بسم الله الرحمن الرحيم
تظهر حقيقة مواقف أهل السنة والجماعة في وقت الأزمات، وحين حصول النكبات، فهم أهل الحق والعدل، يعرفون الحق فلا يحيدون عنه ويقيمون العدل في الناس فلا تتنازعهم الأهواء والشهوات، إن موقف أهل السنة في الفتن مناراتٌ يُهتدى بها، وأقوالهم مبنية على الدليل والبرهان، لا على التخرصات والظنون، وصدق شيخ الإسلام حين وصفهم \"بأنهم أعرف الناس بالحق، وأعدل الناس بين الناس، وأرحم الناس بالناس.وما ذاك إلا لأنهم ارتضوا منهاج النبوة.
أما مَن تقاذفتهم أهواء البشر، وغرّتهم مضلات الفتن، وحادوا عن منهج الحق واغترّوا بزبالة عقول البشر، فجعلوها لهم منجاً بديلاً عن كلام رب العالمين، فضلّوا عن الصراط المستقيم، وانحرفوا عن الحق والعدل والإنصاف، فأصبح الحق ما تهواه نفوسهم، والعدل ما لا تخالفه عقولهم، فأخذوا يتخبطون في متاهات الهوى والشهوات حتى ملأت الحيرةُ والشك قلوبَهم، فلم يعودوا يعرفوا معروفاً، ولا يقيموا عدلاً، ولا يرحموا خلقاً، إلا ما أشربوا من أهوائهم.
إن مظاهر التخبط والانحراف عن المنهج الحق كثيرة في الواقع العالمي، وفي الإسلامي على وجه الخصوص، ومن ذلك: الواقع الإعلامي، حيث إن الإعلام اليوم من أقوى الأسلحة التي استخدمها العدو في الإفساد والإضلال والمكر واحتلال العقول قبل الأرض، وما حرب الخليج والمكر الإعلامي الأمريكي عنّا ببعيد.
ومما يؤسف له أن الإعلام الغربي يمثل ويتمثل عقيدة وثوابت أهله، ويعكس ويرسخ مثلَهم وأخلاقياتهم وتاريخهم وحاضرهم في نفوسهم ونفوس أجيالهم، بل وتصب قنواته وإذاعاته وصحفه في مجال رفعة مجتمعاهم وحل قضاياهم وترسيخ هويتهم، فلا تكاد تجد مؤسسة من مؤسسات إعلامهم تهدم بنيانهم، أو تدعوا إلى الانسلاخ من انتمائهم والارتماء في أحضان أعدائهم، بينما إعلام أمتنا في الأعم الأغلب – للأسف – إعلام غائب عن مستوى المسؤولية، لا يمثل هوية الأمة الإسلامية ولا يعكس أخلاقياتها، ولا يرسخ مثلها ودينها في نفوس أجيالها، بل على العكس من ذلك يحارب كل ما يمت لأمة الإسلام من قيم وأخلاق وشعائر، إلا ما وافق هواه.
إن أحيا هويةً فهي هوية القومية، وإن دعا لاجتماع فهو اجتماع المصالح والشعوبية، وأما الأخلاقيات والآداب فلا يقيم لها وزناً إلا ما وافق منها الحضارة الغربية وما سوى ذلك فهو يتبرم منه ويحاول إخفاءه كي لا يوصم بالتخلف والرجعية.
وأما بناء الفكر والعلم الرصين الجاد فهو مشغول عنه بمسابقات الجمال وحفلات الرقص وأفلام الخيانة، وإن فكّر يوماً ما أن يكون جاداً فتح الباب للقاءات الأدب الهزيل المنصرف، وحوارات الشبه والتضليل.
هذا هو إعلام أمتنا للأسف، إلا ما رحم ربي، وقليل ما هم، وليت الحال توقف عند هذا الحد فقط، ولكنه تجاوز إلى أن يتولى الإعلام مهمة الإرهاب للمجتمع وإشاعة الفوضى وإخلال الأمن العقائدي والفكري والأخلاقي.
لقد أظهرت الأيام الماضية من بعد أحداث الرياض المؤلمة كيف تقود بعض وسائل الإعلام الأزمة وكيف تحل قضايا الأمة، فبدلاً من أن يقوم الإعلام بجمع كلمة الأمة لمواجهة الحدث وتدارك الخطر وإيجاد الحلول له، إذا ببعض هذه الوسائل الإعلامية تمارس الإرهاب على المجتمع علانية بدون سلاح ولا متفجرات، وإنما بأقلام مريضة صبت جام غضبها بلا روية، وكشفت عن مكنونات صدورها بحمقº لتظهر على صفحات الصحف وعبر اللقاءات المباشرة لتقول للناس بمنطوق أمريكي\"من لم يكن معي ويسير خلفي فهو ضدي\" ولتجعل – الدين والتدين والعلم الشرعي والعلماء والدعاة والمعلمين في المدارس ومناهج التعليم وحلقات القرآن وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واللحية والحجاب والعفة والزهد والورع والمساجد والأشرطة والكتيبات ومنابر الجمعة وكلَّ ما يمت للإسلام بصِلة، لتجعل كلَّ ذلك محوراً للشر يجب القضاء عليه حتى يشيع الأمن والأمان في المجتمع بزعمهم، متشبهين في ذلك بقريش الذين قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّف مِن أَرضِنَا....) (القصص: من الآية57) (كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِهِم إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (الكهف: من الآية5).
لقد أثبت الإعلام اليوم أن الغلو والتطرف والإرهاب سمة من سماته وصفة من صفاته، ظهرت جلياً من خلال تلك المقالات واللقاءات والرسومات التي كشفت الستار عن كثير من صور الغلو والإرهاب الإعلامي الذي تمارسه بعض المؤسسات الإعلامية وبعض الإعلاميين والصحفيين والمفكرين.
وإليك بعضاً من صور هذا الغلو والإرهاب الإعلامي:
1- ممارسة الإقصاء والإلغاء وإسكات الأصوات النزيهة واستعداء ولاة الأمر عليها مع أن هؤلاء القوم يدّعون الحرية ويدعون إلى سماع وقبول واحترام الآخر،إلا أنه مرفوض ما دام يحمل فكراً إسلامياً ويدعوا إلى قضية إسلامية، مقتبسين هذا المنهج من فرعون حين قال: (... مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: من الآية29).
ولا أدل على ذلك من خلو هذه الوسائل الإعلامية من أقلام كثير من العلماء والدعاة وأصواتهم في مقابل مئات الأعمدة والمقالات والمقابلات لأولئك المنحرفين الذين تقدموا المجتمع يريدون جرّه إلى الهاوية من خلال تزيين الباطل وتهوين المنكرات.
2- ممارسة الكذب والخداع والتزوير على الأمة، إضافة إلى تخذيل الأمة وتحذيرها وتغييبها عن واقعها وعن حقيقة ما يراد لها، ومن الأمثلة على ذلك:
أ- قضية الهيئات، والكذب والافتراء عليها.
ب- التهوين لمكر العدو ومحاولة إظهاره بمظهر الصديق والتسويق له ولأفكاره تحت مظلة الإخاء ونبذ مفاهيم الولاء والبراء مع أن هذا العدو يقابلنا بالمدرعات والصواريخ.
3- ترويج المفاهيم والتصورات المغلوطة من خلال تحليل الخبر حسب ما تقتضيه أهواء المفسدين، فيُجعل من هذا الحدث وذلك مطية لتضليل الناس.
وأحداث الرياض مثال واضح، حيث ألبست مناهجنا وعلماؤنا ودعاتنا تهمة هذه الأحداث، ولما وقعت أحداث المغرب سقط في أيدي المرجفين، فرجعوا وقالوا إن الإرهاب والتفجير قضية عالمية!!!
ومن هذه المفاهيم المغلوطة التي يروجونها مفهوم الغلو والتشدد، حيث تركوه عائماً بلا توضيح ولا تفسير! كي يدخل تحت مظلته كلٌّ الدين وكل داع إلى الدين والتدين وكل آمر بالمعروف وناهٍ, عن المنكر، وحتى أصبحت ثقافة العنف وعدم التسامح والغلظة والجفاء لازم من لوازم التدين.
4- التهميش والإغفال لقضايا ومشكلات الأمة الحقيقية والتعلق بقضايا جانبية وإشغال الأمة بها.
حيث يمارس النقد الانتقائي لبعض القضايا ويغفل المهم من قضايا الأمة المصيرية.
بل تجاوز ذلك إلى التطاول على مشاكل الأمة ووضع حلول سقيمة عقيمة وتهميش الحلول الجذرية التي لا توافق هواه أو هوى أسياده الغربيين، فيخالف قواعد المهنة الإعلامية ويفرّط في الأمانة والمسؤولية فيتسبب في تضليل المجتمع وتأزيم مشكلاته.
5- فرض الوصاية على المجتمع ورموزه، حيث يفرضون عليه ما يجب أن يقوله وما يجب أن يعتقده ويتصوره، وما يجب أن يستنكره، ومن ذلك جعل حادثة الحادي عشر في أمريكا كالمحرقة الألمانية لليهود، مَن لم يدنها ويستنكرها، فهو المعادي للسامية، ومن لم يستنكر الحادي عشر ويتألم لأجلها ويتهم كل التيار الإسلامي بها فهو إرهابي يدعو إلى الإرهاب وهو مشارك أو مؤيد لكل عمل إجرامي أو تخريبي في الدنيا.
6- البعد عن العدل والإنصاف والكيل بمكيالين، فبينما يتهم الإعلام مناهجنا وثقافتنا ويعيبها بأنها ترسخ في أبنائنا بُغض الآخرين – أي الكفار – وعداوتهم، وهذا حق ونفخر به لأنه مصداق قول ربنا سبحانه (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ) (الممتحنة: من الآية1).
يتغافل هذا الإعلام وهؤلاء الكتّاب عن مناهج وثقافة الأمم الأخرى، وكيف أنها ترسخ مفهوم العداوة والصداقة وفق أدبياتها ومعتقداتها.
فهذه أمريكا سيدة الحرية - التي يزعمون – ينتشر في مناهجها وثقافتها وإعلامها أن العرب بدو يركبون الجمال،وأنهم عبيد الرمال، وأن العالم العربي يتنافس فيه الأبطال الغربيون ويعيشون فيه مغامراتهم.
أما المسلمون فهم في الثقافة والمناهج الدراسية الأمريكية سفاحون وإرهابيون ومحاربون متطرفون ومضطهدون للمرأة ويعتنقون الجهاد والحرب المقدسة.
هكذا يُعلمون أبناءهم وأحفادهم معنى الكراهية والحقد لكل ما هو عربي ومسلم، بينما يريد الإعلام منا أن نعلم أبناءنا أنهم دعاة الحرية والسلام والديمقراطية، وهذا ما أثبتته دراسة حديثة كشفتها منظمة الايسسكو، حيث أكدت الصور السلبية التي ترسمها الولايات المتحدة الأمريكية لأبنائها تجاه المسلمين والعرب على المستوى التعليمي، فقامت بتغيير مناهجها مؤخراً لتصور المسلمين على هذا الشكل من التطرف والإرهاب، في حين يريد منا إعلامنا – ويا للأسف – أن نغير مناهجنا لتكون أكثر تسامحاً مع عدونا وحباً له، فنحذف لأجله آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدعوا إلى الجهاد، أو إلى بغض الكافرين ومحبة المؤمنين.
بل إن مركز الدراسات الأكاديمية في ألمانيا أجرى دراسة لمدة عشر سنوات تناول فيها المقررات الدراسية في المدارس من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية في ست دول غربية كبرى، ووجد أن هذه المناهج مليئة بالأخطاء الجسيمة عن الإسلام.
بل اعترف عضو الكونجرس الأمريكي \"بول فندلي\" الذي قام بتأليف كتب تدافع عن الإسلام شرح فيها كيف أنه هو نفسه لُقّن كراهية الإسلام في دروس الأحد بالكنيسة في التعليم الابتدائي.
فأين إعلامنا المنصف ليشاهد هذه الأمثلة الصارخة ويكف عن مناهجنا، ويكف عن ثوابت عقيدتنا وهويتنا، أليست هذه الأمثلة كافية لأن يكف هذا الإعلام عن التحريض والتعريض برموزنا ومظاهر مجتمعنا المتدين ومؤسساتنا الشرعية وجمعياتنا ومناشط الدعوة في مجتمعنا ويعاملها معاملة الإنصاف والعدل، أم يستكثر هذا الإعلام بغلوه وإرهابه علينا أن ندين بالإسلام الحق، أوَ يستكثر علينا أن نحب من يأمرنا الله بحبه ونكره من يأمرنا الله بكرهه – أوَ يستكثر علينا أن نمارس حقنا في أن تصطبغ مناهجنا وحياتنا وحياة أبنائنا بصبغة الإسلام الذي هو تاريخنا وحاضرنا وهو منهج حياتنا وسبب عزنا.
بلى لقد استكثر هذا الإعلام علينا حتى رؤية أطفالنا صور شهداء فلسطين كي لا تترسخ عداوة اليهودي والأمريكي في أذهانهم وحتى لا تبقى لهم قضية يدافعون عنها.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّت عَلَيهِم كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ وَلَو جَاءَتهُم كُلٌّ آيَةٍ, حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:96، 97).
7- التطبيل لرموز منحرفة صغار السن والعقول وتقديمهم للأمة تحت مسمى كاتب أو مفكرº ليقوم هؤلاء بمهمة توجيه الأمة والتنظير لقضاياها الكبرى، وإذا بهؤلاء الغلمان يجدون أنفسهم يتسنمون منابر الإعلام ومنافذ الفكر بعد أن كانوا مرتكسين في حمأة الغلو المنحرف، وإذا بهم يمثلون طلائع الصفوة والنخبة التي فرضها هذا الإعلام بأسلوبه المغالي غير المنصف على المجتمع المسلم، وإذا بهذه النخبة بعد أن سمع الناس كلامها، وقرأوا مقالها تحمل فكراً عقيماً أجوفاً، لا يقيم وزناً لثوابت الدين ولا يفقه متغيراً.
بينما أهل العلم والاختصاص، أصحاب المنهج السليم المعتدل، أصحاب الدعوة الصافية مهمشون، لا يُدعون لإبداء الرأي ولا للنظر في قضايا الأمة الكبرى.
إن كاتباً أو صحفياً تشابهت أطروحاته ومطالبه مع أطروحات ومطالب عدونا في المرأة والمناهج والهيئات والجهاد والولاء والبراء والدعوة حقه أن يصمت.
وإن إعلاماً لا يمثل ثوابت الأمة، ويهاجم تدينها، وانتماءها، وهويتها، ويثير الفتنة في المجتمع، إعلام خائن للأمانة، فاقد لحس المسؤولية.
إن الأمن بمفهومه الشامل الأخلاقي والعقائدي، والأمن على الأرواح والأموال مسؤولية كل فرد في المجتمع، وكل مؤسسة إعلامية وغير إعلامية.
فيجب على الأمة أن تهبّ جميعاً لوقف الفتنة وحفظ الأمن والأخذ على يد السفيه الذي يريد الإخلال بأمن المجتمع حتى ولو كان كاتباً في صحيفة\" فإن الفتنة أشد من القتل\".
وكما يجب أن نستنكر القتل وترويع الآمنين بغير حق، فكذلك يجب أن نستنكر من يستغل الأحداث لإحداث الفتن والبلبلة في صفوف المجتمع بإثارة الخلاف وتفريق الصف.
وكما أن في الإعلام من يمارس الإرهاب ويروج المفاهيم الضالة، فإن هناك من الكتّاب والإعلاميين والصحفيين أصحاب أقلام نزيهة وألسنٍ, صادقة، يبذلون النصح والتوجيه بصدق وأمانة، يرفعون راية العدل والإنصاف، يعلمون أن الإعلام الجاد الناجح هو الإعلام الذي يتخذ الصدق شعاره، والأمانة دثاره، هو الإعلام الذي يحمل همّ أمّته، وينتصر لقضاياها، ويقدّم الحلول الجادة، وهو الإعلام الذي يمثّل حقيقة الانتماء لهذه الأمة، ويمثل دينها وأخلاقها، يحزن لحزنها، ويفرح لفرحها، وهو الإعلام الذي لا يتاجر بمآسي المسلمين ليروج بضاعته الفاسدة، ويُدخل على أمته أفكاراً عقيمة غريبة، وهو الإعلام الذي يقدم الأصلح والأنفع للمسلمين ولو على حساب المنافع المادية والشهرة والإثارة.
هكذا يفهم هؤلاء الإعلاميون الصادقون مهنة الإعلام، وهكذا يجب أن تكون.. فهل يعي ذلك من تقلدوا الغلو والإرهاب الإعلامي!!؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد