بسم الله الرحمن الرحيم
صديقي / الطبيب المسلم الملتزم …
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
في محاورةٍ, قريبة العهد معك، كنا نتحدث عن التداوي وعن حق المريض في رفض العلاج. فنقلت فتوى تحفظها من المذهب الحنفي أن للمريض أن يرفض التداوي، وأن مسألة التداوي والمعالجة لا ترقى إلى مرتبة الواجب، وأن الموضوع لا يتجاوز الإباحة والتخيير بشكلٍ, ينفي الحرج والإثم عمن اختار رفض التداوي والعلاج.
ولقد عجبت صديقي أشدّ العجب لارتياحك إلى هذه الفتوى، وكان عجبي أشدٌّ عندما رأيتك لا تشعر في هذا النقل عن بعض فقهاء المذهب الحنفي ما يتعارض مع ما درسته ومارسته في علم الطب طوال هذه السنوات الطوال. ولذلك فإنني أريد في هذه الكلمات أن أشير إلى موضع الخلل في الإخلاد إلى قولٍ, فقهيٍ, يعكس درجة الظن بنجاعة وسائل المعالجة في عصر تدوين تلك الفتوى، في مسألةٍ, هي من صلب اختصاصك وخبرتك في هذا الزمان، أكثر من كونه يعكس حقيقة المقاصد الشرعية في هذا الموضوع الخطير.
أنت تعلم أيها الصديق العزيز أن حفظ الحياة هي مقصدٌ أصيلٌ وكليةٌ شرعيةٌ أباح الشارع من أجلها شرب الخمر وأكل لحم الميتة والخنزير عند الحاجة، حتى أن ابن مسعود يقول فيما نقله ابن كثير في تفسيره \"من اضطر فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار\".. فهل يستقيم في منطق الشرع وتوجيهات القرآن الكريم أن نستريح إلى الفتوى المذكورة على إطلاقها؟ وهل يمكن اعتبار وقف النزيف أو الحقن بالسوائل لمنع التجفف الداخلي أقلّ ضرورةً لحفظ الحياة من شرب الخمر وأكل الميتة عند الاضطرار والخوف على الحياة؟
وأصارحك صديقي العزيز أنني أشعر الآن أكثر من أي وقتٍ, مضى أنه لابد من إعادة النظر في تراث الفقهاء وعطاء العلماء، والأهم من ذلك في نظرة طريقة تعامل المتخصصين المسلمين مع ذلك العطاء، لنفرق بين التشريع الخالد والقيم الأصيلة والمقاصد الكلية لرسالة الإسلام من جهة، وبين محاولات جيلٍ, من الأجيال أو عصرٍ, من العصور لتنزيل تلك القيم والمقاصد على واقعهم ومعطيات عصرهم وأهل زمانهم من جهةٍ, أخرى.
فإذا توجه أهل الخبرة والاختصاص والثقة في كل علمٍ, من العلوم وفنٍ, من الفنون إلى إجراء تلك المراجعة، للموازنة بين عطاء العلماء الأقدمين وبين ما وصل إليه العلم في زمانهم وفي مجالهم الذي يعرفونه ويفهمون دقائقه وتفصيلاته، كان ذلك هو الدليل على خلود الشريعة وخاتميتها وصلاحيتها على مدى الأزمان والعصور. فما كان من خصوصيات العصر والمكان والظروف والأحوال في عطاء الأقدمين تركناه وكان بالنسبة لنا مثالاً تطبيقياً يدلنا على مدى الحكمة والفهم الذي تمتعوا به في محاولتهم لتنزيل المطلق الخالد على معطيات الواقع المحدد المحصور، وعلى مستوى التكيف مع الواقع عند محاولة الصياغة ليتوافق مع توجيهات الشريعة ومع قيم الوحي الخالدة.
إن روح قضية التجديد الذي ندعو إليه أيها الصديق إنما يتمثل في نشر الوعي بكليات الشريعة الخاتمة ومقاصدها وقيمها الحاكمة، حتى يتمكن أصحاب الاختصاص والخبرة في كل مجالٍ, من إجراء عملية المطابقة والمساهمة في صياغة الواقع ليتوافق مع شريعة الإسلام، ولكي نتمكن في الوقت نفسه من تقويم عطاء الأجيال السابقة في محاولاتها الخاصة للحياة بالإسلام، ونميز بعد ذلك على ضوء المقاصد وعلى ضوء ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية في كل مجال بين ما يجب أن نحتفظ به ونؤصِّله، وما يجب أن ننفيه عن الشريعة وننزهها عنه من الأفكار والاجتهادات البشرية التي ضمن الله - سبحانه - الأجر لأصحابها.
إن الفتوى التي نقلتها أيها العزيز عن المذهب الحنفي في قضية التداوي والعلاج تُعتبر مثالاً نموذجياً لما يجب أن يتصدى له أهل الخبرة، بدل أن يركنوا إلى ورَعٍ, باردٍ, يحاولون به إعفاء أنفسهم مما يجب عليهم من الاطلاع بمهمةٍ, لا يحسن القيام بها غيرهم.
وإنني لأؤكد أن الطبيب المسلم الحاذق من أمثالك - هو المرجع الوحيد الذي يستطيع أن يقرر غلَبةَ الظنِّ في الشفاء عند استعمال علاجٍ, أو دواءٍ, مستنداً في ذلك إلى خبراتٍ, متراكمة وإحصائياتٍ, متوفرة. وهو وحده الذي يستطيع أن يُرجّح ويوازن بين الاحتمالات وما كان منها أقرب إلى اليقين أو إلى الوهم والوسوسة.
وعندها فقط يمكن القول على بينةٍ, ووضوح فيما إذا كان العلاج يندرج في مرتبة الواجب لأنه ضروريٌ في حفظ النفس، أم أنه ينتقل على سلّم الأهمية ليكون اختياراً، بناءً على معطيات معينة كأن يكون ظنيّ النتيجة إلى درجةٍ, كبيرة أو يصل الأمر ببعض أنواع العلاج إلى أن يكون مجرد وسوسةٍ, ووهمٍ, إذا ما قرر أهل الاختصاص بأنه لا علاقة بينه وبين الشفاء.
وكم كان عجبي شديداً، صديقي العزيز، من كتابٍ, صنّفهُ أحدُ علماء الشريعة وقرأتهُ حديثاً، وقد تكلّفَ فيه ما لا يُحسن و لا طاقة له به وهو يحاول إثبات حكم عدم الجواز لزرع الأعضاء ونقلها من إنسانٍ, لآخر، وقد ألحق هذا الحكم بالمنع الوارد الأحكام الفقهية في مسألة التمثيل بالإنسان، وذلك نظراً إلى كرامته، مضيفاً أن نجاعة هذه العمليات موهومةٌ، الأمر الذي دعاه في النهاية إلى إثبات جواز نقل الدم فقط!!
وإن الإنسان ليتساءل: هل يمكن مطالبة علماء الشريعة بالإحاطة بكل فنٍ, وكل علمٍ, حتى يتجنبوا مثل هذه السقطات؟ وهل يمكن أن يتحقق ذلك لو طلبناه أم أنه من باب التعجيز وطلب المستحيل؟
وختاماً صديقي العزيز، إنه لابد لكل مسلمٍ, غَيورٍ, آمنَ بخلود شريعة الإسلام وخاتمية الرسالة من أن يتوجه إلى دراسة مقاصد الشريعة وقيمها الحاكمة في موضوع اختصاصه، ويطيل في ذلك النظر والمشاورة والدراسة، حتى يكون مؤهلاً دون غيره لاقتراح الحلول والآراء للمشكلات التي تواجه الأمة في موضوع علمه ومجال اختصاصه.. وعندها فقط نكون قد خطونا الخطوة على طريق التمكين للإسلام من جديد، وعلى طريق إعادة النضارة والحيوية لقيم الوحي الخالدة، وتنقيتها من الركام الذي طغى عليها عندما أعطينا القداسة والعصمة لاجتهاداتٍ, بشرية ومحاولاتٍ, إنسانية تأثرت بالزمان والمكان في كل ما أبدعت ودوّنت وأنتجت من عطاء..
واسلم لصديقك المحب
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد