حلقة التلاوة ودندنات الغروب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شباب قرآني:

في زاوية جانبية من المسجد تتحلق مجموعة من أفراد معدودين، بيد كل واحد منهم مصحف.. التلاوة القرآنية هدف تحلقهم، وإتقان أحكام التجويد مادة دراستهم، وعلى حسب ما يوافق يوم تجمعهم من التوقيت الهجري يكون الجزء الذي اختاروا أن تبدأ منه دور التلاوة، وبقراءة لأحدهم- ينصت لها الجميع باهتمام- يتحول المحفل الترتيلي إلى (بانوراما) صوتية تجمع ما بين الصوت الأغنِّ الروحاني، والخشن الجهوري، المتقن الماهر، والمتكلف الذي يضغط على الحروف إكراهًا للسانه على النطق الصحيح، من يقرأ بانسياب، ومن يتلو بتعتعة والقرآن عليه شاقº حيث تتخلل تلاوته تصويبات قائد الحلقة.

فهناك خطأ لُغوي، وذاك نطقي، وهكذا حتى يستقيم الحال، فضلاً عن إنعاش الذاكرة بنبرات مشاهير القراء، فهناك من يصدح بشجى \"المنشاوي\"، أو يترنم بأسى \"عبدالباسط\"، أو يتدفق بصفاء \"الحصري\"، أو يحلق بنداوة \"العجمي\" في تبارٍ, يعلنون به انتسابهم إلى حضرة النبي- صلى الله عليه وسلم - الذي قال: \"ليس منا من لم يتغن بالقرآن\".

إنها المقرأة المسجدية، والتي تنشط بها الدعوة الإسلامية، جاعلةً من برامجها مهمة ضبط القراءة، وتحسين جودة التلاوة، وإزالة الفرقة بين المسلمين وآي الكتاب، وإزاحة الهجر بتيسير الذكر، والتي غالبًا ما يكون ميقاتها بعد صلاة المغرب، وهو توقيت غض تنحدر فيه خيوط الشمس على مهل، تاركة ظلال الهدوء والسكينة على النفوس، إضافة إلى أنه التوقيت الفاصل بين صلاتي المغرب والعشاءº حيث يتحصل الجالسون على أجر انتظار الصلاة: \"فذالكم الرباط\".

كما أن استقبال المغرب بهذا البرنامج القرآني الترتيلي، ثم صلاة العشاء، يحيي في النفوس أحوال الليل والعبادة، إلا أن أهم ما يميز الحلقة- بجانب أنها قرآنية- كونها أداة دعوية تخلق حالة من الارتباط الوثيق بين المجتمعين: \"تغشاهم الرحمة، وتتنزل عليهم السكينة\"º بحيث تنفتح المسام، فإذا نوافذ القلوب مشرعة، وعلى استعداد لقبول الودِّ وتبادل النصح، فكثيرون- كثيرون- مرٌّوا إلى حقائق الإسلام الكبرى من بوابة المقرأة المسجدية البسيطة، وكانت أحكام النون الساكنة والتنوين مقدمة لأحكام الشورى في النظام السياسي الإسلامي، والسير ترشدنا أن الطريق إلى سقيفة بني ساعدة بدأ من حلقة دار الأرقم.

أما رائد الحركة فهو إنسان بسيط من عموم الناس، مثلنا.. جارنا.. زميلنا.. تخصصه ربما يكون في الطب أو الهندسةº وهو ما يعطي انطباعًا هامًّا بسهولة العلم الذي يتم تدريسهº حيث إن عدم تخصيص قائد الحلقة أكاديميًّا في أحكام التلاوة جعله يقدم معلومته لرواده، وهي بكر منزوعة الحواشي، منسلة عن تعقيدات ومصطلحات ربما تكون سببًا في نفور البعض، ويرفع من سهم تشوق هذا العلم توجهه نحو التطبيقº حيث تتحول النظرية إلى نبرة، والشرح إلى نغم، فشعار المقرأة النظرية أننا جالسون لا لنتعلم فقطº ولكن لنطبق ما نفهم.

وبعد الحمد والثناء، يبدأ قائد الحلقة في شرحه للحكم الذي يتم تدريسه ربما يستعين ببعض الرسوم التوضيحية التي تبين مواضع مخارج الحروف، وعادة ما ينهي بيانه النظري بقوله: \"إن شاء الله، أثناء التلاوة ستتضح الأمور أكثر\"، وبالفعل يكتشف التالون ما يحدثه نغم التجويد على التلاوة، والفرق الذي يظهره على القراءةº حيث تترشح أصداء الإيقاعات التنغيمية مع نداءات المعاني القرآنية، فإذا النفس مشرقة مرهفة الأشواق سابحة في سيكولوجية من طرب الأنسº بل هي طائرة تمرح على مواطن الجمال.. ربما يكون هذا هو الاطمئنان الذي تشير إليه الآية: \" أَلاَ بِذِكرِ اللهِ تَطمَئِنٌّ القُلُوبُ \" (الرعد: 28).

 

 واستثمارًا لتلك الحالة الوجدانية يعمد قائد الحلقة، وبعد انتهاء دورة التلاوة واستخراج الأحكام، إلى ضرورة عدم اختصار دور المتلقي في القراءة والتطبيق: \"من عنده خاطرة فليأتِ بها\"، وإن هي إلا لحظات حتى تنهمر من سماء الخواطر فيوض من التجليات تتسلل باستحياء على ألسنة هؤلاء المريدين، قد تصل في أوقات الشفافية إلى غوص مبهر أو كشف مدهش، أو إطلالة إلى عالم الغيب برَوحِه ورَيحانِهِ، تكون سببًا في تكثيف العواطف، وإدرار المدامع.

ولكن ما يلبث الكل في نهاية تلك الخواطر إلا أن يقول: \"الله أعلم بمراده\"، فالجميع على فيض الكريم، وإن ما تيسر لبعضهم في العلم لا يمكنهم أن يقولوا الكلمة الفصل أو الرأي النهائيº ولأنها حلقة صوتية- مهمتها صناعة الجمال وإشاعة الشاعرية- فلا مانع أن ترتفع على قرب نهايتها دندنة إنشادية تحيل الجمع الذي زينه التٌّقى إلى حفل نوراني يجعل من التعارف- الذي يعقب الإنشاد- وصلة طربية أخرى تنتشي لها قلوب المتعارفين، والذين يكتشفون بعد التعارف أنهم مجموعة من الهواة حول القرآن تحلقوا، وبين رياض الجنة (حلق العلم والذكر) تجمَّعوا، وبالدعاء الذي يقطعه آذان العشاء تُطوى الحلقة استعدادًا للصلاة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply