بسم الله الرحمن الرحيم
يعتقد الشاعر السعودي عبد الله بن صالح الوشمي أن البيئة المحلية في المملكة تزخر بمفردات خصبة في دلالتها، وعميقة في إشارتها، وهي تحتاج لمن يحركها من سكونها، داعياً الشعراء إلى الانغماس فيها أكثر والالتفات إليها.
وأكد الوشمي الذي يعمل محاضراً للأدب العربي بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض أن انتماء الشعراء لمذهب أدبي معين يحدّ كثيراً من إبداعهم، ويُعدّ ذلك \"مأزقاً\" يقع فيه الشعراء.
وقال في حوار مع (الإسلام اليوم) إنه يكتب ما يراه أنه يستحق لفظة الشعر دون أن يلتفت إلى الأشكال والاتجاهات.
وأقر بوجود أزمة في التواصل بين الشعراء والقرّاء، وأرجع ذلك إلى إصرار الشعراء على التقيد بشكل ومذهب معين في شعرهم، مما يجد معه القارئ غرابة في النص.
انشغالاتك المتعدّدة لم تمنعك من الحضور المستمر في ذهن الساحة الشعريّة السعوديّة..فما موقع الشعر في عبد الله الوشمي؟
لعل أنسب الإجابات لسؤال كهذا أن أرحل بك إلى التراث الذي يعطينا مفهوماً يحاصر الشاعر بأنه من يشعر بما لا يشعر به الآخرون، والذي أمتلئ به جيداً أنَّ الشعر بوصفه ملاذاً مهماً في هذا الزمن الصعب لم يعد لينكفئ داخل قارورة القصيدة أو الديوان أو حتى الأمسية حين تحشر نفسك داخل سيارتك متجهاً وفق رسومات كروكيّة ميّتة تحدّد لك مكان الشعر.الشعر أكبر من أن يُحاصر في أشياء كهذه، إنني حين أتعاطى الشعر لا أبحث عن ذاتي الصغيرة بكل ما أحمله من آمال وآلام، وإنما أبحث في المطلق عن المطلق، إن الشعر نوعٌ من الذبذبات المغناطيسية التي يجتهد الشاعر في التقاطها، ومن ثم ملئها بموجاته هو، وحينها تصبح القصيدة دماً وهواء يتنفسه الناس حيث كانوا.الشعر هو محاولة منك أن تقول ما يجتهد الناس جميعاً أن يقولوه: المحب والزوج والصغير والعامل والجميع. ويأبى الشعر إلا أن يطلّ برأسه في كل منعطف يمر به الإنسان في هذه الحياةº فنحن نمارس الشعر حتى في أكثر لحظاتنا حاجة إلى العقل والوعي فنقول قصائد الحرب والحب والرثاء، ومع ذلك فمن منّا يستطيع أن يقول: لا للشعر!!
هل تفضل اتخاذ منهجٍ, أدبي تُصَنّف ضمنه أم تترك للمتلقي أن يراك كما يريد؟
حين تحضر القصيدة يموت النقاد، وحين تُشير القافية بطرفها وتغمز للمتلقي فلا مجال أن يتفلسف الناقد، وأمام جمال المرأة الاستثنائي فإنَّ كل مواصفات الجمال العالمية تصبح شيئاً من الترف الميت! الشعر ـ كما أحبه أن يكون ـ ليس طريقة لتقديم التعازي الرسمية، أو \"معاريض\" الوظائف، الشعر هو البكاء أو الفرح الذي يُفاجِئك حتى ولو كنت في أكثر اللحظات حرجاً، هو أن تتوقف الحياة لحظة أمام اندلاق الجمال في طريقها. لا زمان الشعر ولا مكانه تستطيع أن تحاصره في ثقب منهج أو مذهب إلا على سبيل الوصف والتقريب لا أكثر.
وإذا كانت هذه هي أفضل المناهج في استحضار الشعر، وأنه لا سيّد إلا الشعر نفسه، فإنَّ تصنيف الشاعر لا قيمة له من حيث الفنّيات، ماذا قال النقاد كلهم عن شاعر كنزار، وهو الذي ملأ سمع الدنيا مع الاختلاف معه؟ وماذا يقوله النقد اليوم عن قصيدة التفعيلة أو النثر، وهما الشلال المتدفق الذي لا يوقفه إلا أن يموت الشعر فيه.
يبدو لي ـ أحياناً ـ أنه من الترف والفقاعات ما نمارسه من معلّقات نقديّة تجتهد في تتبع الشاعر كمخبر سريّ مفضوح، فحيناً يجيء الناقد من الأمام، وحيناً من الخلف، وحيناً من بين يدي الشاعر، وحيناً يغتاله من الأرض!
ولعل المأزق الكبير هو أن يقع الشاعر في فخ المذهب واستلابه، وأن يقول ما يفرضه المذهب في حال انتمائه، أو قبل انتمائه حين يشعر أنَّ الالتزام المذهبي نوع من الإبداع، ويعلم الشعراء وحدهم أن الشعر سيّد نفسه، وأنَّ كل المذاهب النقديّة هي كنظريّات التربية التي يتشدّق بها الأزواج، وبعد أول طفل تجدهم يعجزون عن إسكاته لو صرخ!
ما سرّ ارتواء قصائدك الدائم بروح بيئتها الأصيلة؟
تعيش القصيدة في حقل مبدعها كما يعيش الجنين في رحم أمه، وهو الذي يمتلئ بها كما تمتلئ به، ويظلٌّ حبله السري وسيلة إلى أن يتم تشكيله وفق معايير لا تنفصل كثيراً عن هذا الرحم المبدع.
وهكذا القصيدة التي تعيش زمناً طويلاً كطاقة من الورد، وتتربى في حجر مبدعها، وتظل ثقافته تمارس هيمنتها تجاه اختياراته اللفظية والمعنوية، ولا يستطيع أن ينفك عن هذه الآصرة التي تشدّه إلى فضاء بيته، يُقال هذا بالإضافة إلى أنَّ طريق العالمية لا يبدأ إلا من خطوة واثقة في محيط المحلية.
وفي بيئة كبيئتي وثقافة كثقافتي التي أنتمي إليها أحسب أن الشاعر ملوم حين يغضّ طرفه حيال مفاتنها، وهي التي تبالغ في التبرّج أمامه، ويرحل إلى ما متّع به غيره من الزينة القشر أو من قشر الزينة التي لا جذور لها، وإنما تخفق سريعاً إذا ما اجتهدت في البحث عمّا وراء الشكل، إن مفردات البيئة المحلية خصبة في دلالاتها، عميقة في إشاراتها، ولا تحتاج إلا قدراً من الهزّ وتحريك المشاهد لتكون كعود المسك كلما هززته فاح طيباً.
هل مازال بإمكاننا أن نتخيّل الجمال ونصلح بالأدب ما أفسده الواقع؟
أتساءل كثيراً عن الأثر الذي يصنعه الكلام في الأفعال، وهل من الممكن أن يُقال: إن قصيدة قد تهزم مدفعاً أو واقعاً؟ والذي أعتقده يقيناً أنَّ الأدب ما زال ممتلكاً للعصا التي يضرب بها موات الأرض، ويصنع من صمتها هذا الحراك الكبير، وإذا كنتُ أؤمن أن موقع الشاعر الثقافي يتجه إلى الخمول بسبب يعود إلى الشاعر نفسه فإن موقع الشعر ما زال حصيناً، ولئن كانت الشعراء في الجاهلية بمنزلة الأنبياء كما يقول أبو عمرو بن العلاء، فإنَّ أثر الشعر بدأ بالتحوّل، واتخاذ مواقع تأثيريّة مختلفة، وتخلى لظروف العصر وتقانته العالية عن الدور الإعلامي الفاقع، فأصبح سجلاً لتدوين الإنجازات المادية، ولكنه ما زال مستودعاً للإنجازات أو الإخفاقات الروحية، وما زال يختبئ كطائر الكنار داخل عشّ الفكر، ويمارس زقزقته الرائعة.
أقول ما مضى مع يقيني بأنّ الشعر لا يحل، ولا نستطيع أن نمنحه وظيفة الأنشطة الأخرى، فنحن نبحث عن الشعر المربي حين أخفقنا في التربية، وعن الشعر المعلم حين أخفقنا في التعليم، والأولى أن ندرك أنَّ الشعر له وظيفته المحدّدة التي تصنعها جماليّاته دون أن تُفرض عليه!
(الله كم يعرفني الرحيل.. أنا الأزاهير التي تهجرها مواسم الرحمة والهطول) معانٍ, تشدّ رحالها وغربة تلقي (بخيالها) هل هي غربة روحٍ, أم جسدٍ, أم كلاهما معاً؟
أحسب أن مفهوم الغربة بحاجة إلى تحرير أكثر من استخدامه كمرادف للشعر حيث كان، فأنت حين تتحدث عن الغربة والهجرة والصمت، فأنت تقصد انكفاءك داخل ذاتك، ومحاولة للعودة إلى محرابك الداخلي والبكاء فيه.
إن الشاعر يسعى أن يرسم غربته داخل ذاته أولاً، وداخل مدينته ومجتمعه وعالمه حيث المفارقة كبيرة بين المبادئ والواقع، بين هذه القفزة العالية النبرة في النهضة المادية وبين الارتباك الذي تعيشه المجتمعات على مستوى ثقافي، إنك تشعر بأنَّ القفزة الحضارية المادية الكبرى إلى الأمام قابلها قفزة فكرية على مستوى المبادئ بنفس الحجم، ولكنها إلى الخلف، قد تبدو الرؤية تحمل نوعاً من التشاؤم، ولكنها رؤية الشاعر الذي يسكنه طيف معين، ويؤرقه حد الوجع وحد الامتلاء به.
يُلاحظ أن أغلب قصائدك تكتسي أصالة متجدّدة \"إن صحّ التعبير\".. كيف لك أن توازن بين تقليدك وتجديدك؟
دائماً أكرّر أن الشعر هو الشعر في أي زمان أو مكان، ولو حضر بيننا أبو تمام لأصبح كما كان واحداً من كبار المجدّدين كما أعتقد، وأنا في قصائدي أبحث وأجتهد في أن أصل إلى الشعر، وحينها تغيب أمامي المضامين والاتجاهات والأشكال، ولا يحضر إلا جمال الفن الذي يُسميه البحتري (عروق الذهب)، لا يعنيني كثيراً أن أتساءل عن شكلي الشعري ومستوى انتمائه، وإنما الذي يعصف بي أن أكتب ما أعتقد أنه يستحق لفظة الشعر من الوجهة النقديّة التي أتبناها على الأقل، لقد ارتقى الشعر مرتقى عالياً عند أسلافنا الشعراء حتى رأى الفرزدق أنَّ جيده يستحق السرقة، وأنَّ له سجدة يعرفها كما يعرف القرّاء سجدة القرآن، وإنك لتستحي ـ أو هكذا يجب ـ أن تكتب قصيدتك دون أن تتعب من أجلها، وأنت تنشرها في أرض كانت منذ القدم أرض امرئ القيس والأعشى وحسان وغيرهم من آباء الشعر العربي.
هناك من يرى أن بعض قصائدك تنتهي قبل نهايتها.. بمعنى أنها تبقى قابلةَ لإضافة ما يمكن أن يكون كلاماً لم يُقل. ماذا ترى أنت؟
أقف احتراماً لرأي قارئي وناقدي، ولكنني أعيش تجربتي الشعرية غارقاً فيها حدّ الثمالة قدر استطاعتي، وحين أنتهي منها يجب أن تقف القصيدة، ويبقى أن ما قد يظنه المتلقي نوعاً النهاية أعدٌّه نوعاً من الصمت الناطق، وهو الفراغ والصمت الذي يقول ما لا يقوله الكلام.
والشاعر يحمل خبرته الجماليّة ويختزنها في داخله كنتيجة للتراكم الثقافي الذي يمرٌّ من فوهته، ومن ثم فإنه في اختياراته يفيء إلى مرجعيّته هذه، وتغدو صناعة النص نوعاً من الفلسفة التي تُعاش ولا تُقال، أوهي تُدرك ولا توصف كما هي عبارة السّكاكي.
(قاب حرفين) هل يمكن اعتباره مرحلة َ تجاوزت بها الكثير من الوجدانيّة في ديوانك السابق (البحر والمرأة والعاصفة) إلى آفاق جديدة؟
بداية أحسب أنَّ الحكم هنا لا يعود للشاعر، وإنما يقبل عليه الناقد والمتلقي، وأما ما أراه فهو استباق الشاعر في أن يقدّم الجديد، وأن يجتهد في كتابة نصه الخاص به، وأن يترك ما يجيده غيره لغيره، وأن تجيء القصيدة تحمل أمشاجاً من أمشاجه، وشيئاً كبيراً من ملامحه.
الشعر في نظرك هو البكاء الخارجي الذي لا يمكن للشاعر كتمانه.. والبعض يعامله كتجربةٍ, فلسفية وينأى عن حقيقة كونه تجربة إنسانيّة بحتة.. كيف تعلّق على ذلك؟
أنا لا أؤمن بالقصيدة اللغز وبالقصيدة الأحبولة، ولكني أؤمن بالقصيدة التي ترقى إلى اهتمام المتلقي خاصة في هذا العصر المادي حتى نخاعه، كيف لشاعر مهما كان أن يسرق من أوقات الناس أو صحفهم دقائق أو مقاطع دون أن يعطيهم ما يستحقونه، وهم الآتون للتوّ من ناطحات السحاب والقنوات الفضائية وأجهزة الإنترنت والبلوتوث؟ إنَّ مضايق الشعر وشق الأنفس التي تحفٌّ الإبداع دائما تتكرر، وفي كل لحظة ولكنها تلبس لبوس العصر، فكما هو معقّد فإن مشاكل الشعر تأتي معقّدة. لا بد أن يستوعب الطرفان: الشاعر والمتلقي، أنَّ القصيدة اليوم تختلف عن قصيدة الأمس، وأنها تراوح بين المنبر والورقة، وأنَّ حس الشفاهية الذي كان سيّداً بدأ يتجه إلى الخفوت وربما التلاشي، وهو ما يفرض على الشاعر مراعاة الحساسية في توقيت النشر ومكانه وكيفيّته.
هل ترى الشعر في هذا الزمن (غريباً فاقداَ للوجهة)؟
هناك أزمة على مستوى التواصل الذي يسعى إليه الشاعر مع قرائه، وإذا كان المعنى الذي يحتضنه الشكل أو هو الوديعة -كما يسميه الخطابي- غاية يسعى الشاعر إلى أن تصل مع حروفه وموسيقاه إلى المتلقي، فإنَّ ضرواة أزمته أن يجد المتلقي نوعاً من الغرابة في القصيدة، ومع أنَّ الشعر بطبيعته ليس معنياً بأن يكرّر السائد، وأن يعيد نقل المألوف، وإنما هو مغرم بالتقاط النادر والمدفوع بالأبواب، وأن يبث الغرابة في تضاعيف قصيدته، إلا أنَّ التواصل مع المتلقي يُشكل حاجزاً صعباً على الشاعر أن يستحضره كثيراً في ذاكرته.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد