بسم الله الرحمن الرحيم
رغم الريادة العلمية والحضارية الثابتة تاريخيا للعرب والمسلمين ورغم أن هناك علوما إنسانية تكاد تكون إسلامية خالصة مثل علم النفس وعلم التربية وعلم الاجتماع، إلا أن علم السياسة الإسلامي مازال يحبو باحثاً عن علماء يؤصلونه ويخرجونه إلى الوجود. والدكتور غازي رماح أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الماليزية من المهتمين بعلم السياسة الإسلامي ومن المحللين لأوضاع العرب والمسلمين من خلال منظور إسلامي، وعن هموم المسلمين السياسية كان لنا معه هذا الحوار أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة لحضور أحد المؤتمرات الإسلامية المهمة.
* هل نستطيع أن نقول إن العلماء المسلمين تتلمذوا على علم السياسة الغربي وأصبحوا أسرى لمفاهيمه، وغفلوا عن تراثنا وهويتنا ولم يفكروا في تأصيل علم سياسة إسلامي؟
** إحدى الإشكاليات التي تواجهها الأمة أن النخبة السياسية فيها إما أنها درست في الغرب أو أنها تخرجت من المؤسسات العسكرية، وبالتالي فلم تستق علم السياسة من واقعها. والسياسة لا تدرس إلا في بيئة الوطن وينبغي أن تستمد الحياة من جذور تاريخها ومن تراثها. وهذا لا يمنع أن ننفتح على معطيات السياسة الدولية، ولكن يكون ذلك عن طريق رصد المعلومات للاستفادة منها في مواجهة ما يحدث حولنا، ولا تكون هي الزاد الذي نستقي منه لندرس الأمور التي تتعلق بدول أخرى ونبتعد عن بيئة الوطن. ومن أهم الأمور الخطيرة أن أغلبية العلماء يهربون إلى التاريخ ولا يواجهون الواقع..والسياسة هي التاريخ المعاصر..وإذا لم نتعامل مع هذه القضايا بما تستحقه من تحليل ودراسة عبر مراكز بحث علمي فسوف نبقى في ملجأ للتاريخ، أو نذهب للغرب لنتحدث فيما يتحدث، وننظر إلى الأمور بمنظوره الخاص. وبالتالي فنحن في حاجة إلى أن نصوغ علم سياسة ونعمل لإيجاد موسوعة سياسية إسلامية تكون مرجعا علميا للباحثين وعلماء السياسة في بلادنا.
وعلينا أن نطور الدراسات العليا للعلوم السياسية في الوطن العربي بحيث نخرج نخبة تكون قادرة على التعامل مع القضايا المحلية والإقليمية والدولية على أسس إسلامية. إن الطبيب قد يتسبب في موت مريض والمهندس قد يتسبب في هدم بناء أما السياسي فقد يتسبب في هدم أمة بكاملها. وهنا أقول إن الموروثات التي ورثناها في تربيتنا الاجتماعية تمنع الحديث في السياسة أو الاقتراب منها. ولعل حالة التعسف والاضطهاد الفكري في الوطن العربي وضرب الحركات الفكرية في الحقبة الماضية قد أدى إلى إيجاد حالة من الإحباط بحيث يبتعد الناس. وباتت السياسة كما لو كانت نوعاً من الترف الفكري، أو هي حكر على الذين يمارسون السلطة. إن السياسة ثلاثة دوائر: دائرة تمثل الرأي الواعي المستنير، ودائرة تمثل النخبة المتعلمة القادرة على أن تنير الطريق للعامة ولصانع القرار، ثم دائرة تمثل الأمة كلها. ودائرة النخبة ينبغي أن تتحدد في العلماء الأتقياء.. ومأساة الأمة أن شريحة عريضة من علمائها تتلمذوا في المدارس الغربية والشرقية ثم عادوا بفكر يخالف مصالح الأمة.
* العالم الإسلامي يعيش عصر انكسار وتراجع، والأوضاع العالمية الجديدة تؤثر عليه سلبيا. كيف ترى قضايا العالم العربي والإسلامي من منظور عالم السياسة المهموم بهموم أمته؟
** إن سلاح الغرب في المرحلة المقبلة هو العولمة الناعمة التي تكتسح الحدود وتدمر التاريخ والجغرافيا والتراث وصولاً إلى النهب الاقتصادي مستغلة في ذلك ثورة المعلومات التي من خلالها يحدث الاختراق الثقافي للأمة. وفي مواجهة ذلك ينبغي أولاً أن نعد بيلوغرافيا للنخبة السياسية في الوطن العربي ونجسر الاتصال بينها ونعمل جهدنا ألا تسير هذه النخبة لصالح السياسيين الذين يحركونها خدمة لأهدافهم، بل نريد نخبة سياسية تعمل لقضايا الأمة ككل لا أن تعيش قضايا قطرية، وكلما اهتمت الأمة بقضاياها العامة كلما كانت حية، وكلما انصرفت إلى القضايا الفردية والمحلية الضيقة فإن هذا يعني تفسخها وتفككها، ونحن في مرحلة تتطلب توحد الأمة وتكتلها في مواجهة التكتلات العالمية.
فهذه أوروبا قد توحدت، وهذه أمريكا الشمالية تتوحد فيما بينها وتحاول التوحد مع أمريكا الجنوبية، ودول آسيا تدخل في تكتلات مع بعضها، أما نحن فنعمل في الإطار المعاكس، والدليل على ذلك أننا أنزلنا القضية الفلسطينية من إطارها الإسلامي الكبير إلى الإطار العربي ثم أنزلناها مرة أخرى من الإطار العربي إلى الإطار الفلسطيني ثم أنزلناها من الإطار الفلسطيني العام بكل فصائلة إلى إطار منظمة التحرير فقط. هذا أمر والأمر الآخر أننا في الوقت الذي ننهمك فيه في مصالحة عربية إسرائيلية نسينا المصالحة العربية العربية، وأنهكنا أنفسنا في الحديث عن السوق الشرق أوسطية التي تم تصميمها لاستيعاب إسرائيل دون أن نبذل الجهد الكافي لإقامة السوق العربية المشتركة.
إن أحد الخبراء الفرنسيين يقول إن لم يدخل الوطن العربي عصر التوحد الاقتصادي بسرعة فإنه سيدخل القرن القادم بالمجاعة والفاقة. ومشكلتنا ليست مادية كما يتصور البعض، فالخليج العربي قبل النفط نقل المد الإسلامي إلى العالم. ومصر قبل الغنى الاقتصادي كانت تقدم المساعدات لكثير من الدول العربية. ولذلك فإن التجربة التي يجب أن نأخذها من انهيار الاتحاد السوفيتي والنظم الشمولية هي أن من يملك القيم هو الذي يبقى على قيد الحياة.
ولو كانت التكنولوجيا هي العنصر الوحيد لقوة الأمم لما انهار الاتحاد السوفيتي الذي كان يملك 30 ألف رأسا نووياً ومليون و 700 ألف جنديا ويمتلك أكبر مساحة من الأرض، لكنه تهاوى ليصبح جزءً من التاريخ. إن الحضارة تقف على رجلين رجل مادية وأخرى معنوية وهي القيم. ولذلك أدرك الغرب والشرق أن من يملك القيم يملك النصر، وهذا هو سر الهجمة على المسلمين، فالمسلمون لا يملكون المال فميزانية شركة جنرال موتورز الأمريكية تعادل ميزانية دول مجلس التعاون الخليجي، وميزانية دولة فقيرة مثل إيطاليا تعادل ميزانية الدول العربية كلها. والعرب في مجال التكنولوجيا يقفون في آخر الطابور، ومع هذا يصنفهم الغرب العدو رقم واحد لأنهم يدركون أن الإسلام والإيمان والقيم هي التي تحفظ للأمة وزنها.
* إذا كانت الأمور على هذا القدر من التعقيد والتراجع، أليس هناك أمل في أن يتخطى المسلمون هذه الحواجز؟
** إن الأمة المسلمة تمتاز بأنها تنهض بعد كل كبوة وتفيق بعد كل غفلة وتتعافى بعد كل وعكة، وهي أمة وإن تجبر على الانحناء فإنها لا تعرف الفناء، وقد محيت شعوب كثيرة وانهارت حضارات وأصبحنا نزور آثار حضارات الفراعنة والآشوريين والفينيقيين والرومان واليونان والأقباط والفرس، وانتهت الإمبراطورية البريطانية، أما هذه الأمة فقد كانت قادرة دائما على النهوض، ولذلك ففي مرحلة جلد الذات ينبغي أن نقول إن هناك عملاً، فقد جاء المد الصليبي من الغرب في عشر حملات خلال قرابة 200 عام، وجاء الغزو التتري من الشرق فعاث فساداً في بلاد المسلمين، لكن الأمة أخذت بأسباب النصر ولم تيأس وتحركت فيها روح الجهاد واستطاعت أن تقف من جديد شامخة وتهزم عدوها شر هزيمة. وفي هذا المقام أدعو إلى مصالحة عربية عربية، ثم مصالحة عربية إسلامية، ففي وقت ينظر لنا أعداء الأمة على أننا العدو رقم واحد فإنهم ينظرون إلينا مجتمعين لا فرادي، ولذلك يجب فعلاً أن نواجههم بالتوحد الذي يخيفهم ويردعهم.
* من ثقافة العولمة إقامة النظم الديمقراطية بما فيها من أحزاب وتعددية وتداول للسلطة.. فماذا تعني هذه الأمور في المنظور الإسلامي؟
** الاختلاف في الرأي يولد الحقائق بشرط أن يكون هذا الخلاف ضمن مظلة الإسلام، ونحن لا نريد للأمة أن تعتنق نوعا من الأنسجة الفكرية التي تباعد بينها، فكلما كان النسيج الفكري موحداً كلما كانت الأمة أكثر التقاء. إن التعددية الحزبية تأتي نتيجة اختلاف الأقليات، فإسرائيل مثلاً بها 22 حزبا سياسيا وذلك لأن المجتمع الإسرائيلي يتكون من 90 جنسية ويتكلم مائة لغة، وكذلك الحال بالنسبة لأمريكا وأوروبا، لكننا والحمد لله لا نعاني من هذه الانقسامات، فلماذا نحاول جاهدين أن نقسم أنفسنا؟ ولا يجب أن نعتقد أن النموذج الغربي نموذج سليم، لكن إذا قلنا بأحزاب إسلامية تحت مظلة إسلامية في نظام يطبق الإسلام فهو أمر مشروع، لأنه يعني مدارس فكرية تجتهد داخل الإطار الإسلامي. أما بالنسبة للديمقراطية فلا توجد ديمقراطية إلا في الإسلام. فحينما كان يختلف الخليفة عمر مع المرأة كانت المرجعية هي القرآن. أما حين تختلف أي سلطة مع مواطن فإنها تكون هي الخصم والحكم في آن واحد. إن المرجعية في الإسلام مرجعية إلهية فإذا غابت فإن الحاكم يحكم بمرجعيته هو وهي التسلط.
* ما هو رأيك فيما يجري الآن بين العرب واليهود؟ وما هي رؤيتك لمستقبل عملية السلام؟
** لن يكون بيننا وبين اليهود إلا حوار واحد هو حوار السلاح، وما هو قائم من سلام الآن ليس إلا هدنة مؤقتة تستفيد منها إسرائيل، وإسرائيل تسعى في استراتيجيتها المستقبلة أن تضرب الإسلام. وشيمون بيريز يقول في كتابة \"الشرق الأوسط الجديد\": إن حربنا إنما هي مع الدشداشة البيضاء والقلسنوة السوداء.. يقصد أن الحرب إنما هي مع الإسلام بفصيليه السنة والشيعة.. وهذا ما قرره القرآن في قوله [لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا].. اليهود ليسوا أشد الناس عداوة لرواد الملاهي الليلية، ولكنهم أشد الناس عداوة لأولئك الذين يصلون في الحرم الإبراهيمي. ولذلك فإسرائيل مشتبكة الآن فقط مع الفصائل الإسلامية المجاهدة. وللأسف فإن أمريكا تساعد إسرائيل في ذلك، فهي تحاول التضييق على أي من يقترب من الإسلام في أي بلد كان، حتى إذا تم القضاء على المقاومة الإسلامية تأتي الجرافات الصهيونية فتتكفل بالباقي.
* يتحدث الكثيرون عن الجوانب الإيجابية للعولمة، لكن هل لها آثار سلبية على العالم الإسلامي؟
** من أسباب العولمة أن هناك 258 شخصا في العالم يملكون نصف ثروة العالم و 90% من رأس المال في الولايات المتحدة والذي يسيطر عليه اليهود غير مستغل. ومن أجل توظيفه خارج الولايات المتحدة لا بد من تحطيم الأديان والقوميات والتاريخ والقيم الحضارية والثقافية التي تقف سداً منيعاً في وجه تدفق هذا المال. ولذا جاءت الخصخصة واتفاقيات التجارة الحرة من أجل تحقيق هذه الغايات وتدمير الاقتصاديات الوطنية للشعوب المغلوبة فضلاً عن قهرها. إن الثورة الصناعية في الغرب قضت على الصناعات الحرفية في الوطن العربي، ومن المنتظر أن تقضي الخصخصة على الصناعة العربية. إن مدير البنك الدولي يقول في أحد المؤتمرات الاقتصادية في إحدى الدول العربية: إننا نقدم القروض للدول العربية بثلاثة شروط: الأول القفز فوق التاريخ (أي ألا تدرس الثقافة الإسلامية والقضية الفلسطينية لأن الذي يقاوم اليهود هم المتدينون.. والجامعات الخاصة التي أنشئت في عصر الخصخصة تدرس الكمبيوتر واللغات ولا تدرس الثقافة والتاريخ. والشرط الثاني خصخصة التعليم الجامعي (حتى تفقد الدولة سيطرتها على عملية التنشئة). والشرط الثالث أن تكون إسرائيل جزء من أي مشروع في المنطقة.
* ما هو تقييمك لأداء الحركة الإسلامية في العالم العربي على المستوى السياسي؟
** لقد واجهت الحركة الإسلامية ثلاثة تحديات رئيسية هي القمع السياسي والأمني من الحكومات، ثم الاختراق من الداخل من جهات أخرى بغرض إفساد الحركة الإسلامية من الداخل، ثم ضعف مستوى القيادة داخل الحركة الإسلامية لأن العلماء لا يملكون مصادر رزق مستقلة كما يملك علماء الشيعة مثلاً. إن العلماء السابقين كان أحدهم عالما وله حرفة فإذا ضاق عليه الأمر كان يقتات من حرفته، أما هذه الأيام فإن العلماء أصبحوا موظفين وأي قطع لأرزاقهم معناه الضياع. ثم إن تشجيع الحركات الصوفية قد يؤدي إلى الاختراق لأن غياب الوعي السياسي فيها يجعل الآخرين يوظفونها كما يريدون رغم جهودها في التربية الدينية. فما ينقصنا هو الوعي، فحينما يزج بالقيادات في السجون فإن الشعوب تكون ليس لها جسور. إن العلماء المخلصين قادرون على صنع الكثير وتغيير الأمم، والأمة تصلح بصلاح علمائها وأمرائها، والأمراء يصلحون بصلاح العلماء، فالعلماء ملح الأمة وإذا فسد الملح فمن يصلحه؟
ومأساة الأمة أن علماءها، بسبب الاضطهاد الفكري والتضييق عليهم والظروف الاقتصادية الصعبة، هربوا إلى الغرب، ففي الولايات المتحدة وحدها هناك 75 ألف عالم مسلم. ولذلك كان عمر بن الخطاب يحرص ألا يخرج الصحابة من المدينة لأنهم يمثلون الذخيرة الفكرية للأمة، وظل الأمر كذلك إلى ما بعد مجيء عثمان بن عفان. أما الآن فصارت الأمة تعلي من شأن الفنانين والرياضيين وترفعهم فوق العلماء، وأنا أقول إن أمة بغير علماء عربة لا يجرها حصان.
* ما هو في رأيك الفرق بين الإعلام العربي والإعلام الصهيوني؟
** أجريت مؤخرا بحثا عن تحليل المضمون لبرامج التليفزيون الإسرائيلي أثبت فيه أنه من خلال هذه البرامج يمكن أن نتوقع السياسات العربية المستقبلية، فقد وصل الأمر إلى أن اليهود يخططون لنا ونحن ننفذ تخطيطهم بالضبط، وهم ينحتون المصطلحات ويكررونها ثم نستخدمها نحن بمدلولاتها التي صممت ضد مصالحنا. ففي اتفاقيات أوسلو أصبح اليهود يستخدمون مصطلح إعادة الانتشار بدلاً من الانسحاب، وسرنا وراءهم نردد ما اخترعوه من مصطلحات. إن الأكاديميين اليهود الذي اجتمعوا عام 1968 قالوا إنه قبل عام 2000 سوف توقع جميع الدول العربية معاهدات السلام مع إسرائيل وهو ما حدث. إنني هنا أفهم لماذا كان رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن نخالف اليهود والنصارى في كل أمورهم وأن يكون لنا تميزنا في الزي وفي التقويم وفي الأعياد، وفي المصطلحات وفي المنهج وفي المرجعية، وحينما افتقدنا المنهج والمرجعية أصبحنا نسير كالعميان بدون قائد، بل أصبحنا كالأعمى الذي يتكئ على يد عدوه، وهو لا يدري أن عدوه يسير به نحو هوة سحيقة حتى لا يخرج منها أبداً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد