خواطر آخر الليل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 جلس في شرفة منزله، في ساعة متأخرة من الليل، يرقب ذلك السكون الغريب لهذا الكون الفسيح، عندئذ جاشت في نفسه مشاعر أمسه الدابر، واضطرمت في قلبه أحاسيس ظن أنه قد دفنها في أعماقه، فإذا هي تثور كالبركان، تهز كيانه، شوقا وحنينا لأمنية لم يكن يظن أنها تعز على مثله من الرجال، وحاجة فطرية ما كان يحسب أن تحقيقها وفق شرع الله يصبح خبط عشواء أو ضرب خيال.

ها هو يخرج زفرة أسي استجمع فيها ما يحس من شوق ولهفة، تأسى لواقعه الذي ألقاه مكتوفا إلى اليم وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء .استرجع من ذاكرته يوم تهيأت له ظروف الإقدام علي الزواج بثانية خفق لها قلبه، واستراحت إليها نفسه، إنه لا ينكر فضل زوجه الأولى، ولا يبغضها، ولم يعلن قط إقالتها عن دورها في حياته زوجة وأما لأولاده، مثلما يفعل كثير ممن حوله، بل يحدب عليها، ويركن إليها.

 وما يزال يفي لها بما قدمت من جميل المعروف معه، لا يزال يقبل عليها إقبال المحب الودود، غير أنه في قرارة نفسه يحس حاجة إلى أخرى ربما تلبي رغباته فيما ينوء به من عاطفة جياشة، ومشاعر فياضة لامرأة تجاريه في ذلك، فيتجدد بها، وتزداد حياته انطلاقا وحيوية وسعادة.

 وهو يرقب من بعيد تلك الإحصاءات المتتالية عن العنوسة بين النساء، وما لها من وخيم الضرر على مجتمعه، فيشفق لذلك ويأسى، لقد اجتمعت في نفسه أسباب عدة ليقبل على الزواج بثانية، ويرى في ذلك مصالح جمة قد لا يراها غيره، وفي حسن ظن أقدم علي الأمرº فإذا الأشياء تتبدل، والمواقف تتغير، ويصبح كل شي غير ما كان يرى:

 هاهي زوجه الأولى تستأسد فلا تعترف له بحق محاورة أو مناقشة في الأمر، وهاهي تستخرج ما في ديوان عقلها مما يردده العوام عن التعدد، إنها تهدد وتتوعد بنفسها وبأولادها، كأن لا صلة للجميع به، إنها لم تحترم سيرة حسنة طالما حمدت الله - تعالى - عليها.. ألم يكن إلى يوم قريب نعم الزوج في نظرها، وفي نظر أهلها؟

لقد تغير هؤلاء إلي النقيض، وبدت السوءات من الكلº حتى الأحبة من الخلطاء الأخلاء لم يجد عندهم ما يوثق قناعته بزواج ثان، أو يحترم رغبته في الارتباط بأخرى، اتهموه بالمراهقة المتأخرة وقد جاوز العقد الرابع بخمس سنوات!

طولب بموازنة الأمور في هذه السن التي لا تحتمل بيتًا آخر، وحياةَ أخرى .. كأنه يجهل عن نفسه ما يعلمون!

إن طوفانَا من التعليقات الساخرة والمعوقات الجائرة رده إلى عقله لا عاطفته وقلبه، ودفعه إلي عرف مجتمعه لا مشاعره ونفسه وحسن تقديره لحاجاته، كخروج الزوجة أم الأولاد عليه بحرمانه من فلذات كبده، أو تركهم جميعا له وهم كثير، فأين يذهب بهم؟

وكل واحد سيظن انه سبب فراق أمه وبعدها عنه، وما لذلك من حرمان أمومة لها مردودها السلبي.

لقد أصبحت المعادلة أصعب وأشق على النفس، ولم يكن في يوم من الأيام أنانيا، أو مستأثرا لنفسه بحظها دون زوجته أو أولاده!

إن كفتي الميزان في نظر الزوجة والأهل والعرف لا يمكن أن تتكافآ أو تتوازنا، فإما تعلو كفة أم الأولاد، وإما تعلو حياة جديدة ترنو إليها نفسه.

إنه يحس - ولأول مرة - في حياته أنه مسلوب الإرادة، يخير فيما هو حقه بالحرمان منه

انه يشعر بعيه عن اتخاذ قراره، إنه أعقل من أن يدمر بيته الأول ويفرق شمله، رغم أنه حين تزوج اختار عارفة بدينها وحقوق زوجها، التي تعترف بها جميعا إلا حقه في الارتباط بغيرها! وهل من الجنون أن يفعل ذلك؟

وأمام ضغط الواقع الذي يعيشه، و يحاول جاهدا أن يحول بينه وبين ما يرغب بتأويلات فاسدة وعلل واهية، أمام كل ذلك يرى نفسه مستسلماº لا عن ضعف ، ولكن من باب درء المفسدة التي تحيكها زوجته والجميع من حوله، فهو لم يتصور قط أن يعيش أولاده بعيدا عن أحد والديهم لا سيما أن مسيرته معهم لم يكدرها اختلاف بين الزوجين أو سوء تقدير أحدهما أو كليهما للآخر.

إن عليه الآن أن يغلق ذلك الحب الذي تفجر في قلبه لامرأة يري انه اقل واجبه نحوها أن يضمها إليه كيلا تلقى عنت الحياة ما دام قادرا على ذلك، وهاهو يعود إلى أم أولاده وفي نفسه حاجة منها، إذ لم تستطع أن تصون ما كان لها من حب ومكانه... ليلتئم شمل أسرة لم يردها إلا سائرة في ركب الخير مهما كانت تضحيته بما تعتلج به نفسه أو يعتمل في فؤاده.

أغرب في تفكيره مستشرفا الجيل القادم من الرجال، إذ يبدو أن طرحه للأمر وإثارته على تلك الشاكلة ربما مهد نفوسـا أخر للتآلف معه، والتعاطي، أو التجاوب معه دون تلك الجدليات التي لا تسمن ولا تغني من حقيقة ماثلة، وفطرة صافية أن للرجل حقه في زواج بأخرى º دون بخس أحد لأحد، أو جور أحد على أحد.

أمعن نظره في الفضاء الواسع فإذا هو يذكر طيف تلك المرأة التي رآها يوم أن ذهب خاطبا إياها، فوقعت من نفسه وقلبه وعقله، فانفتح في قلبه ينبوع حبه الذي لا يزال خافقا في قلبه، وكأنه يمتد بطول ما بينه وبين السحاب البعيد، فتأسى نفسه، وتضطرب أحاسيسه ، حتى ليكاد يصرخ في أعماقه من وطأة ما حيل بينه وبينه.

لقد ثارت كوامنه، وتأججت لواعجه، وما يحس به أحد إلا خالقه، طفرت من عينه دمعة أسى حين انطلق صوت المؤذن لصلاة الفجر يوقظ الغرقى في سبات عميق أن سبحوا الله الخبير ...

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply