بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
نرحب بالشيخ عبد الله الأثري الذي يعد أحد الأوجه الإسلامية البارزة في تركيا، والذي يقيم هناك منذ أكثر من عشرين سنة، وله جهود معروفة ومباركة في الدعوة والنشاط الدعوي هناك.
* بداية نرحب بك شيخ عبد الله، وبودنا لو تعطينا فكرة عن الأعمال التي تتولاها أو تشرف عليها في سبيل الدعوة إلى الله بتركيا؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
الحديث عن تركيا حديث ذو شجون كبيرة وطويلة، وقبل أن نبدأ الكلام عن عملنا في تركيا يجب أن نعرف ما هي طبيعة الشعب التركي، نحن نعلم أن تركيا كانت بلاد الخلافة العثمانية، وقد سقطت قبل سنوات طويلة، إلا أن الكثير منا يجهل طبيعة الشعب التركي، وفي الحقيقة إن الشعب التركي لديه ميزة خاصة نجدها منذ اليوم الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث حسن: (اتركوا الترك ما تركوكم)، وهذه ما أعتبرها ميزة لهذا الشعب، ثم إن هذا الشعب له إمبراطوريات كبيرة أسسها عبر تاريخه الطويل، ويبلغ عددها نحو 16 إمبراطورية كانت آخرها الدولة العثمانية التي نعرفها، ومنها 3 إمبراطوريات تأسست خلال العهد الإسلامي، وبرأيي فإن إحدى ميزات هذا الشعب أنه لا يقتنع بأي شيء جديد بسهولة، وإذا اقتنع به فإنه لا يتركه بسهولة، ويبدو أن مشكلة الدولة الإسلامية هناك أنها قامت على المذهبية، فنجد فيها المذهب الحنفي، والعقيدة الماترودية، وأفكار صوفية، ونشرتها في جميع أرجائها، وفي المقابل لم نجد في تركيا خلال الخمسمائة أو الستمائة سنة إبان الدولة العثمانيةº أي مصلح على طريقة أهل السنة والجماعة، وبطبيعة الحال يوجد مصلحين كثر إلا أن هؤلاء كانوا يقومون بالدعوة على طريقتهم الخاصة، حيث يدعون للعودة إلى الدين والشريعة، إلا أنهم ليسوا على طريقة أهل السنة المحضة، لذلك اشتد الجهل بين الناس من هذا الجانب، وتأصّل التعصب المذهبي والأفكار الصوفية، والعقيدة الماترودية وما لحقت بها، وبعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا، وبسبب قربها من أوروباº شهدت تلك البلاد أول تجربة لدولة علمانية تم إقامتها على أنقاض دولة مسلمة كانت تعتبر مظلة لأهل السنة أو للإسلام عامة، وعندما تم إقامة هذه الدولة العلمانية تم على أسس ودراسات مركّزة ومؤصلة، بحيث استطاعوا أن يغيروا أشياء كثيرة في تركيا، وهذا ما ساعده انتشار الجهل أصلاً بين الناس، حيث كان موجوداً في أواخر الدولة العثمانية أي تقريباً قبل 250 سنة، عندما بدأت الدولة العثمانية في الانحدار (الثقافي) الذي رافق الانحدار السياسي، وخلالها اشتد الجهل بالدين، والتعصب الديني والمذهبي وغيره، ولما جاءت الدولة العلمانية قامت بمسح التراث والثقافة الموجودة بشكل كامل، وبتعبير آخر قطعت نسل الثقافة الإسلامية، فعلى سبيل المثال قامت الدولة العلمانية بتغيير الحروف العربية واستبدالها بالحروف اللاتينية، وبذلك فإن الجيل الثاني من الأتراك لم يعد على إطلاع أبداً على التراث السابق، ولتبيان أهمية ذلك أشير إلى أننا عندما نريد أن نبحث في مسألة علمية فإننا نرجع إلى كتب تراثنا وأجدادنا وعلمائنا السلف، ونجد ما أخطأنا فيه وما أصبنا، أما هم فإنهم لم يستطيعوا القيام بذلكº لأن الجيل الناشئ لا يستطيع الرجوع إلى تلك الكتب المكتوبة باللغة العربية، بل حتى المترجمة منها لا يستطيعون العودة إلا إلى المراجع والكتب التي تتيحها الدولة، والتي تشرف بشكل مباشر على أمور الإسلام، فبات من غير الممكن الرجوع إلى الكتب والنظر مثلاً في المذابح التي حصلت خلال بداية الدولة العلمانية، وهي مذابح وقعت بالعشرات منها مذبحة (القبعة) التي أجبر الناس خلالها على نزع (الطربوش) العثماني ولبس (القبعة) الإفرنجية، والتي ذبح فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، بل حتى أنهم قاموا بتغيير الأذان في سابقة لم يشهد لها التاريخ، فصار الأذان يرفع باللغة التركية، وتبدّل بها نطق حتى كلمة (الله أكبر)، وغيروا اسم (الله) إلى اسم (الآلهة) كترسيخ لهذا المسمى العام، كما أنهم منعوا المصاحف باللغة العربية مدة عشرين عاماً، ولم يسمحوا إلا بالقرآن المطبوع باللغة التركية، إلا أنه مؤخراً وبعد أن فرض الاتحاد الأوروبي على تركيا بعض الحريات عاد الأذان يرفع باللغة العربية، وعادت بعض المصاحف مطبوعة باللغة العربية بدعوى التعددية والديمقراطية المزعومة.
والآن نجد انتشاراً للصحوة من جديد بالتزامن مع ذلك، لكنها صحوة محدودة بالجوانب الثقافية العامة في الإسلام، شهدت خلالها ترجمة العديد من الكتب الفكرية والتعريفية بالإسلام، أما كتب الأصول والعقيدة والشريعة فلم يترجم منها شيء كثير بل القليل النادر، وأذكر أنني لما قدمت قبل 21 سنة تقريباً إلى اسطنبول ناقشت بعض أهل العلم هناك في مسألة فقهية على المذهب الحنفي، وأصروا هم على خلاف ما قلته برغم أننا ننظر في مسألة على المذهب الحنفي، وهم أيضاً أحناف، ما حدا بي أن أطلب منهم المراجع الحنفية التي يستندون إليها، فلفتني أنهم يستندون إلى كتابين أحدهم فتاوى هندية، والآخر حاشية ابن عابدين، فأخبرتهم أن حاشية ابن عابدين مرّ عليها مئة سنة، وهي مرجع معتبر غير أنه يوجد من الأصول في المذهب ما هو أقوى منها، ومنذ ذلك الوقت أيقنا أنه بعدم وجود مراجع أصولية في تركيا، فقررنا إنشاء دار نشر نترجم من خلالها الكتب الصحيحة لنشر مذهب أهل السنة والجماعة، والحمد لله مكثنا 17 سنة تقريباً ونحن نعمل على ذلك، أسسنا خلالها الدار، ونشرنا من 65 - 70 مطبوعاً بين كتاب ومجلّد وكتيّب، ولدينا 35 مطوية، ونحاول الآن إصدار بعض الأشرطة، ونحاول أن نختار الكتب في العقيدة، وفي الدعوة والمنهج الصحيح، وعرض ما ليس فيه مواجهات أو اختلاف، أي أننا نحاول عرض الإسلام الصحيح دون مواجهة مع الآخر، إلا إذا اضطررنا للمواجهة أو الرد على بعض الأفكار المضللة بطرق غير مباشرة، أي أننا على سبيل المثال لا نقول \"إن العقيدة الماترودية هي عقيدة خاطئة وغير صحيحة\" بل نروج لكتاب يحوي العقيدة الصحيحة، ونقول فيه: \"إن هذه العقيدة هي عقيدة أبي حنيفة\"، فالقارئ التركي يقرأ هذا الكتاب، ويبدأ يشعر أن العقيدة الماترودية غير صحيحة، والحمد لله خلال العشرين سنة قطعنا شوطاً كبيراً، فقبل 13 - 15 سنة لو سألتني كم عدد السلفيين الموجودين المستوعبين لأصول دينهم لقلت لك إنهم لا يتعدون أصابع اليد، أما الآن فإن الذين نعرفهم أكثر من ألف، والذين لا نعرفهم ربما أكثر، والزيادة مستمرة ما نعرف منهم ومن لا نعرف.
ويمكن القول: إن مشكلة الدعوة السلفية في تركيا أنها دعوة كانت ولادتها غير طبيعية، بمعنى أنه وفقاً لما تقدم فإن الدولة العثمانية لم تشهد ظهور مصلحين سنيين، ولكنها شهدت ظهور مصلحين على الطريق، فإلى أقصى شرق العالم الإسلامي، وأقصى غرب العالم الإسلاميº ظهر مصلحون، أما في تركيا الحديثة فإنها لم تشهد ظهور أي من هؤلاء الدعاة المبتعدين عن الدعوة إلى الصوفية أو الماترودية أو غيرها، فكانت ولادة الدعوة بنا بأن دخلنا بالدعوة السلفية - والحمد لله - بين الناس، وساعدنا أن بعض الشباب ذهبوا للجهاد في أفغانستان، والتقوا هناك مع عرب سلفيين، ثم جاؤوا ونقلوا تلك الأفكار، وعزز ذلك وجود من عملوا في ألمانيا خصوصاً أو في أوروبا عموماً، وآخرين درسوا في الجامعة الإسلامية، أو في الأزهر، ثم نقلوا الأفكار عن السلفية إلى الناس، ونحن هنا حاولنا ترشيد هذه الصحوة السلفية، مع العلم أن تركيا بشكل عام تشهد صحوة إسلامية عامة، وبالتالي فإننا نحن نعتبر أنفسنا ننتمي لصحوة في داخل صحوة.
* من يشارك السلفيين هذه الصحوة في الوقت الحاضر، ومن هي أنشط التيارات الأخرى الناشطة في مسألة النشر العلمي، والتحرك الدعوي الجماهيري؟
التحرك الدعوي الجماهيري كبير في تركيا لأنها صحوة عامة، لذلك تجد العديد من الفصائل الدعوية، وهناك أتراك من أحزاب سياسية أو جماعات صوفية، أو جماعة سليمانجية، أو غيرها من الجماعات الكثيرة التي تنشر الكتب الإسلامية، وتقوم بتنوير الناس بدينهم، إلا أن الدعوة بالطريقة العلمية القائمة على الأصول والعقيدة وعلم الحديث تكاد لا تكون موجودة إلا في الدعوة السلفية فقط.
* لكن لو سألنا عن هذه ماهية هذه التيارات الدعوية فمثلاً هل يمكننا النظر إليها كما لو كانت محاكية لتيار الإخوان المسلمين في بلدان العالم العربي لكن بخصوصية تركية؟
لا أعتقد ذلك، خاصة وأنهم يرون أنفسهم فوق تيار الإخوان المسلمين، حيث يرون أن الإخوان نجحوا في بعض المسائل فيما فشلوا في مسائل أخرى من الناحية السياسية، فالتيار المقابل هنا يعتبر أنه قد نجح في دخول البرلمان، ووصل إلى سدة الحكم أكثر من مرة، فمن هذه الجهة يرون أنهم أكثر نجاحاً من الإخوان سياسياً، حتى بالنسبة إلى الوجود العالمي، والمشاهد أن الأتراك ينظرون إلى العرب نظرة دونية نوعاً ما، فهم يرون أنهم نجحوا فيما فشل العرب، وأنهم قد حكموا العرب أربعمائة سنة، ويعتبرون أنهم أكثر شعوراً بالمسؤولية الدينية من نظرائهم المسلمين العرب تجاه دينهم، ولذلك كثيراً ما يتذكرون موقف الثورة العربية، والشريف حسينº الذين يعتبرون أنه خان العثمانيين.
لكننا والحمد لله استطعنا أن نؤثّر في الشارع التركي عبر الصحوة العلمية الموجودة الآن بين جيل الشباب، وأسوق لك مثالاً أنه عند بداية قدومي إلى تركيا كان هناك أحد التجار من أبها، والذي نسّق مع إحدى دور النشر التركية، ونشر عبرها مجموعة فتاوى ابن تيمية مترجمة إلى اللغة التركية، وكانت خمسة مجلداتº ولكن الناس هنا كفّروا دار النشر، وتكلموا ضد ابن تيمية بما لا يليقº فقالوا: إنه ضال مضل يفتن الناس، لكن الآن ولله الحمد بعد توفيق الله عز وجل، وبعد تلك الجهودº تعتبر كتب شيخ الإسلام وابن القيم الأكثر مبيعاً في الساحة، وشعبياً أضحت معروفة منذ نحو 10 سنوات.
* هل هناك محاولة للتواصل من قبل التيار السلفي مع القيادات العلمية والمشتغلين بالعلم الشرعي في تركيا من الأتراك تحديداً؟
نعم يوجد تواصل، ولكن هناك صعوبة في ترسيخ القناعات، فكما أسلفت فإن الأتراك إذا اقتنعوا بالشيء كان من الصعب تغيير وجهة نظرهم بسهولة، ولكننا نقوم بجهد كبير مع شباب الصحوة الآن، وأذكر لك على سبيل المثال أن نحو 99% من تيار المثقفين الإسلاميين في الجامعات الإسلامية التركية - والتي يطلق عليها اسم الكلية الإلهية - والبالغ عددها 7 كليات متأثرين بفكر الاعتزال، ويقدمون العقل على النقل، وهم يؤصلون هذا المذهب بشكل كبير في الإذاعات والإعلام وغيره، وبات ينتشر بشكل كبير وقوي هناك، بل إن بعضهم ذهب أبعد من ذلك بالتطاول على شيخ أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل حيث يقول البعض منهم: \"إنه رأس البلية في العالم الإسلامي لأنه عارض التقدم العقلي\"!!
* ألم يكن هذا الفكر موجوداً على عهد العلماء السابقين؟
ربما كان في السابق موجوداً، وكان يعتبر فكراً شاذاً، ولكن الآن يقوم الكثيرون بتأصيله ونشره.
* لننتقل إلى موضوع آخر وهو الممارسات الشعائرية الإسلامية، وتحديداً فيما يتعلق بالعبادات أو اجتناب المنهيات، هل هناك تغير في هذا الإطار لدى الشعب التركي؟
نعم يوجد تغيير هناك، فالتغيير سمة العالم، وتركيا من ضمن هذا العالم المتغير، وأرى أنه تغيّر نحو الأحسن بإذن الله، وعندما تسير في الطريق اليوم تلحظ اختلافاً كبيراً عما كان عليه الوضع قبل 20 عاماً، فالآن توجد صحوة في الشارع والمجتمع، وهي صحوة مميزة جداً، ولعل من أكثر المظاهر التي تغيرت وباتت تلفت النظر كثيراً هو الحجاب الإسلامي، بالإضافة إلى الأشياء الأخرى المتعلقة بالثقافة الإسلامية وغيرها.
بطبيعة الحال توجد مسائل عديدة تتعلق بالفكر السلفي الذي تدعون إليه، وتنشطون إليه، برأيك هل توجد خصوصية معينة داخل هذا التيار في المجتمع التركي؟ بمعنى آخر ربما تنقلون التجربة السلفية عن السعودية أو غيرها من الدول الإسلامية، فهل تنقلونها كما هي في بلدانها بآلياتها وأولوياتها إلى تركيا؟ أم ترون أن هناك نوعاً من الخصوصية لهذا المجتمع؟
برأيي أن الداعية الناجح يجب عليه أن يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - عندما يأتيه شخص يسأل عن فتوى فإنه يفتي له بما يحتاجه، فحين سأله أحدهم بما يوصيه قائلاً \"أوصني يا رسول الله\" قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"بر والديك\"، فيما قال للثاني الذي سأله نفس المسألة \"لا تغضب\" وهكذا.
ونحن هنا إذا نقلنا نفس التجربة الموجودة في دولة أخرى إلى المجتمع التركي فإننا سوف نقع في خطأ كبير، بل ومواجهة كبيرة، لذلك أرى أن الداعية الناجح يجب أن يختار ما يلائم المجتمع الذي يدعو فيه، وأن يدخل البيوت من أبوابها، فعلى سبيل المثال لدى جميع الناس فعل ورد فعل قد يكون معتدلاً أو غيره، أما هنا فإن التركي لديه رد فعل مبالغ فيه، أي لديه إفراط في رد الفعل، وكل فعل يحدث فإنه لديه له رد فعل، بالإضافة إلى نظرته المتعالية، لذلك يجب علينا أن نعرف كيف ندخل إلى نفوسهم، ونحاول أن نطرق الأبواب عليهم، ونعرض المسألة بحكمة.
وأنا لدي قاعدة وهي أن على الداعية أن يجلس في بيته - وذاك أفضل له - إذا لم يتحقق عنده شرطان أساسيان، أو رصيدان إذا صح التعبير: الرصيد الأول: حب الناس له، والثاني: ثقة الناس به، فالناس إذا لم يثقوا فيك وبعلمك ونيتك وإخلاصك فإنهم لن يسمعوا لك ولن يحبوك، فنحن أحياناً نستمع لأحد المشايخ أو العلماء وهو يلقي علينا كلاماً لطيفاً جميلاً، فترتاح له، ونقول: \"ليت هذا كان صاحبنا\"، فالحب مهم جداً في مثل هذه الأمور.
* هل تيسر لكم أن تخوضوا غمار الدعوة من خلال الإعلام الشعبي التليفزيوني أو الإذاعي أو المطبوع؟
للأسف إلى الآن لم يتيسر ذلك، ولو قست عمر الصحوة هنا لأدركت أنه لم يفتنا الكثير، على سبيل المثال عمر الصحوة في السعودية مثلاً أو في مصر عمرها عشرات السنين، وإلى الآن يوجد تقصير في ذلك، أما هنا فإن الدعوة لم يمض عليها أكثر من 10 سنوات تقريباً، ولا نزال بحاجة إلى كوادر، ربما تقول لي \"أسس مجلة\"، وسأقول لك \"لا تتوفر الإمكانيات لدي لذلك\"، وربما قلت لي أسس جمعية فأقول لك: ربما أستطيع تأسيس الجمعية مادياً، ولكن من أين لي بالكوادر لتسيير أمورها، وربما أحكم عليها بالفشل إن قمت بذلك الآن، لذلك أرى من الحكمة الآن تأجيل هذا الموضوع، فضلاً عن أن التركي لديه حساسية عالية من البروز السريع للبعض، فهو إن رأى تياراً أو جماعة برزت سريعاً فإنه يسأل مباشرة \"من أين جاء هذا؟\"، فإن طبعت كتباً كثيرة قال \"هذا إذن مدعوم!\"، مع العلم أن كل شي يندرج تحت مسمى \"مدعوم\" فهو غير مرغوب فيه أبداً، بل إنهم ليسوا معتادين على توزيع الكتب المجانية، لذلك ومع كثرة طرق توزيع الكتب لدينا إلا أن هذه تعتبر مشكلة هنا.
* ما هي أبرز المطبوعات التي ترون أن لها رواجاً هنا، ونجحتم من خلالها في نشر هذا الفكر الدعوي؟
أود أن أذكر حادثة هنا وقد حصلت معي في بداية قدومي إلى هنا أي قبل نحو 18 عاماً، ففي ذلك الوقت جاءني أحد أصحاب دور النشر وقال لي \"يا شيخ عبد الله، لم نستفد منك حتى الآن بأي شي، ولم تعطنا أي كتاب لنترجمه، ولم تشر علينا بأي كتاب\"، ولأن الأتراك يحبون الشكل الموسوعي في الكتب فقلت له \"لك عندي كتاب ممتاز جداً، سأعطيك موسوعة عن حياة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو كتاب زاد المعاد لابن القيم، وسيفيدك كثيراً\"، فطلب أن أوفر له الكتاب فوفرته له بالفعل، وهو كتاب في خمسة مجلدات، ولكن بعد أسبوع جاء إلي وقال \"يا شيخ عبد الله هذا كتاب وهابيّ\"، فقلت له: \"هذا كتاب ألفه شيخ متوفى قبل خمسمائة سنة من قدوم محمد بن عبد الوهاب\"، قال \"ربما لن يشتريه أحد مني\"، قلت له: \"إذن أنا أشتري منك خمسمائة نسخة منه نقداً إن لم يشتره منك أحد، اطبع وتوكل على الله\"، فنشر إعلانات في الجرائد وفي المحل تشير إلى أنه سوف يطبع موسوعة، فجاءه أحد التجار واشترى نسخة من الكتاب، وجاء بثلاثة مترجمين، وقام بترجمة الكتاب، وطبعه قبل صاحبنا، ثم قام صاحبنا بنشر الكتاب بعده، وسبحان الله انتهى الأمر بطباعة الكتاب عدة مرات، وبيعه على نطاق واسع، لدرجة أن إحصائيات مبيعات الكتب ذكرت أن هذا الكتاب (زاد المعاد) حقق أعلى نسبة مبيعات في تركيا خلال الثلاثين سنة الأخيرة من بين الكتب الإسلامية، وكان له دور كبير في إحداث تحول في فكر الشباب التركي، ذلك الفكر الذي كان جامداً على مذهب واحد، وأذكر لك حادثة للاستدلال على عقلية شباب الصحوة آنذاك، قبل 18 سنة كنت في زيارة إلى مدينة تقع وسط تركيا اسمها (قونيا)، وكان معي أمير جماعة وهي جماعة ليست متصوفة وإنما من شباب الصحوة الناشئة، والذين لديهم وعي سياسي، وفي الطريق الذي يمتد لأربع ساعات جمعت في الصلاة، فأنكر علي ذلك، وقال \"بأي حق تجمع الصلاة في الطريق\"، فحاججته وقلت له: \"أنتم تقولون أربع مذاهب حق - أي هناك أربع مذاهب على الحق في الإسلام - ومن هذه المذاهب الأربعة توجد ثلاثة مذاهب تجيز الجمع في الطريق، وتفرد المذهب الحنفي في غير ذلك\"، ورغم ذلك بقي مصراً على رأيه بأنني مخطئ.
فمن عقلية هذا الرجل يمكن الاستدلال على كيفية التعصب والجمود الفكري آنذاك، ولكن كتاب زاد المعاد الذي ذكر أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل الناس يعرفون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي صلاة وافقتها المذاهب الأربعة جميعها، وبات يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم بالصلاة وغيرها وفق ما جاءت به المذاهب الأخرى غير مذهب الحنفية، بل إن إحدى دور النشر المتعصبة قامت بترجمة الكتاب مرة ثالثة إلى التركية، ولكنها ثبتت في الهوامش المذهب الحنفي بما يخالف كتاب زاد المعاد.
وبشكل عام فإن أكثر الكتب مبيعاً لدينا الآن هو كتاب \"حصن المسلم\"، وحصن السلم تم بيع أكثر من نصف مليون نسخة منه ولله الحمد في تركيا، وهناك أيضاً من الكتب التي لاقت قبولاً كبيراً كتاب \"الطحاوية\" و\"شرح الطحاوية\"، فضلاً عن كتاب \"الواسطية\"، وهناك كتاب لي بعنوان \"الوجيز في عقيدة السلف الصالح\"، والذي تم طبع 200 ألف نسخة منه، وتم توزيعها كهدية مع إحدى الجرائد الإسلامية في يوم واحد بتركيا، وكان لها قبول كبير في صياغة تفكير شباب الصحوة حيث إن الجريدة كانت موجهة لطبقة الشباب الإسلاميين المثقفين.
* هل لدى الشخص التركي أو المرأة التركية ميزات فيما يتعلق بحب القراءة والاطلاع وحب المعرفة أكثر مما لدى الشخص العربي؟
مع الأسف الشعب التركي مثل الشعب العربي بعيد عن القراءة وتثقيف نفسه، وهنا تبدو تربية أو توجيه الدولة لها تأثير كبير جداً في هذا المجال، وأذكر أنني أول ما وصلت تركيا، وكنت أرى الطبقة المثقفة العربية تقرأ الجرائد صباح كل يوم، شاهدت في الباص وفي الباخرة وغيرها الكثير من الأتراك حتى العمال منهم يمسك كل واحد منهم بجريدة، ويقرأ ما فيها، فقلت: \"هم إذن مثقفون\"، ولكن فيما بعد تبين لي أن تلك الجرائد التي يقرؤونها هي جرائد تافهة، تنشر أخبار الفنانين واللصوص والمجرمين، ولا يوجد فيها ما يثقّف، وهذه من الأشياء التي تشغل بها الدولة الناس خاصة في ظل قسوة المعيشة التي يعاني منها غالبية الناس هنا، وعلى سبيل المثال فإن الإنسان العادي يخرج من منزله الساعة 7- 7.30 صباحاً، ولا يعود إله إلا بعد الساعة 7 - 7.30 مساء، فهو منشغل تماماً.
* إذن هل ترون أن التحدي الأعظم في الدعوة - وخاصة الدعوة السلفية - ليس من داخل التيارات المناوئة، بل هو تيار الفساد المتغلغل منذ أيام سقوط الخلافة؟
أعتقد أن هذا التيار له التأثير الأكبر بالفعل، وأنا عندما بدأت في الدار ونشر الكتب كنت أتوقع ظهور ردود فعل تبلغ ربما 50%، مع العلم أنني متفائل جداً في الدعوة، ولكن ولله الحمد لم نشهد إلا ردود أفعال في حدود 5 - 10% فقط، وكانت محدودة، والحقيقة أننا لدينا نحن في دار النشر سياسة معينة، حيث أننا نحاول قدر المستطاع أن لا نواجه، ولا نهاجم، وردودنا تكون عادة غير مباشرة، ونكتفي بعرض الإسلام بشكل صحيح وميسّر، ففي كتاب \"الوجيز في العقيدة\" عرضنا عقيدة أهل السلف من الألف إلى الياء، ولم نتعرض أبداً إلى ذكر أي شيء يسمى صوفية أو ماترودية، أو أشعرية أو غيرها، كما أن لدي توجه فيما يتعلق بالتأليف بالتركية، فرغم معرفتي باللغة التركية إلا أنني أفضل أن يقوم بذلك أناس من داخل المجتمع نفسه، خاصة وأن النظرة للأجنبي تبقى مريبة دائماً، لذلك فإنني أقوم بربط بعض الشباب الأتراك معي لمدة سنة أو سنتين حسب كفاءتهم وذكاءهم، ثم بعد ذلك أطلقهم للدعوة إلى الله.
* هل هذا الارتباط الذي ذكرته على شكل حضور دروس معينة لكم أم زيارات للدار وغيرها؟
للأسف في تركيا ممنوع إعطاء دروس في المساجد، ولا تقام في المسجد إلا الصلوات الخمسة فقط، ثم تغلق بعد كل صلاة، لذلك فإن الدروس عادة ما أقدمها في دار النشر أو في بعض البيوت، على أن لا يتعدى عدد الحضور أكثر من 5 - 10 أشخاص، فنحن نتوجه للنوع لا للكم، وهؤلاء الأشخاص يقومون بالدعوة في الإطار المحلي لهم، وينشرون هذا الفكر.
وأكثر ما أركز عليه في دروسي على العقيدة والمنهج الصحيح، وألفت النظر هنا إلى أننا نشهد في تركيا قدوم وفود تيارات مختلفة من العالم الإسلامي خاصة الطلاب الذين درسوا في الخارج، لذلك نجد التيارات التي تتحدث عن الجامية وبعض أنصار الفكر التكفيري أو التفجيري، ولكن نحن نحاول قدر المستطاع الرفق بهم، والتعامل معهم كأم تحتضن أبناءهاº لأننا كلنا إخوان في الدين، ولا نحاول الأخذ بالشدة، لأن الشدة تولّد رد فعل ضدها.
* ما هي الاحتياجات التي ترى أنها تحتاجها الحركات في تركيا، وتود إيصالها سواء إلى طلبة العلم والمشايخ في العالم العربي أم عامة المسلمين في العالم العربي؟
برأيي أن أهم شيء علينا الاهتمام به الآن في تركيا هو الكتاب، وصحيح أن لدي دار نشر، وأن دور النشر في العالم الإسلامي كثيرة جداً، وأن تلك الدور تضخ كتباً بالآلافº إلا أن تركيا فقيرة في ذلك، ووضعها مختلف تماماً، وأرى أن الكتاب الإسلامي في تركيا بات كمصحف عثمان، فأنت عندما تجلس مع التركي وتشرح له العقيدة والمذهب الصحيح يقول لك \"أين أجدادي خلال الـ700 عام الأخيرة عن كل هذا الكلام، لماذا لا أجد له أثراً في كتاباتهم أو كلامهم\"، ولكن عندما تعطيه كتاباً، ويبدأ بقراءة علماء من السلف لم يكن يعلم بهم، ويرى كتباً ومراجع تذكر له ذلكº فإن وقعه يكون أبلغ عليه.
لذلك أرى أن الكتاب الإسلامي له الوقع الأكبر والأقوى الآن في تركيا، فالكتاب الإسلامي هو الذي يرشد الصحوة، وأعتقد أنه مهما نشرنا كتباً الآن في تركيا فإننا سنجني ثمار ذلك ولو بعد 10 أو 20 عاماً، ونحن والحمد لله بدأنا بجني ثمار ما غرسناه قبل سنوات طويلة هنا.
* ما هي التكلفة التقريبية لطباعة الكتاب هنا على سبيل المثال ما تكلفة كتاب \"حصن المسلم\" ترجمة وطباعة وبيعاً؟
بتقديري فإن طباعة 10 آلاف نسخة من كتاب مثل حصن المسلم مع ترجمته تبلغ تكلفتها نحو 3 آلاف دولار، أي تقريباً أكثر من ريال واحد للكتاب الواحد، أما كتاب من الحجم الكبير يضم مثلاً 500 صفحة فإن تكلفة الكتاب الواحد يبلغ تقريباً 3 ريالات، الغلاء ومستوى المعيشة هنا ارتفع جداً خلال الفترة الأخيرة خاصة بعد أن ارتبطت العملة والميزانية هنا باليورو، حتى إن الأدوية قد ارتفعت أسعارها بنسبة 35%، وبدأ الكلام عن ارتباط العلاج بالعلاج الأوروبي، والتعامل بشأنه باليورو.
وأود التأكيد على أن الكتاب الإسلامي له دور كبير في تركيا، مع العلم أن تركيا هي مفتاح شرق أوروبا والجمهوريات الإسلامية هناك كما هو معروف، ولها مكانة كبيرة في قلوب المسلمين هناك، لذلك تجد ولله الحمد أن أذربيجان وغيرها من الجمهوريات الإسلامية قد انتشرت فيها الكتب الإسلامية بشكل كبير جداً، فضلاً عن ألبانيا وكوسوفا، وخاصة الذين يتكلمون اللغة التركية، ويتعاطفون مع الأتراك، فالتركي له وقع كبير في قلوبهم.
* هل بات لمن يشاركونكم نفس المنهج ونفس النشاط الدعوي حضور في تركيا؟ أقصد هل أصبحوا مثلاً رموزاً لهذا التيار في البلد؟
كما أخبرتك من قبل يوجد إخوان وافدون من عدة دول إسلامية، ولديهم أفكار ومذاهب، وتجد البعض منهم بات يشكل رمزاً من رموز الدعوة والسلفية، والبعض الآخر أنشأ مدرسة له، كما صار لبعضهم دور نشر تتبنى نفس الفكر مع بساطتها، ولكن تبقى مكتبة \"الغرباء\" الحاضنة للجميع.
* هل حقيقة أن السلفيين أكثر ما يتواجدون في اسطنبول؟
نعم تقريباً، ولكن ولله الحمد نحن من هنا نتواصل مع 70% تقريباً من المدن التركية والتي لدينا معها علاقات وارتباط، ولدينا هناك أخوة متعاونون نتابعهم ونرسل لهم كتباً، وندعمهم بزيارات وإن كانت قليلة، وهم يزوروننا طبعاً، فضلاً عن الفتاوى بالهاتف والفاكس والإيميل، حيث نضمن التواصل معهم بشكل مستمر.
* هل هناك موقع للمكتبة على الإنترنت؟
نعم لدينا موقع للمكتبة على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، كما أن لدينا مدرستين يتم تدريس العقيدة السليمة فيهما، وقد أنشئتا بعد أن أغلقت السلطات هنا مدارس شرعية قبل 7 سنوات، وكانت تدرس العلوم الإسلامية باللغة العربية، ولكنها لم تكن رسمية، فالآن نحن لدينا علاقة معهم كلهم، ونقوم بتدريس العقيدة في هاتين المدرستين باللغة العربية.
ولنا تعاون معهم ومع العلماء، ونحن الآن نعيش العصر الذهبي منذ سقوط الدولة العثمانية، أقصد العصر الذهبي في سياسة تركيا، وخاصة حزب العدالة والتنمية الذين لهم سياسة طيبة جداً بهذا الخصوص، وقد قدموا كثيراً للإسلام، وأستطيع تشبيه المسألة بالهدنةº فنحن لدينا هدنة معهم مقتضاها أن نسكت عن اختلاساتهم في الدولة، ويسكتون هم عن جهودنا ودعوتنا، وفي الختام نسأل الله لنا ولكم التوفيق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد