ليس في المخلوقات كلها ما هو أعجب أمراً من الإنسان ولا ما هو أكثر جمعاً للمختلفات منه ، فالإنسان أمره كله أعجب ، انظر إليه فبينما ترى فريقاً منه ينازع الملائكة الطهر والسمو الروحي والجمال المعنوي النفسي إذا بك ترى فريقاً آخر منه ينازع الشياطين الخبث والإنحطاط الروحي والقبح المعنوي النفسي . ثم انظر إليه فبينما ترى فريقاً منه يسمو ويمعن في سموه حتى يتصل بالملأ الأعلى ، إذا أنت ترى فريقاً آخر منه يهوى ثم يغلو في هويه في دركات الصغار والضعة والهوان المزري حتى يرضى لنفسه بأن تتعبد الأحجار والأشجار والجماد الصامت الوضيع وتتلمس حاجاتها وشفاء كلومها تحت أطباق الرغام وبين ضرائح الرمم وعظام الموتى وهياكل الإنسان الفانية البالية وحتى تشكو قضاء السماء إلى رهين الثرى والبلى وحتى يفزع الإنسان الحي السوي إلى الإنسان الميت يستدفع به فوادح الأقدار .
ضل الإنسان وغوى فعبد الشمس والقمر والأجرام العلوية فقيل أغراه بهذه الضلالة وبهذا النـزول الفكري الاعتقادي ما رآه في هذه الأفلاك العلوية النيرة من الجلال والجمال والإشراق الباهر والعظم المشهود الفتان ، ثم ضل وغوى فعبد الملائكة فقيل أغراه بعبادتهم ما أكرمهم الله به من طهارة وعلو ومن اتصال به تعالى ومن خصائص خلقية عجيبة ، ثم ضل وغوى فعبد هذه الأنهار المتدفقة عن اليمين وعن الشمال فقيل أغراه بعبادتها ما أودعها الله من المنافع للإنسان وللحيوان ، ثم ضل وغوى وانحط غيه وضلاله فعبد الأحجار والأخشاب والستائر المنصوبة على هيكل مخلوق ضعيف عاجز عن نفع نفسه وعن ضرها حياً ، فلما أن قيل ما الذي أغراه بعبادة هذه الأخشاب والأحجار والأحداث وما الذي أبصره هنالك حتى ضل هذا الضلال المبين لم يكن الجواب سوى أن يقال أغراه بهذا نقص الإنسان وإفلاس الإنسانية وانحدار مداركها انحداراً يصره في وجه الإنسان المزهو بإنسانيته قائلاً : ها هنا ينتحر العجب الإنساني وها هنا تنتحر الإنسانية .
عرج على قبر من تلك القبور ثم استمع حشرجة تلك الصدور بهتافات الرغبة وإعوال الرهبة وتسمع تساقط الرغبات الملحة من تلك الشفاه الذابلة بحرارة الذعر وتوهج الرجاء وانظر إلى تلك الوجوه الذاهلة الساهمة بنشوة الخضوع وجلال الخشوع وإلى تلك الدموع المتحدرة في الحس ماء من العين وفي العقل عبادة واستسلاماً لغير الله من القلب والعقل وإهانة كبرى للإنسانية أينما كانت ، وإلى تلك الأيدي المبسوطة ظاهراً بالأمل المبسوط على تلك الستائر والأبواب والأخشاب والعمد المبسوطة معنى إلى كرامة الإنسان ومجد العبودية الإلهية لتمزيقها شر ممزق وإلى الشرف الإنساني الرفيع لتهبط به تحت أقدام الموتى وأشلاء الفناء وانظر إلى تلك الوفود المختلفة المزدحمة ذات الحاجات المختلفة المزدحمة والجموع المتدافعة على تلك القباب والأبواب ذات الأنواط والحبال وعلى تلك الأضرحة رجاء البعيد القصي وقرة عين القريب النجي .
انظر إلى ذلك كله وتسمع ما هنالك كله ثم صب الدمع سخيناً غزيراً على كرامة الإنسان ومجده وعلى عزة العبودية الماجدة الواحدة الموحدة المراقة بلا ثمن سوى الخزي والعار في الدنيا ثم الويل والنار في الأخرى ثم قل والخطاب للمسلم وحده :
ويحك أيها المسلم ماذا دهاك ؟ !! إن أسلافك الأمجاد لم يقنعوا بهذ العالم كله مطلباً وغاية حتى عقدوا من أسيافهم وصالح أعمالهم درجات يمتطون بها ثبج الهواء ويشقون بها حواجز المادة والطبيعة ليتصلوا بغاية الغايات ونهاية كل موجود فما أنت والرضا بالتراب ؟ ولقد كان المسلم يتلو قول الله : ( أليس الله بكاف عبده ) فيحمل سيفه المثلم ورمحه المحطم من مسايفة الأبطال ومقارعة الصناديد المغاوير فيقذف نفسه في غمرات الموت يطعن ويضرب فلا يفكر في أن ينهزم وصدره يعي هذه الآية ومعناها العلوي السماوي ، حتى لو وقف العالم كله ليصده عما أراد وليحول بينه وبين الإنتصار للحقيقة الواحدة الخالدة فما أنت وخشية التراب ؟ .
ولقد كان الأعرابي يلقى محمداً صلى الله عليه وسلم فيتلو عليه قول الله : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) فتتضاءل المخلوقات وتتلاشى في عينه ومن نفسه حتى يدركها الفناء فيروح يضرب الباطل وفلق هامات الضلال غير حاسب لغير الله حساباً وغير قابل إلا لخالقه حكماً وغير محس لغيرالحق وحده وجوداً ، فيكبر هو في عين الوجود وفي نفسه حتى يتصدع له بناء الطبيعة ويخشع له إجلالاً قانون المادة ، ويحل في حساب الباطل والضلال حتى يبصرا في كل شعرة منه ألف جحفل يقاتل في سبيل الله . فما أنت والرغبة في التراب .وكان المشرك الدنس يتلقى لا إله إلا الله فتعقم جسمه ونفسه وتطهرهما من الشرك والشهوة والفسوق والحيوانية النهمة ، فيسمو على الشهوات وحاجات النفوس وعلى مآرب الطبيعة وحاجات المادة فيروح ويغدو ملكاً في أثواب إنسان ومعنى طاهراً مقدساً في صورة مادة ، فما أنت ومساءلة الأطلال الفانية ؟؟! .
وكان المسلم الأول يمر على قول الله : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ) فتحول بينه وبين الخلق جميعاً وتسد عليه طريق الرغبة في العباد كافة فتمر به مصائب الناس جميعاً ويلقى في حياته معنى صفة الله \"الجبار\" الممحص في معناها الجلي الظاهر الكامل فلا يدل مخلوقاً على مكان ألمه ولا يكشف لغير الله عن موضع علته ولا تسمع منه أذن مخلوقة قوله آه ولا يسأل مخلوقاً عوناً حتى لقد كان يسقط منه عصاه فلا يقول لأحد ناولنيه ، فما أنت ودعوة الأموات والشكوى إلى الرمم والعظام النخرة .
ويلك أيها المسلم ماذا غرك بهذه النصاب والأجداث ؟؟ أرأيت منها خلق شيئاً منك فاستحق خضوعه وعبادته ورغبته ورهبته ، أم علمت أن شيئاً منها خلق شيئاً من هذا العالم فملكه حتى طمعت فيما خلق وملك فرحت تسأله وتستوهبه إياه برغب ورهب . أم وجدت أن شيئاً منها امتنع على الله حتى رحت ترجو منعته أو أعانه وشاركه حتى رغبت في معونته ومشاركته ، أم وجدت هذه الأخشاب والأبواب والأموات أقرب إليك من الله وأرحم بك وأعلم بحاجتك منه أم أسرع إجابة وأوسع سلطاناً واعظم فضلاً من رب العالمين فطفقت تسألها حاجاتك يوم يسأل المؤمنون ربهم ، أم علمت أن الله لا يسمع دعاءك ولا يتقبل عبادتك حتى تذل لعبيده وحتى تسألهم أن يعطوك ما لا يملكه وما لا يقدر على ملكه واعطائه سوى رب العالمين ..؟؟
ويحك أيها المسلم رغبت عن الله فرغب الله عنك ، وتخلى الله عز وجل عنك بنصره وعونه إذ تخفيت أنت عن استنصاره واستعانته ، فخسرت خسرانا مبينا . وتخلى عنك الخيار من عباده إذ تخليت عن إرشادهم وسننهم فخلا بك الأشرار من خلقه فافترسوك فهلكت بين نسيان الله والخيار من عباده لك وبين ثورة الأشرار من خلقه بك ، فأصبحت في الهالكين الغابرين .
ويحك أيها المسلم ؟!! شرب المؤمنون صفواً وشربت أنت كدراً ، ودعوا هم رباً واحداً ودعوت أنت الف رب ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) ، ورغبوا هم في السماء ورغبت أنت في الأرض ، ونادوا هم خالق الأحياء وناديت أنت أشلاء الأموات ، ورفعوا أبصارهم إلى السماء ونكست طرفك وخفقت برأسك أنت إلى الثرى ، وأين الثرى من السماء وأين عابد الأموات من عابد المحيي المميت الذي لا يموت ؟ (( ( هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) .
أولم يبلغك أيها المسلم مصارع المشركين الأولين وكيف فعل الله بمن عدلوا به غيره من الأوثان والصالحين والأنبياء ؟ ألم يأخذ الله أولئك المشركين كلهم إلى الهلاك ثم إلى النار سوقاً ، لأنهم لم يؤمنوا بلا إله إلا الله ، إذ تواصوا هم وآبائهم قائلين ( أجعل الآلهة إله واحد إن هذا لشيء عجاب ؟ ) .
أما وجدت في كتاب الله مثلات الأولين والآخرين وأمثال الهدى والضلال المبين ؟ ويلك لقد انقطعت الرسالات فلا رسالة بعد رسالة محمد عليه السلام ، ولا كتاب بعد كتاب الله القرآن فإن لم تجد فيهما الهدى فلن تجده ولن تكون من المهتدين .
هذا في المسلمين بلاء وأي بلاء ، ومنكر ما فوقه منكر لأنه أعظم الذنب ألا وهو الشرك بالله عز وجل .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد