إن تأخير الصفة وتقديم موصوفها في قولك (أديب غني) نازل على الترتيب المستلزم الصحة والصواب، لا صحة الإعراب فحسب، إنما صحة المعنى وصحة الدلالة.
وذلك بمعنى أن تقديمك الصفة وتأخيرك الموصوف وإن ساغ لفظاً، وصح نحواً وجاز إعراباً، إلا أنه ينقلب بالفهم إلى ضده، وينعكس بالمراد إلى خلافه، ويضطرب فيه المعنى ظهراً إلى بطن، وتصير فيه الحقيقة مَخِيلة من الظن.
ألا ترى أن في تقديم الثاني ووصف الأول به في مثل: (حمارُ زيدٍ,) قلب للحقيقة وتفضل على الحمار برفعه من «الحمارية» إلى الإنسانية وهزء بزيد وسخرية منه بمسخه حماراً ولو على سبيل الاستعارة والمجاز.. فذلك كذلك.
ومَثَلُ الأديب الغني والغني الأديب كمثل الصليبة من القوم والملصق فيهمº فالأول جوهرة الأدب وهو طبيعة ذاته، كالشمس جوهرها النور وطبيعتها الضياء، أما الثاني فإن الغنى معدنه وطبيعة ذاته وما الأدب فيه إلا عرض لتمام شخصه، وجزء خارج عن كلّه للدلالة عليه، كالسكون فوق الألف لاتزيده إلا ظهوراً في الخط، واستبانة في الرسم.
وذلك فرق ما بينهما.. فإذا حظي الأدب بأديب بصير ذي سعة وغناء، ووفرة وعطاء أضاء سراجه وقدح زنده، واشتد خطرهº بما يحفّه بعطائه وفضله ويحدوه بخُبره وعقله، وبما يفتح داره روضة تتندى أزهارها، وتتغنى أطيارهاº زهرة من كتاب أو وردة من رسالة أو خطاب، وأطياف من مرائي الشعر أو أطراف من معاني السحر.. يرقى به الأدب درجة، ويكسب منه حسنة، ويزيد فضلاً.
ويذهب جواده ينهب أجواء الفكر والإبداع، يركضه بما أصدر من نتاجه فأثرى به، أو نتاج غيره فأحيا به.. وكذلك الحكمة في رأس الحكيم تأبى إلا أن تقول: لكل أمر منزلُه، ولكل مَرء موضعُه، يسكن الحق في أهله، ويرجع الفضل إلى ذويه.
وتأبى الحماقة والصفاقة في رأس بعض الأغنياء ـ وأكثر بهم في عصرنا ـ إلا أن تريه الأدب وقفاً فيغصبه، أو كنزاً فيسلبه، أو سلعة يتَّجربها فتعود عليه بالأبيض والأصفر!.. غير آبهٍ,ٍ, إن سرق لذلك قلماً أو أجّره، أو حرّف اسماً أو غيره.. وقد يزيد به السّفه، ويسخفٌّه الشّرَه فيتبدل بالمطبعة مصبغة، فلا يعير اللفظ وزناً، ولا الأسلوب قيمة، ولا المعنى مكانة، ولا الفكر مَنزلة، فهمه ـ كلٌّ همه ـ أن يخرج الكتاب مختوماً بثمنه موسوماً بقيمته، ولو خرج في صبغة سوداء.. وفكر أسود!
وحينها يُثبِت بجُمعِه ما رفعه القدر عنه، فتسقط نقطة نونه لتكون غبيَّاً!
* المحرر:
هذه مقالة تكشف عن قدرة صاحبها على الكتابة النثرية المحلّقة التي تذكّرنا بكتابات المقاليين الكبار من مدرسة النثر العربي الحديث.
فيها موضوع خصب، وفيها تأمل عميق، وفيها قدرة طيبة على التعامل مع اللغة.
نهنئ صاحب هذه المقالة عليها، ونتمنى له أن يسير على هذا الدرب الصعب ـ درب المقالة الأدبية ـ الذي كاد يصير مهجوراً، والله المستعان.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد