد والأصول، ثم يبدأ في تنفيذها وفق نشاط تحليلي، يستهدف الوصول إلى القيم الفنية للنص ودلالاته المضمونية وطبيعة ارتباطه بالمضمون أو المذهب الذي ينتمي إليه.
(4) الطريقة أو المنهج الذي يدرس الحركة أو الظاهرة الأدبية عبر مساراتها الشاملة في الزمان والمكان، وفي ضوء قوانينها وارتباطاتها الداخلية.
(5) النظرية التي تلم هذه المعطيات وتنطوي عليها جميعاً، وعلى ذلك فإذا كانت الإسلامية قد أبدعت أدباً وفق هذا النوع أو ذاك، أي في دائرة الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرح.. إلى آخره.. وإذا كان هذا الأدب يكشف بالضرورة عن منظور متميز، أو عن رؤية متفردة، هي الرؤية الإسلامية بخصائصها وميزاتها جميعاً، أفلا تكون الإسلامية بالتالي، مدرسة أو مذهباً متميزاً؟ فإذا كانت «الواقعية الاشتراكية» مثلاً تنبثق عن منظور مادي للكون والحياة والإنسان، فإن الإسلامية، على النقيض تماماً، ترفض الرؤية الأحادية وتضيف للمنظور بعداً روحياً، بعداً غيبياً يتجاوز المحدود إلى المطلق، والحسي إلى المعنوي، وعالم الظاهر إلى عالم الباطن، والصراع في صيغة الطبقية الإنتاجية إلى الصراع في صيغة الإنسانية الشاملة. وإذا كانت «الطليعية» مثلاً، تنبثق عن منظور عبثي لا معقول فإن الإسلامية، على النقيض تماماً، تقوم على الهدفية والمعقولية والجدوى، وترى في العالم والتاريخ والمجتمع فرصة للتحقق بالمصير وإذا كانت «الرومانسية» مثلاً، تبحر بعيداً باتجاه العاطفة البشرية وتنساق مع منازعها وأشواقها.. وإذا كانت «السريالية» توغل باتجاه الطبقات البعيدة للنفس البشرية، حيث تلعب الغريزة دوراً تحكمياً في أنماط السلوك، فإن الإسلامية، إذ تعطي مساحة ما لهذا كله، فإنها تتجاوزه صوب «الآخر» بعيداً عن «الأنا» وباتجاه القدرة على السيطرة وصياغة المصير بعيداً عن التسيب والضبابية والفوضى التي تتمخض عن إطلاق العنان لغرائز الإنسان في عوالمه السفلية المعتمة. وحيثما قلبنا الأمر على وجوهه رأينا في التضاد المتميز للإسلامية عن سائر المذاهب الأخرى، ما يجعلها تحمل مذهبيتها الخاصة، وما يمنح معطياتها الأدبية مواصفات وخصائص لا تكاد نجدها في أي مذهب آخر. وإذن، وبقدر ما يتعلق الأمر بالارتباط العمودي بين هاتين الطبقتين في معمار الأدب الإسلامي، أي بين المعطى الإبداعي والمنظور أو الرؤية، يبدو أنه من قبيل الأمور المحتومة أو المسلم بها، أن تكون الإسلامية مذهباً وليست مجرد معيار رؤيوي تقاس به أو تحال إليه الأعمال أو النصوص الإبداعية. وليس صعباً أن يتأكد المرء من هذا بمجرد أن يتابع الملامح المتميزة للمعطيات الإبداعية الإسلامية التي أخذت تمتد عمقاً ومساحة عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، فإذا تذكرنا أنها شُكلّت في الأساس لكي تعبر عن المنظور الإسلامي ولكي تقدم البديل «المذهبي» لآداب الغرب التي استأثرت بالساحة الأدبية عبر القرون الأخيرة وجعلت من العالم كله «مجالاً» لظنونها وأوهامها، وأحياناً نزواتها وعبثها الرؤيوي، عرفناً أن المسألة أكبر من أن تكون مجرد معيار تقاس به أو تحال عليه هذه المفردة الإبداعية أو تلك. بل إن لنا أن نتساءل عن طبيعة الحدود الفاصلة بين المعيارية والمذهبية وبخاصة في حالة الإسلامية التي «تنبثق عن رؤية خاصة في الدراسة الأدبية.. » فإذا تأكد لنا أنه فارق في الدرجة وليس في النوع.. أدركنا أن تقسيماً كهذا لا ينفي بحال من الأحوال «مذهبية» الأدب الإسلامي. وعلى أية حال فإننا لو مضينا باتجاه الطبقات الأخرى للمعطى الأدبي فإننا سنلتقي بالنشاط النقدي الذي يتعامل مع النص، فينظر لطرائق التعامل ثم يمارس تنفيذها أو تطبيقها على هذا النص أو ذاك، وعلى هذه المجموعة من الأعمال الإبداعية أو تلك. ههنا أيضاً لا يجد الباحث كبير صعوبة في وضع يده على حركة نقدية متميزة على مستوى التنظير والتطبيق، تلك هي حركة النقد الإسلامي التي تملك رؤيتها المستقلة، وطرائقها الخاصة، في التأسيس والعمل، والتي تنطوي «المعيارية» فيها ولكنها لا تشكل حدودها القصوى على أية حال وبمجرد نظرة على القائمة البيبليوغرافية التي رتبها الناقد الدكتور عبد الباسط بدر بعنوان «دليل مكتبة الأدب الإسلامي»(1) تتبين المساحة الواسعة للأعمال النقدية، التنظيرية والتطبيقية، التي تحتلها في القائمة، وإن كان الأمر يتطلب ـ إذا أردنا الحق ـ المزيد من الجهد والعطاء على المستويين، من أجل تأصيل هذه الحركة وتثبيت ملامحها الإسلامية المتميزة، وبخاصة على مستوى التقنيات والأسلوبيات. والآن، فإننا لو تجاوزنا الطبقة أو المحور الخامس الخاص بمنهج الدراسات الأدبية، والذي سنعود إليه بعد قليل، باتجاه الطبقة السادسة المعنية بنظرية الأدب، فإننا سنجد الأدباء الإسلاميين قد أخذوا منذ أكثر من عقد يؤسسون للنظرية ويبنون مفرداتها ومطالبها في ضوء الخبرات والمعطيات المتأنية عن الأدوار السابقة، وبمقدور المرء أن يرجع إلى البيبليوغرافيا التي أشرنا إليها قبل قليل، لكي يضع يديه على العديد من الإصدارات والبحوث الخاصة بهذه المسألة. حتى إذا ما عدنا باتجاه الطبقة أو المحور الخامس للمعطى الأدبي، والمتمثل بمنهج متميز في الدراسة الأدبية، سواء كانت هذه الدراسة منصبة على الأدب العربي، قديمه وحديثه، أو على الأدب العالمي في أصقاعه ومراحله كافة، فإننا قد نجد خللاً ما، أو نقصاً ملحوظاً في دائرة الإسلامية التي يبدو أنها لم تبلور لحد الآن منهجها الدراسي الخاص بها، وإن كانت قد وضعت خطواتها على الطريق.
ههنا يمكن أن يكون استنتاج بعض الدارسين على قدر من الصواب، ويمكن ـ كذلك ـ أن يكون تحدياً مناسباً للرد، الأمر الذي قد يضيف إلى الحركة الأدبية الإسلامية إضافة جادة ذات غناء، ويكفيها مؤونة اللجوء إلى هذا المنهج أو ذاك، لتنفيذ دراستها لآداب الأمم والجماعات والشعوب. ومع ذلك، فإننا يجب أن نلاحظ حشداً من المفردات والتقنيات وصيغ التعامل الإسلامي مع الآداب الأخرى، يمكن في حالة جمعه وإضاءته تبين ملامح أو أوليات منهج متميز، ذي خصائص مستقلة في دراسة الأدب، ولكنه يكاد يضيع عبر تفرقه في الأنشطة الأدبية الإسلامية، بحيث يصعب على المرء أن يقول بصيغة الجزم والقطع ها هو ذا المنهج الإسلامي في الدراسة الأدبية. إن هذه مسألة مهمة، فإن مجموع معطيات الإسلاميين في الطبقات الخمس الأخرى تشكل ـ ولا ريب ـ بذور منهج للدراسة(2) يكتسب من الرؤية الإسلامية خصائصه ومكوناته، وإذا كان لهذا الأدب منظوره المتميز:
أـ للإبداع.
ب ـ للتأثيرات الزمنية.
جـ ـ للتأثيرات البيئية، فإن منهجاً متميزاً للدراسة الأدبية سيتمخض بالضرورة عن هذا كله، وقد يحتاج الأمر إلى وقت كاف لبلورة الملامح، إلا أن المسألة التي لاريب فيها هي أن المواد الأولية لتشكيل المنهج قد أخذت تتجمع في أيدي الدارسين، ويجب أن نتذكر بأن التحليل النقدي يمضي ـ في كثير من الأحيان ـ لكي يغذي منهج الدراسة. البنيوية ـ مثلاً ـ هي في إحدى معطياتها الأساسية مشروع عمل نقدي لكنها في الوقت نفسه تضع منهجاً للدراسة الأدبية، رغم أن هذا ليس محتوماً بالنسبة لكل المذاهب، فالوجودية ـ على سبيل المثال ـ لم تبلور منهجاً للدراسة الأدبية، بل إنها لم تتمخض حتى عن تقنيات متميزة في الإبداع، اللهم إلا في لغة التعبير، فالمهم أن تكون على مستوى المضامين ذات تميز رؤيوي ولن يكون بمقدور «الإسلامية» أو أي مذهب آخر أن تتجاوز الإرث التقني للرواية مثلاً، فتنشئ صيغاً متميزة جديدة، وحتى الاشتراكية الماركسية، على عنف ثورتها في مجال المضامين، وجدت نفسها مرغمة على احترام قواعد النوع الأدبي، ولم يشذ عن هذا سوى المسرح، لأسباب فنية صرفة، ناقشناها في غير هذا المكان(3).
وفي مقابل هذا كله فإن مناهج الدراسة الأدبية تنشأ في كثر من الأحيان مستقلة عن المذهب، وتقدم برنامج عمل لمتابعة آداب الجماعات والشعوب يمكن أن يوظف لدى المذاهب والتيارات الأدبية التي تجد في المادة المنهجية فرصة مناسبة لمقاربة وإدراك الظواهر الأدبية.. بعبارة أخرى، يمكن اعتبار مناهج كهذه أدوات حيادية، قد تكون صالحة لتسخيرها من قبل هذا المذهب، أو التيار الأدبي، أو ذاك، من أجل إضاءة الدراسة الأدبية، ومنهج الدارسين فرصاً أكثر لإتقان مهمتهم والوصول إلى نتائج أكثر سلامة، وهكذا فإن المنهج النفسي ـ مثلاً ـ قد يخدم الدارس الإسلامي للأدب دون أن يشكل هذا أي ارتطام أو تناقض مع مفرداته المتميزة، فقط إذا عرف كيف يوظف المقاطع والمفردات المنهجية المتساوقة مع قناعاته وتصوراته. ويجب أن نلاحظ ـ كذلك ـ أن المنهج الإسلامي يتجاوز «معياريته» الصرفة إلى نوع من التحليل الشمولي المنبثق عن تميزه المذهبي في تعامله مع الآداب الأخرى، على مستوى التقنيات والمضامين، فهو ـ على سبيل المثال ـ لايصنف الأدب الواقعي الاشتراكي في حظيرة الأدب اللا إسلامي، لكونه لا يحمل قيماً إسلامية فحسب، بل لكونه يستمد من تحليل للدوافع والمبررات هو في أساسه خاطئ محدود، كما أن هذا المنهج قد يتقبل ويقوم أدباً غير إسلامي في انتمائه الديني، أو المكاني، لكنه يلتقي مع الرؤية الإسلامية في شموليتها [2] والآن، هل هذا المنهج يميل إلى المكانية أو الزمانية، هل هو منهج نفسي أو اجتماعي؟ هل هو منهج فني صرف (الأجناس والفنون والمذاهب الأدبية)؟ أم هو منهج علمي؟ أم أنه منهج توفيقي شمولي يتضمن هذه الأبعاد جميعاً، أو بعضها في الأقل؟ وهل ثمة ما يمنعه من الأخذ أو الإفادة من إضاءات المناهج كافة، في جوانبها الجرفية الصرفية، لكي يشكل ملامحه الخاصة؟ وكيف ستنطوي هذه الملامح على خصوصيتها المتميزة إذا كانت تبني معمارها أساساً على الاقتباس من سائر المناهج الأدبية الوضعية، إذا صح التعبير؟ وهل يمكن، تجاوزاً لإشكالية كهذه، أن يتم الأخذ وفق معايير وضوابط إسلامية تنبثق في أساسها عن أدب متميز ذي رؤية ومواصفات مستقلة؟ وفي حالة كهذه سيتاح للمعنيين بتأسيس المنهج فرصة الانتقاء الذي يحمل حساسيته الرؤيوية، وحتى التقنية، إزاء ما يجب أن يأخذ وما يجب أن يترك، بحيث نستطيع حينذاك أن نطمئن إلى أن المنهج الدراسي الإسلامي لن يضيع في غمار المناهج الأخرى وهو يتعامل معها، فيفقد ملامحه وشخصيته؟ ثم ألا يتحتم على هذا المنهج المقترح، والذي لا يقل ضرورة عن أي من مطالب النشاط الأدبي في جملته، أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك إلى التراث الأدبي للأجداد، لكي يضع يديه على بعض الأوليات التي تعنيه على تأصيل شخصيته من خلال تجذر المنهج في العقيدة والتراث، وحينذاك لن يكون التعامل مع مناهج الغير مجازفة غير مأمونة العواقب، من خلال الاتكاء على المعطيات الجاهزة، وتلفيق منهج دراسي من أجزائها وتفاريقها؟ هذه، وغيرها، من الأسئلة والمعضلات المعلقة هي بأمسّ الحاجة إلى إجابة مقنعة، تتجاوز الإنشائية إلى قدر من التوثيق الذي يجعلها قديرة على بناء المنهج بما يجعله إسلامياً حقاً. وليس من مهمة هذه الصفحات أن تقدم، أو تقترح صيغاً لتشكيل المنهج الدراسي، ولعل هذا يتحقق في جهود متواصلة للعديد من المعنيين بمعونة الله وحده، وإنما التأكيد فقط على أن غياب المنهج الدراسي في معمار الأدب الإسلامي يمثل تحدياً مثيراً، قد يدفع الإسلاميين إلى الاستجابة له من أجل ردم هذه الهوة واستكمال البناء. ولكن ثمة ما قد يخطر على البال ويلح عليه ههنا وهو أن المنهج الإسلامي قد يكون، بشكل ما منهجاً شمولياً، يتضمن المكاني والزماني، النفسي والاجتماعي، الفني والعلمي.. إلى آخره، ليس على سبيل التلفيق بين المناهج، لتجاوز إشكالية غياب المنهج الإسلامي، وليس علي سبيل الانبهار بجوانب من تلك المناهج واستعادتها لتشكيل المنهج الإسلامي، كما أنها ليس من قبيل الاجتهاد الشخصي كذلك الذي مارسه ستاتلي هايمن في كتابه النقد الأدبي ومدارسه(4) بصياغته المذهب الشمولي في النقد، وإنما لأن الرؤية الإسلامية هي في أساسها رؤية شمولية، بل إن ما يميز الإسلام نفسه عن سائر المذاهب والأديان المحرفة والوضعية إنما هي شموليته.. قدرته على لمّ سائر الأطراف والقضايا في معادلة وضع الإنسان في العالم.. تجاوزه بتصميم إلهي معجز أيما انكماش أو انحراف أو انحياز لجانب ما على حساب الجوانب الأخرى.. إنما هو التوازن، والوسطية، والتغطية الشاملة للمادي والمعنوي، للفردي والجماعي، للزماني والمكاني، للمنظور والمغيب، ولسائر الثنائيات والتفاريق في نسيج الكون وبنيان العالم وتكوين الإنسان. ألا يجدر بالمنهج الإسلامي الذي يدرس الأدب، والأدب في بدء التحليل ونهايته تعبير عن الإنسان، وهو بالتالي واحد من أكثر المعطيات البشرية التصاقاً بهموم الإنسان وطبيعة خبراته عبر تعامله مع العالم والأشياء، ألا يجدر به أن يستمد مقوماته من شمولية العقيدة التي ينبثق عنها، لاسيما وأنه يتعامل مع صيغ التعبير عن التجربة البشرية، وبالتالي ينسج حيثياته من مطالب هذه الشمولية فيأخذ بكافة الصيغ التي تضيء النشاط الدراسي لآداب الأمم والجماعات والشعوب، فلا يكاد يغفل عاملاً منها، ما دام يخدم هذا التوجه الشمولي، ولا يرتطم في أساسه ببداهات العقيدة وتوجهاتها؟ فالأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد نص بتقييده، كما تقول القاعدة الفقهية. وعلى هذا فإن المكان والزمان، والنفس والمجتمع، والذات والموضوع، والعلم والفن.. إلى آخره.. يمكن أن ينطوي في المنهج الإسلامي للدراسة الأدبية ما دامت هذه جميعاً مجرد أدوات أو خبرات منهجية للوصول إلى المطلوب وحينذاك، وفي ضوء هذا كله، يمكن الإفادة من المناهج المشار إليها أنفاً، مع التحفظ إزاء المفردات التي تند أو ترتطم بالرؤية الإسلامية، ومع ملاحظة إلحاح العقل الغربي الذي صاغ معظم هذه المناهج، أو وضع ملامحها النهائية، على الرؤية الأحادية التي تبالغ في تقدير قيمة «الحالة» التي تتعامل معها على حساب الحالات الأخرى. وإذا كانت التقنيات، في الأغلب، مجرد أدوات أو جسور للعبور إلى الهدف، وهو في الموضوع الذي بين أيدينا تفسير الظاهرة الأدبية التي تتمحور عند مضامين معينة في هذه المرحلة التاريخية أو تلك، وفي أدب هذه الأمة أو تلك، فإن المضمون الإبداعي نفسه سيكون بمثابة الحكم الفصل في منهج الدراسة، وههنا، بالنسبة للمنهج الإسلامي سيكون التعامل مع المضمون متميزاً محدداً واضحاً، من خلال القيم والمعطيات الإسلامية، والإيمانية عموماً، بمعنى آخر، إن منهج الدراسة الإسلامي سيبني تقويماته، ويمارس تحليلاته، ويصل إلى الكثير من تفسيراته، من خلال حضور أو غياب النبض الإيماني في نسيج الأدب.. أيضاً من خلال كثافة القيم الإيمانية، أو تضحّلها، أو انعدامها في النص الإبداعي، وهو في تعامله مع الظاهرة على هذا المستوى سيبذل جهده من أجل البحث عن الأسباب، وسيؤثر على القيم الإيمانية على مستوى الشكل والمضمون معاً من أجل منهج التقويم النهائي للأدب الذي يدرسه، ليس على سبيل الفرز الكمي وإنما عن طريق الإيغال في إدراك حجم التأثير الإيماني في النشاط الإبداعي لهذا الأدب أو ذاك، وتبين الدوافع الأساسية التي تجعل هذا الأدب يحمل هذه المواصفات أو تلك مما يميزه عن أدب أمة، أو بيئة، أو عصر آخر. وعلى سبيل المثال فإن دراسة الأدب اليوناني القائم على التعددية الوثنية وفق هذا المنهج، سيصل إلى نتائج مغايرة، للنتائج التي تمخضت عن المناهج الأخرى، لاسيما إذا تذكرنا حجم البعد الديني في تكوين هذا الأدب، وستنعكس الحالة تماماً لدى التقابل بين المنهجين الإسلامي والمادي «الاجتماعي» وهما يدرسان الأدب الإسلامي القائم على التوحيد في عصر راشدي أو أموي أو عباسي. إن الرؤية المذهبية وضعت، ولاتزال، بأيدي الدارسين صيغ تقويم وأدوات عمل تمكنهم من سبرغور الظاهرة الأدبية، كل من منطلقه المتميز.. أفلا يكون للرؤية الإسلامية، الخصبة، الغنية، القدرة على منهج الدارسين منظومة من القيم وأدوات العمل تمكنهم من دراسة الأدب بما يمنحهم مقاربة أكثر لخصائصه ومميزاته؟ إن البحث في دور الدين في الظاهرة الأدبية هو بحد ذاته ضرورة دراسية ملحة، أفلا يكون المنهج الإسلامي، المنبثق أساساً عن رؤية دينية، أقدر من سائر المناهج على متابعة هذا الدور وتحديد أبعاده، الأمر الذي يعد بحد ذاته مبرراً مقنعاً لتشكل منهج للدراسة الأدبية، يعيد الأمر إلى نصابه، فيضع البعد الديني في مكانه الحق من النشاط الإبداعي، بعد إذ كادت تطمسه المناهج الأخرى؟
__________________________________
الهوامش:
(1) صدرت في طبعتها التجريبية تحت هذا العنوان قبل عدة سنوات، ثم صدرت في طبعتها النهائية عن دار البشير في عمان سنة 1992م. (2) انظر على سبيل المثال: (محاولات جديدة في النقد الإسلامي) (مؤسسة الرسالة، بيروت- 1981م) و(مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي) (مؤسسة الرسالة- 1987م) و(متابعات في دائرة الأدب الإسلامي) (قيد النشر) للمؤلف، وقد تضمن الكتاب الأخير، فصل (قراءات في دائرة الأدب الإسلامي) عرضاً نقدياً لعدد من المؤلفات في هذا المجال.
(3) انظر فصل (نحو مسرح إسلامي معاصر) من كتاب (في النقد الإسلامي المعاصر) للمؤلف (الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة- 1983م)
(4) ترجمة د.إحسان عباس ود.محمد يوسف نجم (دار الثقافة، بيروت 1958م) الصفحات 245 - 255.نشر في مجلة(الأدب الإسلامي)عدد(22)بتاريخ (1420هـ).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد