الأدب الإسلامي والالتزام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الالتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون (بنظرية الفن للفن) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار معين، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصة، يحرص عليها أشد الحرص ويدافع عنها في استماتة، فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب، ومنافٍ, للقيم الفنية والجمالية، يلتزمون ـ سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، واعترفوا به أم لم يعترفوا ـ بقواعد ومبادىء. الالتزام إذن منهج وأسلوب عمل وفق تصور معين، ويمكن القول: بأنه تقيد بمضمون أو بشكل، وهو أمر قديم، قدم الفنون والآداب، لكنه لم يف قيداً على النمو والتطور سواء في مجال الإبداع والفكر، وهكذا يجب أن نفهمه، إن الكاتب ـ أي كاتب ـ في أية لغة من اللغات يلتزم بقواعد النحو والصرف مثلاً، ويعرف أن للنثر طريقة، وللشعر أسلوبه، والخلط بين الأثنين قد ينجب مولوداً ثالثاً يجمع بين صفات الشعر والنثر، وقد تغلب على ذلك المولود صفة أحدهما أكثر من الآخر، دون أن يلغي ـ أي الوليد ـ واحداً من الاثنين، وللشعرـ في القواعد المعترف بها ـ إيقاع وموسيقى برغم الدعوات المشبوهة التي تريد أن تسقط الفارق بين ما هو شعر أو نثر في هذه الصفة الهامة، وللألفاظ دلالتها التي لا تموت مع الزمن، فدلالة الشجرة أو النهر أو السماء تظل كامنة في اللفظ يعبر عن ذلك، على الرغم من ألوان المجاز والكناية، فالبحر قد يرمز إلى السعة والكرم، وقد يرمز إلى العنف والثورة، وقد يكون محط الغموض والخوف، أو قد تشرق على شاطئه ثغور الأمل، أو تتهادى على صفحة عرائس السفن، وهكذا يبقى اللفظ بدلالة الأولى، مع ما قد يرمز إليه من عديد المعاني والصور وقديمها أو جديدها، إنه نوع الالتزام نحو اللغة بقواعدها ودلالاتها الأصلية، وينفتح باب الالتزام على مصراعيه أمام الدلالات المجازية، التي تشكل جانباً هاماً من جوانب الإبداع الفني.

وهناك ما يمكن أن نسميه الالتزام الداخلي أو الذاتي، وهو الوجه الآخر للصدق، فالتعبير عن النفس وما يعتمل فيها، والفكر وما يتفاعل فيه، والخيال ما يضطرم به، والروح وما ينبث عنها، كلها أمور خاصة قد تميز أدبياً عن آخر، وتجعل من الإبداعات ـ شكلاً ومضموناً ـ تجارب لها صفة الخصوصية، على الرغم من أنها تبدو في إطار النسق العام لهذا اللون الأدبي أو ذلك. فقد يتناول أدبيات حادثة بعينها ـ تاريخية أو معاصرة ـ لكن يكون لكل منهما رؤيته الذاتية، بعينها، دون أن يتناول ذلك بعض الأساسيات في فن القصة أو المسرحية أو القصيدة، فلسوف يظل هناك الحبكة أو الصورة الفنية المتميزة، وسيظل جو المتعة والتأثير، برغم تفاوت القدرات والأساليب، فهل يستطيع منصف أن ينكر ذلك الالتزام الداخلي أو الذاتي؟

 

لكن يدور الجدل عادة حول ما يمكن تسميته (بالالتزام الخارجي) إن صح التعبير، ففي كل مجتمع قيود أو نظم تم وضعها لتستقيم الحياة، وتتسق العلاقات، وهي أمور قانونية أو اقتصادية أو أخلاقية، وكثيراً ما يثور حولها الجدل، فقد يرى بعضهم فيها، غمطا لحقوق الإنسان، أو كبتاً للحريات، أو جموداً في مجال التطور، وهي على التيقض مما يتصوره واضعوها، والفنان يقف إزاء تلك النظم موقف التأييد، أو موقف الرفض، وقد نرى فريقاً ثالثاً يتحايل على التملص من هذه النظم بأسلوب أو بآخر، لكن يظل الالتزام بها هو الموقف السائد أو الغالب، ويكون ذلك الالتزام أشد كلما تصلبت مواقف السلطة، ولجأت إلى العقوبات الصارمة، واستغلت سلاح المصادرة أو المحاكمة أو التنكيل، وهذا أوضح في النظم الدكتاتورية بالذات، حيث يتحول الأديب ـ برغم أنفه ـ إلى بوق للسلطة التنفيذية، وترجمان لفلسفتها وقناعاتها، وهنا تتضاءل حرية الأديب، ويصبح الالتزام ضرباً من الالزام، ولعل هذا هو السبب الذي حدا ببعض النقاد إلى القول بأن الالتزام ينبع من الداخل، والإلزام يأتي من الخارج، ولكن الأمر يبدو صحيحاً في عمومه، وإن كنا لا نستطيع قبوله على إطلاقه، ففي المجتمعات الدكتاتورية قد نرى أدباء مؤمنين بهذا الأسلوب في الحياة عن عقيدة ويقين، ويعبرون عن قناعتهم تلك بفن يبدو جذاباً مؤثراً، كما نرى في إطار المذاهب المتمردة كالوجودية واللامعقول أدباء ملتزمين بتصوراتهم الفلسفية عن الإنسان والكون والحياة، ويعبرون بذلك عن رضى وقناعة، ويقدمون نماذج أدبية ذات جمال أو جاذبية من نوع خاص، ويحفل شكلها ببريق أخاذ يخدع جماهير عريضة من القراء، وخاصة في أوروبا وأمريكا، إن هؤلاء ملتزمون، ولا يشعرون بأي قيد من قيود الإلزام.. أليس هذا حادثاً؟ قد نرفض ذلك ونعتبره (التزاماً) منحرفاً أو مريضاً، ينبو عن المقاييس الإنسانية الرفيعة، ويتعارض مع القيم الدينية السامي ة، لكن الالتزام عند مثل هؤلاء الناس قد يلقى منهم الرفض، وينفرون منه أشد النفور، ولا يقرون بالحرية وحدها ولا يلتزمون بسواها. لكن ماذا يعني الالتزام في الأدب الإسلامي؟ الالتزام بمعناه الإسلامي الواسع هو (الطاعة). والطاعة الحقيقية قناعة إيمانية، وفرح في قلب المؤمن، وسلوك مطابق لحقيقة العقيدة وكل ما يتعلق بها، الالتزام إذن عمل، يبدأ بالنية الصادقة، والعزم الذي لا يتزعزع، وينطلق من ممارسات واقعية في مختلف جنبات الحياة، إنه وئام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الآخرين، وهو يضم تحت جناحيه قيم الحياة الإسلامية وقوانينها أو أحكامها،

وتصورات المؤمن لما يحيط به من كون وسنن، وحيوان وجماد ونبات، ويمتد ذلك التصور ليربط الحياة الدنيا بالآخرة، ومرجع ذلك كله هو كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والنفس ليست قوة تائهة ضالة، وإن كانت مسرح جهاد دائم، وصراع مستمر، فالصعود دائماً ليس حركة سلبية، والتسامى لا يتحقق دون جهد. وعمل المؤمن اليومي هو جهاد نحو الأفضل، ولا يموت الصراع مادام قوانينه وطرقه، له حلاوته ومراته، وفيها روعة النصر وألم الهزيمة، والأمل باق دائماً، وبالتالي فالمؤمن الحقيقي صاحب موقف.. وفي هذا الموقف لا يكون الإنسان وحيداً حائراً منبت الصلات، كما يحدث لدى العبثين أو الوجوديين وغيرهم، لكنه يستند في موقفه إلى رحمة الله وعونه وهدايته (.. ما فرطنا في الكتاب من شيء) (الأنعام: 38) فلا عدوانية إذن ولا غرابة ولا اغتراب، أو يأس أو أو إكتئاب.. أو بمعنى آخر الطاعة هي المخرج من صحراء الخوف والآلام والتمزق والضلال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً.. كتاب الله وسنتي.. ).

الالتزام هنا هو الطاعة، والطاعة تجد النور الذي يهدي، والغاية التي تتألق، والوسيلة التي توصل، والبيان التي تقنع، والتجربة التي تؤكد، واليقين الذي ينداح سعادة كبرى بين الجوانح.. فهل هذا الالتزام داخلي أم خارجي؟

إنه هذا وذاك، بل الأصح أن نقول: إن التصور الإسلامي، يجعل من الاثنين شيئاً واحداً، إنه الكل في واحد، أو وحدة الصفاء والتآلف والتجارب، فما في نفس المؤمن أو قلبه، ينسكب حباً وعدلاً وهداية، ويضيء جنبات الحياة، وما في الوجود من صور وحياة وكائنات، يتحول عبر التأمل الحواس تتداخل مع بصيرة المؤمن فتعطي للوجود كمال وروعته، وتؤكد معنى الإيمان بالله.

والالتزام ـ كما هو واضح ـ التزام مضمون، وهو يقتضي بداهة الحرص على اللغة العربيةـ لغة القرآن ـ فالحرص على قواعده ودلالاتها الأصلية، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما في كتاب الله من قيم وأحكام ومبادىء، يستوي في هذا الحرص الناطقون بالعربية والناطقون بغيرها في البلدان الإسلامية.

وارتباطنا بأشكال الفنون الأدبية يكون حفاظها على التمييز بين لون وآخر، كما أننا لا ننكر الصلة الوثيقة بين المضمون وما يتطلبه من شكل مناسب، ولهذا نعتقد أن باب التجديد في الأشكال باق ما بقيت الحياة، ولا قيد على هذا التجديد إلا ما أسلفناه من حفاظ على أصالة اللغة العربية وقواعدها، ولا شك أن ثراء اللغة العربية، وإمكاناتها الواسعة، وضوابط قواعدها المذهلة، في الصرف والاشتقاق وغيرهما، تجعلها قادرة تماماً على تقبل الأشكال الجديدة وتطورها، فالأشكال الفنية للعمل الأدبي ميراث عام مشترك جدواها، وتحققت فيها عناصر الجمال، وكانت قوية الأثر في النفس.

والالتزام ليس نقيض الحرية بمعناها الأصيل، إن مفهوم الحرية يختلف من فلسفة إلى أخرى، فالحرية في الدول الشيوعية ترتبط بلقمة العيش، ولا مجال لرأي أو فكر يضاد الفلسفة الماركسية أو يخرج على نظام الدولة، والحرية في أوروبا الغربية وأمريكا وغيرها لها مفهومها في حرية رأس المال، وفي التعبير الفردي مهما أضر بالقيم، أو جانب الطبيعة الإنسانية السوية، ويبقى الإنسان مع ذلك مقهوراً تحت وطأة الحياة الآلية، والعزلة القاتلة، والتمزق الاجتماعي، والتسيب الخلفي، ولا بأس أن يتمرد أو ينتحر أو يغرق نفسه في خضم المخدرات والمسكرات والجنس.. فهذا حقه.. أعني حريته..

وفي الإسلام هناك ضوابط لم يخترعها فرد، وموازين لم ينصفها حاكم بمحض فكره وإرادته، إن الضوابط والموازين من صنع الخالق - جل وعلا -، وهي أحكام ليست مجال تحيز أو افتئات أو نزوات، روعيت فيها طبيعة الإنسان وإمكاناته وقدراته النفسية والعقلية والبدنية، أحكام لم تنبع من موقف آني سرعان ما يزول، أو ارتبطت بإنسان خاضع لسنة الموت والحياة، أو تصاعدت من رغبة دون أخرى، أو ارتبطت بقهر الإنسان وتطويعه وإهدار كرامته وإنسانيته، هذه الضوابط والموازين أو الأحكام هي من صنع الخالق الرحيم العادل (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) غافر: 19، وهي في جملتها وحي (إن هو إلاّ يوحى) (النجم: 4)، والمسلم خاضع لحساب الدنيا ـ وفق الحدود والعقوبات الشرعيةـ ولحساب الآخرة عند من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

وحرية المسلم في هذا الإطار، حق القوي والضعيف، والحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والمالك والأجير، ولك مطلق الحرية في مالك بشرط أن تكتسبه من حلال، وتنقية في حلال، وتعطي كل ذي حق حقه (.. وآتوهم من مالِ الله الذي آتكم) (النور: 33)

والمعاشرة الجنسية حق في إطار المشروع، والسلطة حق في نطاق العدل الإلهي، والاستمتاع والرفاهية حق دون رذيلة أو وزر أو فساد، وهكذا نستطيع أن نسرد الاحتياجات والطموحات الإنسانية، فنجدها حلالاً طالماً لم تهدر حقوق الله أو العباد.

حرية المسلم مرتبطة بعقيدة، وبالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه.. والالتزام في هذا التصور لا يتضاد مع الحرية الأصلية، فلا هي مفسدة له، ولا هو معطل لها ـ ألم نقل في بداية هذا الحديث: إن الإلتزام هو الطاعة، والطاعة موقف، وبالتالي فإن الحرية تصبح من أهم الحقوق للإنسان المؤمن، ورحم الله عمر - رضي الله عنه - إذ يقول: (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ً)، فالحرية دين وفطرة، ويتبلور الموقف في وقفة الصديق رضي الله عنه، حينما يعلن أمام أمته أنه إذا خرج عن إطار الحق الذي رسمه الله - سبحانه - فإنه (لا طاعة لي عليكم)، إن عدوان الحاكم، وإهداره لمنهج الله، إهدار للحرية وبالتالي فلا تجب الطاعة له..

الالتزام في فكرة المؤمن وقلبه ليس نقيضاً للحرية، فكيف يكون الالتزام الإسلامي نقيضاً للحرية وهي جزء منه؟ والالتزام الإسلامي ليس جموداً وتحجراً.

 

وذلك لأنه التزام بالثوابت والأصول التي لا تتغير أبد الدهر، فالتوحيد عقيدة مستقرة لا تغيير فيها، والعبودية وحق، وفروض العبادة لمن وهبك الحياة، وأنعم عليك بما لا يحصى من النعم لا جدال فيها، والشورى أصل من أصول الحكم، والعدل عمادة، والصدق أمانة ـ كما قال أبو بكر - رضي الله عنه ـ والكذب خيانة، وهكذا تبقى القيم الخالدة ما بقى الدهر، ويبقى الالتزام بها حفاظاً على الحياة، وحماية لها من الزيغ والفساد والانحرافات والظلم والفتن.

 

الحرية تكون حقيقة عندما يتحرر الإنسان من قيود الخوف وشهوة المال والجسد، وعندما ينطلق من سجن المادة وبطش السلطة، وأطماع الحياة، وعندما ينتصر على الأنانية المريضة، ويفك عن روحه وفكره وجسده حبائل الشيطان.. تلك هي الحرية.

يقول (بيرك): (إن الحرية يجب أن تُفيد لكيما تُمتلك) (1). ويقول آخر: (إن هناك رغبة متنامية في أدب القرن العشرين لاستعادة الدور والمركز الديني في ذلك الزمن، إذ غدت المخاوف والحرية التي تنطوي عليها نظريات الزمن في تطورها مما لا يصمد أمام النفس)(2).

 

وإذا كان الوجوديون يرفضون ذلك عندما يعلنون أن الحرية لا تبدأ إلاّ بعد إنكار وجود الله، فإنهم لا يشكلون إلا فريقاً زائغاً، بينما الكثيرون غيرهم لا يؤيدون ذلك الموقف، والحرية في الإسلام تكون بدايتها الحقيقة هي الإيمان بالله، على النقيض تماماً مما يتوهمه الوجوديون والماديون (خاصة الماركسيون) وغيرهم.

 

الفهم الإسلامي للحرية فهم واقعي منطقي، وإذا لم يكن هذا الفهم مطبقاً في عالمنا، إلاّ أنه القاعدة التي تنطلق منها نظم الحكم الديموقراطية في العالم، على الرغم من تفاوتها في درجة الفهم، وتحويره من جيل إلى جيل، ويبقى التصور الإسلامي للحرية قمة عالية مطهرة، تتألق عليها قيم الحياة والإنسان، لا يعروها وهن، أو تتداولها أهواء ونزوات، أو تنال منها مصالح طبقية أو فئوية مهما كان العذر، ومهما تعددت التفسيرات.

 

والالتزام ـ في نطاق الحرية الإسلامية ـ لا يضع قيداً على فكر، ولا يعطل مسيرة أي جهد علمي، ولا يصادر إبداعاً، إنه تحرير للطاقات الإنسانية كي تؤدي دورها، وتحقق ذاتها، ولا يحد من طبيعة التفاعل إنساني الخلاق، وإذا كان التفاعل الكيميائي ـ بلغة العلم ـ له اشتراطاته وضوابطه حتى يتم وينجلي عن مركب جديد، فإن الحرية ـ إن صح التعبير ـ تحوطها اشتراطات وضوابط تجعلها تفعل فعلها على النحو الأمثل، فيتشكل الإنسان على هيئة كيان معبر عن قيم الحضارة الإسلامية، وبذلك يؤدي دوره في الحياة، ويواصل الرسالة الخالدة بالصورة الصحيحة، دون تحريف أو تبديل، ومن ثم يقوم مجتمع متآخ متناغم، ينطبق عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) أو كما قال. والأدب الإسلامي وسيلة لحمل هذه القيم، والتبشير بها بين البشر، يترنم بها في قصيدة جميلة، أو يرويها في قصة شيقة، أو يمزجها في إطار مسرحية تشد الألباب والقلوب، وتؤثر في النفوس، والالتزام بذلك جزء من طبيعة هذا الدين، ومسؤولية من مسؤولياته الكبير ة الكثيرة، وطريقة من طرائقه في التوصل بين الإسلام وبين بني البشر قاطبة، وذلك حتى تزدهر براعم الحب والخير والفضيلة في أنحاء الأرض، ويتحقق المجتمع الأمثل الذي تحلم به الآمال، أو (المدنية الفاضلة) الحقيقية، التي كدح وراءها خيال الفلاسفة طوال القرون. والالتزام الأمثل انبثاق تلقائياً من قلب المؤمن وفكرة ونفسه، وهو ليس تصوراً هلاميّـا، أو شعوراً عاماً، لكنه حقيقة واقعة، تقوم الأحكام والآداب الإسلامية بتوصيفها، وتحديد ملامحها.

ولقد عاش شعراء الإسلام الأوائل، رأسهم حسان بن ثابت، في إطار هذا الالتزام، وهم ينافحون عن الدعوة، ويدفعون هجمات الشرك والوثنية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسفهون أحلام الجاهلية والضلال، ويرسمون المنهج السليم لحركة الإنسان المؤمن في الحياة. وعاش حكام المسلمين الأوائل أيضاً في إطار هذا النظام أو هذا الالتزام، كما عاش الجندي في معارك الجهاد، والقاضي، على منصة القضاء، وصاحب رأس المال وهو ينمي تجارته، أو يطور صناعته، كذلك عاش الفقيه واللغوي والطبيب والمؤرخ والجغرافي والرياضي وغيرهم.

إنه الالتزام الشامل، الذي يعد الالتزام بمعناه الأدبي أو الفني شريحة منه، لا يمكن فصلها أو فصمها، ذلك الالتزام ـ كما أوضحنا ـ فن وفكر وسلوك وعلم، ومن هذا المنطلق يصبح للأدب رسالة شامخة، وعطاء متجدد، يحقق المتعة والفائدة معاً، ويسكب رحيق السعادة والأمل في الوجدان، وينفي عن النفس ذلك (الشقاء الدائم) الذي عبر عنه (أيونيسكو)، ويبدد ذلك (الكابوس الوجودي) حيث يغيب العقل والسماح والأمل كما يقولون، ويجعل الحياة جديرة بأن تعاش في طاعة.

الالتزام الذي قدمه الله نعمة لبني البشر، وتكريماً لهم، وحماية لكرامتهم، غير(الإلزام) الذي يساق إليه الناس سوقاً بالسياط والحديد والنار، والذي يظلل آفاقه سحابات الرعب والوعيد والعذاب..ذلك لأن الالتزام بمعناه الواسع ـ كما قلنا ـ هو الطاعة والالتزام هو الجحيم الذي صنعته حماقة الإنسان على الأرض.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply