بسم الله الرحمن الرحيم
\"ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت\"
\"الأخطل\"
تمتاز الضفادع بكثرة نقيقها وقبحه، وعدم استئناس الآذان لسماعه، وإذا ما ابتلي أحد بأن كان بيته قرب بركة راكدة آسنة تكثر فيها الضفادع فلا بد أن يتنغص نومه، ويستعجل بزوغ الفجر، ليتخلص من هذه الأصوات الناشزة المتنافرة.
كذلك هو حال \"أدعياء الثقافة\" الذين يمكِّن لهم الإعلام الرسمي في دنيا العرب، ويحلهم أمكنة ليست لهم، ويغدق عليهم الامتيازات، وينفحهم بالأعطيات، وبما يتساقط من موائده من الفتات، ليتولوا عنه مهمة الوقوف في وجه التيار الأصيل النابع من عقيدة الأمة ودينها، والمعبر الصادق عن همومها، أعني التيار الإسلامي، في الوقت الذي يسد فيه النوافذ والكُوى على أصحاب هذا التيار الأصيل، حتى لا يتسرب منها هواء نقي، أو أشعة شمس مطهِّرة، فتتلوث البيئة، ويتعفن الجو، وتفسد الأذواق، وتؤذى الأسماع بنقيق هؤلاء الأدعياء الذين يحاربون الفضيلة، ويؤسسون للرذيلة، وينافحون من أجل شيوع الركاكة، ويسوِّدون الصفحات دفاعاً عن كل ما هو دخيل وفاجر، وحرباً لكل ما هو أصيل وطاهر.
هناك حلف غير شريف بين الحكومات العربية وبين الكثير ممن ينتحل صفة الأدب والثقافة، أما هدف الحكومات فهو واضح، وهو أنها تريد أن يكون القلم إلى جانب السيف في معركتها مع الإسلام \"غير الرسمي\"[1] لأن أساليب البطش التي تستعملها لإسكات المعترضين لابد لها من تغطية تختلق لها المسوغات التي تجد لها من يصدقها ويؤمن بها، أو يأخذ بها تحت أسباب كثيرة، ولا يستطيع العسكري ذو الحذاء الغليظ أن يقوم بهذه التغطية، لذلك فهو يسند مهمة القيام بها إلى من ينتخبهم من أصحاب الأقلام، ومن تستكتبهم وزارات الإعلام والثقافة تحت مسميات كثيرة. وبما أن هذه الأصوات هي الوحيدة التي يسمح لها بالكتابة والكلامº فلن يأتي كلامها إلا ضمن الحدود المرسومة التي أمروا بعدم تجاوزها.
لقد احتل هؤلاء الكتبة الذين تحركهم شتى الدوافع ما عدا الإسلام دور علماء المسلمين التاريخي في مراقبة السلطة، وتنبيه الناس إن تجاوزت الحدود الشرعية. وبما أن كل إناء ينضح بما فيهº فقد جاء عمل هؤلاء على عكس دور العلماء.
إن دور العلماء الذي نشير إليه لا يستطيع أن ينكره منصف على مدار تاريخ الأمة الإسلامية في كل صقع من أصقاعها، فقد ظلت فئة من العلماء الأحرار في كل عصر تجهر بما يجب عليها من نصح الحكام، وعدم الانصياع لأهوائهم، على الرغم من محاولة هؤلاء الحكام إخضاع العلماء، ونجاحهم في إغراء فئة تفتي لهم، وتزين لهم باطلهم، ولم يخل عصر من قائمين بالحجة، يستعصون على التخويف، ويصمدون أمام أساليب الإغراء التي تفتل الرؤوس، وما زال عدد هؤلاء الفئة الصامدة يقل منذ أواخر عهد الدولة العثمانية بسبب عوامل كثيرة، حتى آل أمر البلاد العربية والإسلامية في هذه الفترة فترة ما بعد الاستعمار ولا أسميها فترة الاستقلال عن قصد إلى فئتين:
1- فئة تفتي للحكام وتسوِّغ لهم ما يقترفون، وتُسبَغُ عليها أوصاف العلماء زوراً وبهتاناً.
2- وفئة تملأ وظائف الصحافة والثقافة، وهي فئة متغربة غريبة عن دين الأمة، تنافح عن كل بدعة، وتدعو إلى مزيد من التقليد الأعمى الذي يربط المسلمين بأهل الحضارة الغربية رباطاً لا فكاك له، ويلحقهم بهم إلحاق التابع بالمتبوع، والعبد بالسيد.
في هذا الجو الخانق الذي يحتكر فيه هؤلاء الجهلة حق الحديث في كل شيء، ولا يعمل كل منهم في اختصاصه، ولا يحبس أحدهم نفسه على ما يحسنهº توضع حقائق الإسلام تحت التساؤل، ويتطاول من يشاء كما يشاء على ثوابت الأمة، وإذا نبس أحد ببنت شفة مستنكراً هذا التطاول، طالباً وضع حد لهذا التَّقَحٌّم، كاشفاً هذا الجهل الذي يسمى \"إبداعاً\" - تعالى - نقيق الضفادع، وتجاوب هنا وهناك:
الإبداع في خطر..!
الثقافة تحتضر..!
الحياة الفكرية تتراجع أمام ضغط الظلاميين (أي الإسلاميين)..!
أعداء التنوير يكشرون عن أنيابهم..!.
إلى غير ذلك من العناوين اليومية التي يغلب عليها أسلوب الإعلانات التجارية المدفوعة الثمن.
إن جريمة هؤلاء الكتبة لا تعدلها حتى جرائم المفسدين في الأرض الذي يخرجون على الناس بقوة السلاح، يهددون الآمنين، ويخيفون الناس، ويسفكون الدماء، ويسلبون أصحاب الأموال أموالهم، وينشرون الرعب، فلا يعود أحد يأمن على نفس أو عرض أو مال.
والسبب في أن خطر قطاع الطرق أقل وأخف وطأة أن هؤلاء ينقطع شرهم بإنزال العقوبة التي يستحقونها بهم، فيعود الناس إلى بحبوحة الأمن، لكن ضرر هؤلاء الكتبة لا ينقطع، لا بعقوبتهم وكف أيديهم، ولا بموتهم، بل يستمر ويدوم، ويستشري خطره في أوقات انتفاش الباطل، فيكون كالوباء الساري، لا يزال ينتقل ويتعدى، فلا يكاد ينجو من آثاره أحد.
وأمر آخر يجعل هؤلاء أشد خطراً هو أنهم يعملون تحت حماية السلطة وفي ظل تشجيعها، مما يعني أن أي انتقاد لهم، وأي تململ من ضررهم، يفسر على أنه حرب للسلطة، ومعارضة للنظام، وبديهي أن الأنظمة عندنا فرعونية ليس في قاموسها شيء اسمه معارضة أو مخالفة في الرأي، شعارها هو شعار فرعون: ((ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)).
لم يعد الواقع الذي يطفو على سطحه هؤلاء يحتمل، ولم تعد الأساليب التي يلجؤون إليها، في الرفع من شأن أنفسهم، والغض من شأن من يخالفهم مقبولة، ولا يليق بالأمم الحية التي يتحلى أبناؤها بأدنى قدر من الكرامة أن تتسلط عليهم عصابات مارقة، ترسم لهم حدود ما يجوز وما لا يجوز، وتتلاعب بدين الله كما يحلو لها، لقد تجاوزت هذه العصابات حد المعقول، وهي في حُمَّى كراهيتها للإسلام تحتقر كل ما له علاقة به: عقيدة، وشريعة، وآداباً، وعناصر حضارة، وعلماء، ورجالات.. وكل شيء.
ومن الغريب أنه إذا قام عاقل ينبه على تطرف هؤلاء، وما ينشرونه من انحلال وفحش باسم \"الأدب والإبداع\" وقد يكون هذا العاقل الغيور شيخاً، أو طالب علم، أو داعية من الدعاةº فإن هؤلاء يسارعون إلى إرهابه وإسكاته بحجة أنك شيخ! مالك وللأدب والإبداع، هذا ليس من اختصاصك! فالدين شيء، والأدب شيء، سبحان الله! ما أجهل هؤلاء الناعقين، وما أصلب جلد وجوههم، ويحهم، من غير العلماء له الحق أن يتكلم في الأدب، وهل يعني الأدب قلة الذوق وانعدام الأخلاق، أللعلماء يقال: دعوا الأدب، فأنتم لا تفهمون فيه؟! وهم أهل المنة والفضل في عنق كل خارج من ظلمات الجهل، راتع في أي قدر من العلم الصحيح؟!.
ألغير العلماء فضل في نهضة أمتنا؟ ومن عنده غيرتهم وإخلاصهم، ومن له من رجاحة العقل واتساع المعارف ما لهم في كل عصر ومصر؟ ثم يأتي أيتام التنظيمات الشيوعية، وفلول الدعوات المنهزمة التي ما كان ولن يكون بإذن الله لها رصيد بين ظهراني أمتنا العربية والإسلاميةº يأتي هؤلاء في هذا الزمن الذي ظنوه عقيماً إلا منهم يطيلون ألسنتهم وأقلامهم في أعراض العلماء وفي كل شريف تأبى نفسه البذاءة والصفاقة وثخانة الذوق، ويشمئز أن من يُنفَضَ ما في غرف النوم على أرصفة الشوارع، وساحات الفُرجة.
((سيهزم الجمع ويولون الدبر)).
هناك حقائق حبذا لو وضعها هؤلاء الذين يستسهلون الوقوع في تجريح الإسلام ووصم علمائه ودعاته بكل نقيصة، ويظنون أن الجو خالٍ, لهم بدون منازع.. ومن هذه الحقائق:
أ- ليس استئجار السلطات لهم آت عن قناعة تامة بصواب ما يدعون إليه، بل هم مستأجرون للقيام بمهمة محددة، وإن هذه الجهات التي تستأجرهم قد تلفظهم عند انتهاء مهمتهم التي استؤجروا لها[2].
ب- إن الإسلام وحقائقه من العمق والقوة في حياة المسلمين بالقدر الذي لا تزعزعه أساليب عصابة مهزومة مستأجرة مكشوفة، فقد غبرت حكوماتنا الحديثة التي تحكم بالإرث الذي أرساه التبشير والاستعمار طوال عمرها تعمل بحرارة وعناد دائبين، وتنفق من أموال الأمة التي أؤتمنت عليها، وتستظهر بقوى الداخل والخارج وبالإنس والجن من أجل إرساء حقائق جديدة على أطلال الإسلام فهل أفلحت؟ الجواب واضح لكل ذي لب، أين القومية العربية التي تجمع المسلم والمسيحي واليهودي والدرزي والنصيري والإسماعيلي تحت مظلة واحدة؟.
أين قومية ساطع الحصري وبعث ميشيل عفلق؟ وأين عروبة جمال عبد الناصر، وأين الشيوعيون والاشتراكيون بفصائلهم التي كانت تتوالد كل يوم، وتنبغ كحبات الكمأة في الصحراء دون توقع، أين كل هؤلاء بغرورهم وفجورهم وكيدهم وافترائهم وخيلائهم المزيفة وعقولهم المنخوبة؟ كلهم ذهبوا مشيعين باللعنات، ولم يبقوا بعدهم إلا ما تبقي بعدها رياح السَّموم.
ج- إنه لا ملاذ لهؤلاء العصابات إلا أن يصيروا إلى الجانب الذي تختاره الشعوب في وجه التغريب والمسخ، وأن لا يكونوا أدوات لمدجني الشعوب التي ينتسبون إليها، أو طلائع لأعداء أمتهم. بذلك وحده يكتسبون الشكر والثناء، ويضفون على جهودهم عناصر البقاء، لا أن يرهنوا أنفسهم وأقلامهم من أجل الهجوم على الإسلام، وتخذيل الناس من حوله، وتأليب القوى الطامعة على أبنائه.
إننا نلمح بشائر اندحار هذه العصابة في مصر، وبوادر لفظها من قبل السلطات، ولسنا من الذين يغترون بصنيع الأنظمة هذا ويعطونه أكثر مما يستحق، أو يرونه نابعاً من تقويم صحيح لفساد طوية هؤلاء الأجراء، فقد تعلمنا من تاريخها أنها لا تعنيها المبادئ، ولا تحركها إلا الذرائعية والنفعية وحب البقاء، ولكننا نرى أنه على الرغم من النفع المتبادل بين هذه الأنظمة وهذه العصابات، وتقوية كل منهما للآخرº إلا أن الأهداف غير متطابقة وهذا ما ينبغي أن يدرك جيداً. ونرجو أن يكون في هذا عبرة وتسلية للدعاة إلى الله، فيفرحون حين يرون أهل الباطل تصطدم أهواؤهم ببعضها، وينهار ما قدروا، ويحق الله الحق، ويبطل الباطل، وهو وحده المستعان.
_______________________
[1] نقصد بمصطلح الإسلام الرسمي، الإسلام الذي ترضى عنه أنظمة الحكم الجَبَرية العلمانية، وغير الرسمي: الذي أرسل به الرسل، وختمت به الرسالات، وجاء به محمد بن عبد الله - صلى الله عليه و سلم -، والذي يستعصي على التدجين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد