الأدب فـي خدمة الدعوة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء في كتاب «فيض القدير على شرح الجامع الصغير» للعلامة المناوي هذا الحديث: عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: \"لما نزلت\" والشعراء يتبعهم الغاوون» أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما ترى في الشعر؟ قال: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه» (1) وهناك رواية أخرى للحديث أوردها الدكتور محمد عبد القادر أحمد في كتابه «دراسات في أدب ونصوص العصر الإسلامي» تقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن مالك: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل»(2) ومعنى ذلك أن الدعوة الإسلامية في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بصفة خاصة، قد قامت على هذين الأمرين: الجهاد بالسيف من جهة، والدفاع عنها باللسان من جهة أخرى.

 

مكانة الشعر والشعراء:

ولهذا وجدنا هذين الجانبين المهمين يتمثلان في أشخاص المؤمنين الأوائل وأفعالهم في آن. ولن نتتبع كل ما روي في هذا الصدد، وإنما سنكتفي بمثال واحد عن الصحابي الجليل عبد الله بن جحش، فقد كان هذا الصحابي من المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة ليهاجر هجرته الثانية إلى المدينة ملتحقاً بالمسلمين هناك. وكان عبد الله مقرباً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أثيراً عنده يحبه ويقدمه ويعتمد عليه، فكان يوجهه في مهمات ينجزها على خير وجه. وقد بعثه النبي ليترصد قريشاً مع ثمانية نفر من المهاجرين، وكتب له أمره على ألا ينظر فيه إلا بعد مسيرة يومين ليمضي فيما أمر به ولا يكره أحداً من أصحابه. ففعل عبد الله. وأثناء سيرهم مرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأدما وتجارة وفيهم عمرو بن الحضرمي وتردد المسلمون في قتال القوم لأنهم في الشهر الحرام، ثم اختلفوا في حقيقة اليوم، ولكن انتهى أمرهم إلى قتل عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان ابن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب منهم نوفل بن عبد الله. فلما رجع عبد الله بالعير والأسيرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنكر الرسول قتالهم في الشهر الحرام، فأنزل الله - تعالى - قوله: \"يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله، وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل\".

وقد قالت قريش في ذلك: قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه المال، وأسروا فيه الرجال، فقال عبد الله في ذلك يرد على قريش مستفيداً مما أنزل الله في هذا من آياته البينات:

 

تعدون قتلا في الحرام عظيمة *** وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

 

صدودكم عما يقول محمد *** وكفر به والله راء وشاهد

 

وإخراجكم من مسجد الله أهله *** لئلا يُرى لله في البيت ساجد

 

فإنا وإن عيرتمونا بقتله *** وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

 

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا *** بنخلة لما أوقد الحرب واقد

 

دماً وابن عبد الله عثمان بيننا *** ينازعه غل من القيد عاند(3)

وقد كتب الكثير عن الشعر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه من بعده، وتعرض الكثيرون لتفسير بعض الآيات القرآنية على نحو يتفق مع الروح العامة حول الشعر، حيث كان ـ كما رأينا ـ طرفاً مهما في الصراع مع أعداء الإسلام. ومن هذه الآيات قوله - تعالى -: \"وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين\" وقوله - تعالى -: \"والشعراء يتبعهم الغاوون.. » الآية. وقد عقد ابن رشيق في كتابه الشهير \"العمدة\" بابا (هو الباب رقم 1) في فضل الشعر، وجاء الباب الثاني تحت عنوان «باب في الرد على من يكره الشعر». ومما جاء في هذا الباب الثاني ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: \"إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه». وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: \"الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه». وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «الشعر ميزان القول» ورواه بعضهم: «الشعر ميزان القوم». ويروى عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: «مر الزبير بن العوام - رضي الله عنه -بمجلس لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحسان ينشدهم، وهم غير آذنين لما يسمعون من شعره، فقال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟

لقد كان ينشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيُحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه إذا أنشده». ويروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بحسَّان، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغيرِّ عليَّ ذلك. فقال عمر: صدقت. وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري: مُر مَن قِبلك بتعلم الشعرº فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب. وقيل لسعيد بن المسيب: إن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكا أعجمياً. وكان أبو السائب المخزومي ـ على شرفه وجلالته، وفضله في الدين والعلم يقول: أما والله لو كان الشعر محرَّما لوردنا الرحبة كل يوم مراراً. والرحبة الموضع الذي تقام فيه الحدود، يريد أنه لا يستطيع الصبر عنه فيحد في كل يوم مراراً ولا يتركه (4).

وقد جاء الباب الثالث من كتاب ابن رشيق تحت عنوان ((باب في أشعار الخلفاء والقضاة والفقهاء))

وفيه نقرأ أشعاراً لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية ابن أبي سفيان، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عباس، وأبي سفيان بن الحارث، والسيدة فاطمة الزهراء، وعمر بن عبد العزيز وسواهم ونكتفي هنا بأبيات قليلة من خمسة عشر بيتاً للصديق أبي بكر رواها ابن رشيق عن ابن اسحاق وغيره، وفيها ذود واضح عن الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:

 

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث *** أرقت، أو امرٍ, في العشيرة حادث؟

 

ترى من لؤي فرقة لا يصدها *** عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

 

رسول أتاهم صادق فتكذبوا *** عليه، وقالوا: لست فينا بماكث

 

إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا *** وهرٌّوا هرير المجحرات اللواهث

 

فكم قد متتنا فيهم بقرابة *** وترك التقى شيء لهم غير كارث

 

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم *** فما طيبات الحل مثلَ الخبائث

 

ثم ينتقل ابن رشيق إلى باب من رفعه الشعر ومن وضعه. ونتوقف في هذا الباب عند حادثة واحدة تدل ـ مثلما يدل الباب كله ـ على أن الشعر قديماً كان يمارس دوراً لا يقل في أهميته وخطورته وتأثيره عن الدور الذي تمارسه الصحافة وأجهزة الإعلام المسموعة والمرئية في عصرنا الحاضر. يقول ابن رشيق: \"كان بنو أنف الناقة يفرقون من هذا الاسم حتى إن الرجل منهم يُسأل: ممن هو؟ فيقول: من بني قريع، فيتجاوز جعفراً أنف الناقة بن قريع بن عوف بن مالك، ويُلغى ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن نقل الحطيئة ـ واسمه جرول بن أوس ـ أحدهم وهو بغيض بن عامر بن لؤي بن شماس بن جعفر أنف الناقة من ضيافة الزبرقان بن بدر إلى ضيافته، وأحسن إليه فقال:

 

سيري أُمامُ فإن الأكثرين حصاً *** قوم هم الأنف والأذناب غيرهم

 

والأكرمين إذا ما يُنسبون أباً *** ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا

 

فصاروا يتطاولون بهذا النسب، ويمدون به أصواتهم في جهارة. (5)

 

مفاهيم صحيحة ومغلوطة:

ولعل من أهم الكتب المحدثة التي كتبت عن الشعر (وكان في القديم ديوان العرب الأوحد تقريباً) في ظل الإسلام، كتاب الدكتورة إخلاص فخري عمارة «الإسلام والشعر ـ دراسة موضوعية». وتأتي أهمية هذا الكتاب ـ في رأيي بناء على جملة أسباب، من أبرزها أنها جمعت معظم ما قيل في هذا الموضوع، ووثقت الأقوال بالعودة في غالب الأحيان إلى مصادرها الأولى، ثم إنها رتبت هذه الأقوال وقسمتها ضمن رؤية شمولية تحاول الإحاطة بجوانب الموضوع، خاصة إذا كان موضوعاً شائكاً مثل هذا، وذلك لكي تلجأ إلى مناقشة كل قضية أو كل مسألة على حدة. كذلك فإنها انطلقت في هذا البحث من منطلق منهجي موضوعي خالص، لا يقع تحت أي تأثير إيديولوجي. ومعروف أن المواقف الإيديولوجية تمارس في بعض الأحيان تأثيرات قوية تؤدي إلى التحيز المقيت. وقد تدرجت في بحثها من موقف القرآن الكريم من الشعر، إلى موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، إلى موقف الصحابة والخلفاء الراشدين، إلى حالة الشعر في عهد النبوة والخلفاء الراشدين.. إلخ. وهي في كل ذلك حريصة على مناقشة الأفكار المناقضة للشعر أو المحرضة ضده، وهي أفكار أعتقد أنها جزء من طبيعة الحياة في مجتمعاتنا التي تدفع أحياناً إلى الغلو الشديد في القبول أو الرفض. ولعل المغالاة في الرفض استناداً إلى بعض آيات القرآن الكريم وبعض أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت هي الدافع الأول وراء تخصيص نقادنا القدامى لفصول من كتبهم للرد على هؤلاء المغالين، وتخصيص نقادنا المحدثين كتبا كاملة ـ مثل كتاب \"الإسلام والشعر\" لبحث هذا الموضوع والوصول فيه إلى درجة الاطمئنان الكامل. وينبغي في هذا الصدد أن نشير إلى أن مغالاة بعض أبناء العالم العربي والإسلامي في التأثر بكل وافد غريب على بيئتنا وثقافتنا كانت هي السبب الأول وراء ظهور تيار «الأدب الإسلامي» الذي صار له الآن أنصار ومشايعون ومنظرون وكتاب في كل أنحاء العالم الإسلامي. ومن ثم فإني قد رأيت أن أتوجه بهذه المقاربة وجهتين: وجهة أولى تبرز دور الأدب، وبخاصة الشعر في خدمة الدعوة الإسلامية قديماً وحديثاً، ووجهة ثانية تعمل على مناقشة بعض القضايا والأفكار المطروحة في ساحة الأدب الإسلامي.

نعود إلى كتاب «الإسلام والشعر» لنتوقف معه فقط عند الفصل الثاني عن موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشعر قولاً وفعلاً. والجديد ـ حسب معلوماتنا ـ في هذا الشأن هو أن المؤلفة قسمت مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة، تندرج تحت ما أسمته: الكراهة، والموضوعية المحايدة، والترحيب. أما الكراهية فقد وردت فيها نصوص رأت الدكتورة إخلاص أنها قليلة ومحدودة. ومن ذلك ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً». وهذا الحديث رواه المناوي في «فيض القدير». وعلى أية حال فهناك مجموعة من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تغض من شأن الشعر، ولكن المؤلفة ترى لكل قول أو لكل فعل مخرجا. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن هذا الحديث نفسه روته السيدة عائشة أم المؤمنين بطريقة أخرى، فقد قالت - رضي الله عنها - حين سمعت رواية أبي هريرة: \"لم يحفظ أبو هريرة الحديث، إنما قال رسول الله: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودما، خير له من أن يمتلئ شعراً هجيت به» «6».

وبذلك تكون السيدة عائشة قد حددت المذموم من الشعر، وهو ما هجي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المشركون ـ كما هو معروف ـ يلجؤون إلى ذلك كثيراً، وقد أهدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دم بعضهم، ومنهم كعب بن زهير قبل إسلامه، وقصته في هذا الشأن ذائعة ومشهورة، ومتصلة اتصالاً وثيقاً بقصيدته التي استعطف فيها الرسول ومدحه، فعفا عنه وخلع عليه بردته. أما الموقف الموضوعي المحايد ففيه أقوال كثيرة نذكر من بينها ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها: «الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين»، وما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أشعر كلمة تكلمت به العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ماخلا الله باطل».

وقوله - صلى الله عليه وسلم - عن امرئ القيس: إنه قائد الشعراء إلى النار لأنه أول من أحكم قوافيها». وحين سمع النبي صلى الله عليه والسلام قول طرفة بن العبد:

 

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود.

قال: هذا من كلام النبوة».

 

أما عن موقف الترحيب والإثابة، فقد أفردت المؤلفة مساحة واسعة لما ورد من أقوال وأفعال في هذا الموقف كلها يحتفي بالشعر، ويحض الشعراء على القول دفاعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوته. ومن ذلك هذا الحديث الذي ورد في صحيح البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة فيقول: يا أبا هريرة نشدتك بالله، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ياحسان أجب عن رسول الله اللهم أيده بروح القدس؟ قال أبو هريرة: نعم. ومما يروى أنه بعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة اشتد هجاء الشعراء المشركين له، مثل عبد الله الزبعرى وضرار بن الخطاب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاص، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها يا رسول الله. قال الرسول الكريم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فقال: والله لأسلّنك منهم كما تُسل الشعرة من العجين، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم ثم اهجهم وجبريل معك. وحين أنشد حسَّان قصيدته التي رد بها على أبي سفيان بن الحارث دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة مرتين، وعندما قال:

 

هجوت محمدا فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: جزاؤك عند الله الجنة يا حسان. ولما وصل إلى قوله:

 

فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

 

قال النبي الكريم: وقاك الله حر النار (7)

 

حادثة ذات دلالة:

وسوف نختم هذه الأقوال التي نعتبرها مجرد أمثلة قليلة تشبهها وتردفها أقوال وأفعال أخرى كثيرة موجودة في بطون الكتب، بهذه الواقعة الدالة أبلغ دلالة على ما كان للشعر بخاصة (ومن ثم للأدب) من دور عظيم في الدفاع عن الدعوة الإسلامية والرد على خصومها، أو على الأقل مقارعة الحجة بما هو أقوى منها. والعرب ـ كما هو شائع ومعلوم ـ كانوا أهل فصاحة وبلاغة يؤثر فيهم الكلام الجميل ويستميلهم المعنى الحسن واللفظ الرشيق. والواقعة التي نحن بصددها مشهورة وذُكرت في معظم كتب الأدب القديم منها والحديث. ومن ثم نكتفي بتلخيصها على النحو الذي تتضح معه دلالتها. فبعد غزوة حنين أخذت وفود العرب تتدفق على المدينة، وقد أسلم بعضهم وحسن إسلامه، وبعضهم جاول ونافق، وبعضهم ارتد. من بين هذه الوفود وفد بني تميم الذين حضروا وفيهم نفر من أشرافهم منهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعطارد بن حاجب بن زرارة، وعمرو بن الأهتم، والحبحاب بن يزيد. وقد طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لخطيبهم وشاعرهم في القول، فأذن له الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتكلم خطيبهم عطارد ابن حاجب مفتخراً بقومه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت بن قيس بن الشماس من الخزرج أن يجيبه فرد عليه بكلام يدور معظمه حول الإيمان والورع. ثم تقدم شاعرهم الزبرقان فقال:

 

نحن الكرام فلا حي يعادلنا *** منا الملوك وفينا يُقسم الربع

 

وكم قسرنا من الأحياء كلهم *** عند النهاب وفضل العز يُتَّبع

 

إنا أبينا، ولم يأب لنا أحد *** إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع

 

وعندئذ بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حسان بن ثابت ـ ولم يكن بالمجلس ـ فحضر وسمع قول الزبرقان، فارتجل على نفس الوزن والروي قصيدته المشهورة:

 

إن الذوائب من فهر وإخوتهم *** قد بيَّنوا سنة للناس تتبع

 

يرضى بها كل من كانت سريرته *** تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

 

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم *** أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

 

سجية تلك منهم غير محدثة *** إن الخلائق فاعلم شرها البدع

 

إن كان في الناس سباقون بعدهم *** فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

... إلخ القصيدة

 

وعندما فرغ حسان قال رئيس الوفد الأقرع بن حابس: «وأبي، إن هذا الرجل لمؤتى له ـ يعني رسول الله ـ، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا؟؟ ولم ينفض المجلس إلا بدخولهم في الإسلام وتصديقهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهكذا يتضح بما لا يدع مجالا لأدنى شك أن الشعر كان من العوامل المهمة التي ساعدت على انتشار الدعوة الإسلامية، ومن هنا ندرك مغزى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة».

 

سؤال كبير:

والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا الآن هو: ما المهمة التي يمكن أن يقوم بها الأدب في عصرنا الحالي في نفس هذا الموقع وهو تعزيز الدعوة الإسلامية والوقوف ضد الخصوم والمناهضين؟ ولاشك أن بحثنا فيما يلي من صفحات يتركز في الإجابة على هذا السؤال المهم. ولن تكون الإجابة سهلة يسيرة، لأن تعقد الموضوع في وقتنا الحالي يستدعي تشابكا في الإجابة، وتعمقا في الرؤية، وتفريعا في المسائل.

فالأدب في وقتنا الراهن لا يقتصر على الشعر والخطابة كما كان الحال في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يمتد ليشمل فنون القول المجموعة كما حدث في عصور تالية ظهرت خلالها كتب مثل الكامل للمبرد، والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه وغيرها فضلاً عن بعض الأجناس والظواهر الأدبية الأخرى. الوضع الآن أكثر تعقيداً بكثير. فالشعر الآن لم يعد فن العربية الأوحد، ومقولة «إن الشعر ديوان العرب» صارت تمثل حالياً مشكلة مثيرة للجدل والخلاف، لأن كثيرين يرون ـ على سبيل المثال ـ أن الرواية الآن هي ديوان العرب، إضافة إلى تعدد التيارات والمذاهب بخصوص الأجناس الأدبية المختلفة. ولهذا نرى أن فنون الكتابة حاليا يمكن أن تندرج فيما يلي: -

الشعر بنوعيه القديم والجديد (فيما يتعلق بالشعر الغنائي فقط) وبمذاهبه المتعددة بدءاً من الشعر العمودي، وما تبعه من شعر الإحياء ثم الشعر الابتداعي أو الرومانسي، ثم الشعر الحر بمدارسه المتعددة التي تنطلق من شعر الريادة لتصل إلى ما يسمى حالياً «قصيدة النثر»، وهي قصيدة يرفضها الكثيرون حتى من بين شعراء التفعيلة أنفسهم. ولكن شعر التفعيلة كان في وقت من الأوقات مرفوضاً هو الآخر، ومازال هناك قطاع كبير من الناس يرفضونه. وهناك أناس أيضاً يرفضون بشدة تيار «الأدب الإسلامي» ولكن أبلغ رد على الرافضين هو هذه المناقشات الدائرة حول هذا التيار. هناك كذلك الشعر المسرحي وهو جنس أدبي كان لنا فيه في العصر الحديث إبداعات مرموقة ومتميزة عند أحمد شوقي وعزيز أباظة وصلاح عبد الصبور وفاروق جويدة وسواهم، كما أبدع فيه كتاب يصنفون عادة ضمن التيار الإسلامي مثل علي أحمد باكثير وغيره. وننظر حولنا فنجد القصة القصيرة التي خطت خطوات واسعة وتطورت بشكل لافت للنظر، وكذلك الرواية التي كان لنجيب الكيلاني فيها ـ بوصفه كاتبا إسلاميا ـ دور متميز، وكذلك علي أحمد باكثير وغيرهما. هناك أيضاً المقال الصحفي والأهمية التي حاز عليها في العصر الحديث، إضافة إلى نظريات الأدب التي تطورت بشكل كبير، وحلت ـ في رأي كثير من النقاد ـ محل الفلسفة. وهناك أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية بما فيها من أفلام ومسلسلات وبرامج تحتاج إلى نوع جديد من الأدب هو ما يسمى «السيناريو» كذلك لا ننسى أحدث أنظمة المعلومات مثل الكمبيوتر والإنترنت، وما سوف يجدٌّ في المستقبل. كل هذا يجعلنا نتأمل: ما موقع الأدب الإسلامي من كل هذه الأجناس الأدبية ووسائل الإعلام الحديثة؟ وكيف يمكن أن يكون الكاتب الإسلامي موجودا ومؤثراً بشكل فعال؟ ولاشك أن ذلك يحتاج ـ في رأينا ـ إلى عدد من الإجراءات المحددة نعرض لها فيما يلي: ـ

 

الأدب الإسلامي والحضارة الإنسانية

ينبغي العمل على توسيع مدى ا لرؤية بدلاً من الوقوف عند بعض التحديدات، كالقول بأن الأدب الإسلامي هو «التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، أو هو الذي يرسم الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود))(8) وذلك لأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أن هذا التصور أو ذاك هو الذي تصح نسبته إلى الإسلام، أي أن تحديد التصور الإسلامي في حد ذاته أمر نسبي وليس حقيقة مطلقة، لأنه خاضع للتفسير والتأويل البشري. وأنا أرى أن هذه النقطة بالذات أوقعت كثيرين من الإسلاميين في الخلط عند تحديد نسبة هذا الكاتب أو ذاك إلى الأدب الإسلامي. وهذه المسألة بالذات بحثت بشكل موسع في معظم الكتب المتخصصة في الأدب الإسلامي.

ـ وإذا كنا ندعو إلى توسيع الرؤية بحيث تشمل نقاط الاتفاق والاختلاف وتسمح بمد مظلة الأدب الإسلامي إلى كل أدب صادر عن حس إنساني راق وبقلم أديب مسلم، فإننا ندعو كذلك إلى دعم كل اتجاه يؤكد ويدعم كل ما كان للعرب والمسلمين من أثر فعال في الثقافة الإنسانية. وهذا الاتجاه يحظى بانتشار عالمي حاليا، ويكفي أن كثيرين من المهتمين بالثقافة الإسلامية صاروا يؤلفون فيه الكتب بكل لغات العالم. وأضرب لذلك الآن مثلين من كتابين ظهرا حديثا هما: «أثر الثقافة العربية في الأدب الأسباني ـ من خوان رويث إلى خوان جو يتسولو» من تأليف الدكتورة لوثي لوبيث بارالت أستاذة اللغة والأدب الإسباني بجامعة بويرتوريكو. وهذه الأستاذة تعمل جاهدة على إحياء مدرسة المستعرب الإسباني الشهير ميجيل آسين بلا ثيوس، وهي مدرسة كان لها أصداء واسعة في أسبانيا وفي دوائر الاستعراب الأوروبية. وقد توفي ميجيل آسين عام 1944م، وإحياء مدرسته في هذا الوقت بالذات، وخاصة في أمريكا له دلالة عظمى على الدور المشترك للثقافة الإنسانية التي قامت في الأساس على تفاعل الثقافات والحضارات. أما الكتاب الثاني فعنوانه «الماضي المشترك بين العرب والغرب ـ أصول الآداب الشعبية الغربية» من تأليف أ. ل. رانيلا، وقد صدر في لندن عام 1979م وترجمته إلى اللغة العربية الدكتورة نبيلة إبراهيم، ونشرته سلسلة عالم المعرفة بالكويت في رمضان 1419هـ الموافق كانون الثاني/ يناير 1999م. وهذا الكتاب يدرس تأثير القصص الشعبية العربية على الآداب الغربية، مثل قصة عنترة وعبلة، وقصص ألف ليلة وليلة وسواهما. وأنا أعتقد أن مثل هذه الكتب ينبغي أن تحظى باهتمام خاص من جانب أصحاب الأدب الإسلامي لأنها توضح ما كان للإسلام من أثر عظيم في مسيرة الحضارة الإنسانية.

ـ كما أن توسيع دائرة الرؤية ينبغي أن يمتد ليشمل كل مذاهب الأدب، مع عدم التفريق بين هذا المذهب أو ذاك اللهم إلا في حالة وجود توجهات هدامة تتعارض مع القيم الإنسانية الراقية، التي هي أيضاً قيم الإسلام والحضارة الإسلامية. ومن العجيب أن الدكتور نجيب الكيلاني في كتابه «مدخل إلى الأدب الإسلامي»دعا إلى ذلك، ولكن يبدو أن هذه الدعوة لم تجد صدى لدى الكثيرين. لقد رأى نجيب الكيلاني أن للأدب الإسلامي جانبا خاصاً وآخر عاماً، الجانب الخاص هو جانب فكري يرتبط بالإسلام عقيدة وفكراً وتصوراً وعاطفة، والجانب العام تمتد ضرورة إلى الإبداع العربي القديم وإلى التراث العالمي المشترك الذي أسهم فيه كل شعب بنصيب، وخاصة فيما يتعلق بالأشكال الفنية التي أصبحت في عصرنا ملكاً للجميع، لا تحجزها نزوات التعصب العرقية أو الدينية أو السياسية أو المذهبية أو الجغرافية.. ويضيف الكيلاني: «ولقد ضرب أسلافنا الإسلاميون العظام أروع المثل حينما لم يحجموا عن قراءة تراث الحضارات القديمة، وسهروا على النظر فيه، وترجمته ونقده، والرد عليه سواء أكان إغريقياً أم هندياً أم فارسياً.. فنحن ـ قديما وحديثاً ـ جزء من هذا العالم الكبير من حولنا، أعطيناه الكثير، وتبادلنا معه الخبرات والثقافات، وهذه سمة رائعة من سمات الحضارة الإسلامية الخالدة، التي تغذت بلبان الإسلام وترجمت بصدق عن فكره وروحه» (9).

ـ وتفريعاً على النقطة السابقة نرى أنه لابد من الانفتاح على الثقافات العالمية وخاصة تلك التي تتشابه ظروفها مع ظروفنا، مثل أدب أمريكا اللاتينية الذي بلغ أوجه خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وأمريكا اللاتينية قارة عانت من الاستعمار والاستغلال مثلما عانينا، ومازالت خطى دولها تتعثر في سبيل إقامة مجتمع متقدم، ومن ثم يحس المرء وهو يقرأ عملاً أدبياً لميجيل آنخل أستورياس، أوخورخي لويس بورخيس، أو خورخي أمادو، أو جابرييل جارثيا ماركيز وكأنه يقرأ لكاتب قريب منه ومن مشاعره وأحاسيسه، أو قل إنه ينطلق تقريباً من نفس المنطلقات التي ينطلق منها كتابنا بحثا عن مخارج من دوائر الاستغلال والتخلف والفقر والمرض وغيرها من المشكلات الطاحنة في العالم الثالث.

الأدب الإسلامي إذن ينبغي أن يمد بصره إلى بعيد، وأن يحاول التواصل والتفاعل مع الآداب العالمية، ولاشك أن ذلك يمكن أن يؤدي إلى خلق مفاهيم وتصورات أكثر انفتاحاً وإنسانية وتأصيلاً. فالإسلام ـ في الأساس ـ دين عالمي، وتصوراته تمتد ليستظل بها البشر أجمعون. ولعل هذا الانفتاح على الدوائر العالمية يؤدي إلى خروج تنظيرات الأدب الإسلامي من الحارات الضيقة التي وضعت نفسها فيها بدعوى الوصول إلى تحديدات جامعة مانعة للمصطلح.

 

ــــــــــــــــــــ

الهـوامش:

(1) المناوي، «فيض القدير على شرح الجامع الصغير» الجزء الثاني 386

(2) د. محمد عبد القادر أحمد، «دراسات في أدب ونصوص العصر الإسلامي» النهضة المصرية، القاهرة، 1986، ص 40

(3) انظر د. يحيى الجبوري، حركة الشعر الإسلامي منذ البعثة حتى آخر الخلفاء الراشدين، ضمن بحوث ندوة الأدب الإسلامي المنعقدة في الرياض بتاريخ 16/7/1405هـ، ص210

(4) انظر ابن رشيق القيرواني، «العمدة» تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد الطبعة الأولى 1353هـ ــ 1934م، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة الصفحات من 7 إلى 19. وعن أبي السائب المخزومي. انظر د. إبراهيم راشد «أبو السائب المخزومي ـ أخباره ونقداته»، كتاب الرياض. بالمملكة العربية السعودية.

(5) انظر «العمدة» من ص 19 إلى ص 38.

(6) انظر دكتورة إخلاص فخري عمارة، «الإسلام والشعر ـ دراسة موضوعية» مكتبة الآداب، القاهرة، 1992م، ص30 وما بعدها.

(7) المرجع السابق، ص39 وما بعدها.

(8) محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، دار الشروق، ص6

(9) د.نجيت الكيلاني، مدخل إلى الأدب الإسلامي»، كتاب الأمة، قطر جمادى الآخرة 1407هـ، ص 21 ـ 2

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply