الطوفان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، أما بعد:

إنه مما يحز في النفس ويملأها ألماً وحزناً تساقط رايات كثيرة من أبناء المسلمين، واستسلامهم أمام إغراءات وغزو تلك القنوات الفضائية الفاسدة، غافلين أو متغافلين عن ضررها وخطرها، وشرها وبلائها، وآثارها وتدميرها.

ورغم خطورة الأمر وفداحته إلا أن البعض قد يهون من أثر هذه القنوات، وبرغم بأنه لم يلحظ على نفسه وأولاده وبناته تغيراً يذكر بسببها.

فنقول لمثل هؤلاء إنه ليس شرطاً في التغيرات أن ينحرف الإنسان مباشرة بعد نظره إلي تلك القنوات، فقد يكون هناك تغير في السلوك والأخلاق ولكن قد يكون ذلك تدريجياً وعلى المدى البعيد، وقد لا يحصل للكبار ومن عندهم بقية من دين وعقل وخلق، ولكن قد يحصل ذلك للصغار الذين سيتربون على تلك المناظر ويألفونها، وتكون عندهم أمراً عادياً بعد ذلك.

ولو فرض أنه لم يحصل أي شيء من الفساد الظاهر فإن مجرد النظر إلي تلك المناظر المخزية والتعود عليها، واعتبار ذلك أمراً عادياً هو بحد ذاته تغير في النفوس، واستمرار للمعصية وللخطيئة التي يحرمها الدين وتأباها الفطر السليمة، وتحميل للنفس ذنوباً وأوزاراً هي في غنى عنها وكفى بها من مصيبة - نسأل الله تعالى - ألا يجعل مصيبتنا في ديننا.

 

قتل الحياء لدى النساء:

إن أغلب برامج القنوات الفضائية من أكبر أسباب قتل الحياء لدي النساء، وكيف ينتظر من المرأة من الحياء وهي ترى بهذه القنوات أفلاماً تنسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام عينيها مظاهر التبرج والسفور، والعلاقات المحرمة والتخلي عن كل معاني العفة والفضيلة، وترى أفلاماً تعرض تفاصيل الفاحشة بكل وقاحة، وترى الخيانات الزوجية تقدم على أنها حريات شخصية، وترى كيف يعمل العاشق مع معشوقته، وما يقع بينهما من الحركات المغرية، والتأوهات والهمسات المثيرة التي تثير الحجر وليس البشر، فماذا تراه سيجول في خاطرها ويتحرك في نفسها وهي ترى هذه المناظر تتكرر أمام عينيها باستمرار، هل سيبقى فيها بعد ذلك شيء من الحياء؟؟

أن هناك نساء مستورات في بيوت عريقة ضاربة في الأصالة والشرف ضعفن وسقطن - ولابد أن يضعفن أمام هذا التفجير الغرائزي المسعور -، أفتظن أنت أيها الغيور أن ابنتك أو زوجتك معصومة ولا يمكن أن تخطيء وأنت قد هيأت لها أسباب الخطأ وبيدك وضعت مقدماته؟

 

البداية أخبار والنهاية هتك أستار:

يتعذر كثير من الناس بأن سبب استقباله للقنوات الفضائية إنما هو لمشاهدة الأخبار والإطلاع على أحوال العالم، ولو فرض أن ذلك صحيح فهل ستخلو هذه الأخبار من منكرات من بدع في الدين وشركيات وصور نساء وموسيقى متفق على تحريمها، فهل أبيح له مشاهدة تلك المنكرات؟ž وهل هذه الأخبار مهمة وضرورة ملحة إلي درجة أن يرتكب الإنسان بسببها المعاصي، ويغضب ربه، وأن يضحي بدينه ودين أبنائه وأخلاقهم، وأن يضطر هو وإياهم لمشاهدة ما يعرض فيها من مناظر مخزية ومشاهدة فاضحة وفتن مهلكة من أجلها؟؟

ثم هل عدمت أسباب الإطلاع إلا بطريقة تخرب معها البيوت، وتهدم بها الأسر؟! إن هناك مصادر أخرى كثيرة أشرف وأصدق من هذه القنوات الفاسدة كالإذاعات المشهورة، والمجلات الموثوقة ونحو ذلك مما ليس فيه شبهة ولا فتنة، ولكن هذه الادعاءات إنما هي في الحقيقة أعذار وحجج واهية، فالبداية أخبار والنهاية هتك أستار، وعلى فرض النفع الذي قد يدعيه البعض من أخبار وبرامج ثقافية وعلمية فإنه على ضآلته لا يوازي ذلك الكم الهائل من الفساد الفكري والديني والخلقي والأمني بل والنفس، والذي لا هدف له ولا نتيجة إلا إيجاد أجيال مبتورة الصلة بدينها وأمتها، ناهيك عما تقوم به هذه القنوات من تخدير للشعوب من خلال إشاعة الفاحشة، وبث الرذيلة، ونشر الإباحية، وترويح العنف والجريمة، والتعود على رؤية المنكرات والمناظر المخزية.

فهل هذه المفاسد جمعاء توازي ما يدعيه البعض من نفع يحصلونه من تلك القنوات؟؟

(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً).

 

الكفار يشتكون:

لسنا لوحدنا الذين نشكو من أخطار القنوات الفضائية فقد وقف رئيس فرنسا يشتكي من خطر الأفلام الأمريكية وتأثيرها على الشباب الفرنسي، وفي السويد أيضاً يشتكون من غزو الثقافة الفرنسية لبلادهم، وهكذا كل دولة تشكو من الأخرى رغم أن دينهم واحد وثقافتهم وعاداتهم متقاربة، ومع ذلك يحذر بعضهم من بعض، وعرفوا آثاره على الأطفال وعلى الشباب والفتيات، اهتدوا لذلك بعقولهم، وإننا والله نحن المسلمين الذين لنا دين يحرم كثيراً مما يعرض في تلك القنوات ولنا عادات تخالفها لأشد خطراً وأولى وأجدر بمحاربة تلك القنوات ومقاطتعها نهائياً، فلقد أنتجت هذه القنوات وستنتج جيلاً غربياً تائهاً صاغت القنوات الفضائية فكره، وحددت مساره وثقافته، وربته على مقارفة كل رذيلة، ومحاربة كل فضيلة، جيل تحللت أخلاقه، وانحرفت عقائده، وتزعزعت مبادئه وقيمه، جيل همه وغايته شهوة بطنه وفرجه، فماذا ينتظر منه بعد ذلك.

 

 والأبناء أيضاً يشتكون:

يظن كثير من الآباء أنهم قد أحسنوا إلي أبنائهم وفعلوا بهم خيراً عندما مكنوهم من مشاهدة تلك القنوات الفضائية وأنهم سعداء بذلك، ولكن الواقع غير ذلك، فإن كثيراً من الأبناء قد أحرقتهم هذه القنوات، ومزقت عواطفهم، وشتت أذهانهم، وأصبح الكثير منهم يعيش في ضياع وقلق واكتئاب نفسي خطير، حتى ولو لم يعلنوا ذلك ولكنه يختلج في صدورهم، ويتمنى الكثير منهم الخلاص منه، ولكنهم لا يستطيعون ذلك وهم يرونه أمامهم.

ولنستمع لهذه المناجاة الصادرة من أحد الأبناء تجاه والده يقول أبتي:

إن كثيراً مما هيأته لي عبر القنوات الفضائية أصبح مصدر إزعاجي وبؤسي، وما كنت أسعد به أصبح مصدر التعاسة الكبرى لي، وإنني لأسمع كثيراً أن الأب غالباً ما يحب الخير لابنه، فأصرخ بقوة إلا أنت يا أبي.

والله يا والدي إنني الآن أتقلب في نار أشعلتها أنت تحت قدمي، شعرت بذلك أم لم تشعر، وأشرب سماً وضعته أنت لي في الكأس وأعطيته لي، أحسست بفداحة ما فعلت أم لم تحس أنت، أنت يا والدي يا من علمت أنك تحب الخير لي كنت أول من رسم لي طريق الضياع بواسطة هذا الدش، فيا لفداحة ما فعلت يا أبي.

أبتي: هل يسرك أن تراني وقد ضاع إيماني وحيائي، وزلت قدمي عن الطريق المستقيم؟ لا أدري أيسرك دماري أم يا ترى يسرك ضياعي؟

ماذا أقول لك؟ هل أقول لك أنك قد دمرت أخلاقي، وحطمت حياتي، حملت نفسي كل معاني البؤس والشقاء والحسرة والندامة بسبب هذا الشر الذي أحدق بنا وأحاط بنا من كل جانب.

يا أبتي: هل نسيت أم تناسيت أننا أمانة في عنقك وأنك مسؤول عنا، فهل يا أبتي حفظت الأمانة، وتحملت المسؤولية، ونصحت للرعية التي استرعاك الله عليها، هل نسيت يا أبتي أم تناسيت حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ما من راع يسترعيه الله رعيته يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) إنه وعيد شديد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

يا أبتي: إنني أناشد فيك الأبوة الحانية إن كنت أباً ناصحاً مشفقاً وتريد مصلحتنا وتنشد سعادتنا، إنني أناشدك أن تزيل هذه المنكرات التي أفسدت قلوبنا، وأماتت غيرتنا، وأذهبت حياءنا، وصرفتنا للبحث عن الشهوات والنزوات، وستوقعنا في أوحال الرذيلة وشرور الشبهات والشهوات أ هـ.

هذا ما قاله الفتي، فماذا يا ترى تقوله الفتاه؟

هذه شكوى واحدة ضمن آلاف الشكاوى التي تختلج في صدور أبناء المسلمين ممن ابتلوا بهذه الدشوش حتى ولو لم يعلنها البعض منهم ولكنها تؤرقهم وتقض مضاجعهم.

فهل يا ترى ينتبه الآباء ويصحوا من غفلتهم وسباتهم، وينقذوا أبناءهم من شرور تلك القنوات، ويخلصوهم من سياط الألم الذي يقطع قلوبهم، أم أنهم يبقوا كما هم آباء متحجرين ظلمة يحاربون الله - عز وجل - في عليائه.

 

إلى متى هذا العناد؟

أخي الحبيب صاحب الدش:

كم نادى العلماء بتحريم استقبال مثل تلك القنوات، وكم حذر العقلاء من أخطارهم، وكم نادى الغيورون ببيان آثارها وأضرارها، ورغم كل ذلك فأنت لا تزال مصراً على مشاهدتها فلماذا يا أخي كل هذا العناد وهذا الإصرار على الخطأ، والإعراض عن قبول الحق؟

ماذا تنتظر؟ هل تنتظر عقوبة تحل بساحتك؟ أم تنتظر فضيحة لابنك أو ابنتك حتى تفيق بعدها وتعتبر؟ أما تخاف الله يا مسلم؟ أما تخشى بطشه وأليم عقابه؟ ((إن بطش ربك لشديد) أبك جلد على النار والحميم؟ أم بك جلد على الضريع والزقوم؟

أو تظن أخي أنك قد خلقت عبثاً، وتركت سدى تتخبط في ظلمات المعاصي وأوحال الشهوات، تنتقل من قناة إلى قناة، ومن مسلسل إلى فيلم، ومن رقصة إلى أغنية ((أيحسب الإنسان أن يترك سدى) فلو كان الأمر كذلك لسبقك إليه غيرك فإن في كل الناس غريزة وميل إلى الشهوات والملذات، ولكن حال بين العقلاء منهم وبين ما يشتهون خوفهم من ربهم، وأضرار تلك القنوات في الدنيا قبل الآخرةº لأن هؤلاء تسيرهم وتوجههم عقولهم وليست شهواتهم فلذلك انتصروا على أنفسهم، وتغلبوا على شهواتهم، فكن أخي من هؤلاء، واقتد بهم، ولاتكن ممن أصبحت توجههم وتسيرهم شهواتهم وفروجهم.

أخي الحبيب: لكي تعلم أن كثيراً مما يعرض في تلك القنوات إنما هو متعة وقتيه وسعادة وهمية انظر كم مضى عليك من الشهوات والسنين وأنت تقلب ناظريك بتلك المناظر الجميلة والصور الفاتنة، ماذا استفدت حتى الآن وماذا بقي لك منها؟ إنها والله شهوات وملذات ذهبت عنك سريعاً ولكن تراكم عليك وزرها وإثمها كثيراً ((أفرأيت إن متعناهم سنين* ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)).

وربما تقول إن الاستغناء عن هذه القنوات أمر صعب وشاق على النفس لما يعرض فيها من المشاهد الممتعة، والصور الفاتنة المحببة للنفس والتي تغري بمشاهدتها ومتابعتها.

فأقول لك: في مثل هذه المواقف تتجلى قوة الإرادة، ويتبين صدق الإيمان، وتتأكد حقيقة الاستسلام لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فما الفرق بين العاقل والسفيه، وبين المتعلم والجاهل، وبين قوي الإرادة وضعيفها، وبين المسلم الصادق والمسلم المدعي.

ثم لا تظن - أخي الحبيب أن أصحاب هذه القنوات سواء كانوا من الكفرة أو من غيرهم لا تظن أنهم أنشأوا هذه القنوات وخسروا عليها الملايين لتسليتك أنت وأبنائك، والترفيه عنكم وتثقيفكم ،كلا والله ما هذا أرادواº إنما أرادوا تدميركم بها، بل تدمير المجتمع المسلم كله وإغراقه في الجرائم والفواحش لإضعافه وصد أبنائه عن دينهم، وجعلهم يعيشون بلا هدف ولا غايةº لأن أعداء الإسلام جادون في الإجهاز على الإسلام وأهله، ولئن كان المسلمون تركوا الجهاد، ووضعوا السلاح، ورضوا الذل، فإن أولئك والله لم يضعوا سلاحهم قط، وإنما فقط غيروا نوع السلاح، فبعد أن أدركوا أن الهزيمة العسكرية قد تذكي في المسلمين روح الانتقام، وتكشف لهم ما في صفوفهم من خلل ثم ما يلبثوا أن ينظموا صفوفهم ويعودوا أقوياء به.

بعد أن أدركوا ذلك جيداً تركوا الغزو العسكري ولجأوا إلي غزو أعظم أثراً، وأشد فتكاً في الأمة من القنابل والصواريخ بل ومن السلاح النووي ألا وهو الغزو الفكري، وهذه القنوات الفضائية هي من أعظم وسائل هذا الغزو خطورة، وأشده تأثيراً على الأمة، وأنت أخي باستقبالك لهذه القنوات، ورضاك بها لا شك أنك ستكون عوناً لهؤلاء الأعداء في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، وفي نشر الفساد بين أبناء مجتمعك، فهل يا ترى سيسمح لك إيمانك وضميرك بذلك؟ أم أنه سيؤنبك ضميرك ويردعك إيمانك، وستتحرك غيرتك لدينك وأمتك، وسترفض كل تلك الإغراءات والشهوات وتكون عضواً نافعاً وجندياً مخلصاً لدينك وأمتك؟نتمنى ذلك.

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply