بسم الله الرحمن الرحيم
في عيد الفطر المبارك تعرضت بعض الأسر التي جاءت لحضور احتفالات العيد في طريق الأمير عبد الله لاعتداءات طالت النساء بشكل خاص في السيارات وداخل المطاعم، اجتاحت \"قطعان\" من الشباب الفالت أقسام العائلات في المطاعم، وتعرضوا للنساء، واقتحموا سيارات الناس الخاصة، واعتدوا على النساء.
لقد أحدث هذا السلوك (الإجرامي) - الذي ليس هو الأول من نوعه - صدمة عنيفة لدى المجتمع، وأحدث كذلك جرحاً عميقاً في قلوب الأسر التي تعرضت للاعتداء، ونالها الأذى، وولد أيضاً استياءً عاماً لدى أقارب ومعارف المعتدى عليهن على وجه الخصوص. الذي حدث - كما قلنا - ليس هو الأول، إذ يقع مثله أو قريب منه بعد كل مباراة رياضية يفوز بها المنتخب أو أحد الأندية الرياضية الكبيرة، عند كل مناسبة تخرج حشود الغوغاء من الشباب بالآلاف بسياراتهم فيسدون الشوارع والطرقات ويتحرشون بالنساء ويعتدون على الناس لفظياً وجسدياً.
ما حدث لم يكن سوى (رأس) جبل الثلج العائم، وإفراز لواقع أشد تردياً، إن مجتمعنا يعيش أزمة تربوية عميقة، ويشهد في بعض جوانبه انهياراً أخلاقياً مخيفاً، في بداية هذا الأسبوع تعمدت أن أدخل (كافتيريا) قرب إحدى المدارس الثانوية حيث بعض الطلاب الذين أنهوا امتحاناتهم فاجتمعوا للأكل والشرب، وتزجية الوقت، وربما في انتظار امتحان الفترة الثانية، كانت الغالبية الساحقة منهم تدخن وهي ظاهرة تدعو للقلق، لقد هالني أكثر انحطاط لغة التخاطب بينهم، كانت مفردات حوارهم من ساقط الكلام، وفاحش القول.
ينادون بعضهم بلعن آبائهم وأمهاتهم (...)، ويلوثون الفضاء بالقبيح من الألفاظ، والبذيء من العبارات، لقد كان الكلام مؤذياً وجارحاً إلى الحد الذي لم استطع أن أبقى لأسمع المزيد.
المدرسة تقع في حي يصنف سكانه اجتماعياً من الطبقة فوق المتوسطة، وهذا مؤشر على أن المتغير الاقتصادي، (الفقر مقابل الغنى)، لا علاقة له بهذا الانحطاط الأخلاقي، وتدني مستوى التربية، يحدث أحياناً أن تقع أمامي في الطريق بين العمل والبيت حوادث احتكاك بين السيارات يعمد أصحابها إلى حسم الخلاف بينهم باللجوء إلى العنف اللفظي، ومرات إلى العنف الجسدي، بما يؤكد أننا نعاني خللاً تربوياً مريعاً، أنزل إلى الأسواق بصحبة زوجتي فأرى مشاهد تستفزني وتصدمني، وأحياناً تحرضني على ردود فعل غير منطقية، طوابير الشباب تروح وتجيء، عيونهم مملوءة بسعار جنسي يترجم أحياناً إلى ممارسات توحي بأننا نعيش أزمة حقيقية في نسقنا القيمي والأخلاقي، في مقابل ذلك أيضاً طوابير من النساء الفارغات يعرضن أجساداً ومفاتن تؤجج هذا الهياج الشهواني الذي لا يفرق بين العفيفة والماجنة، إزاء هذا الحال سيطر علي هاجس مرعب: هل تحولنا على ضوء سلوك شبابنا إلى شعب شهواني هائج جنسياً، تسوقه الغريزة؟ هل أصبحت (عقلية القطيع) هي التي تسيطر وتطلق العقال لكل سلوك حيواني، كما يقول (جوستاف لوبون)، عندما تنتظم في (حشد)؟
لقد أصبح خروج المرأة لوحدها إلى السوق مجازفة، ومن تضطره ظروفه ليخرج مع زوجته أو ابنته أو أخته فإنه لن يسلم من مناظر تخدش الحياء، لقد رأيت بعيني في أحد شوارع الرياض الرئيسية وأمام الناس شاباً يخرج جسمه من السيارة التي كان يركبها ويدخله في سيارة مجاورة فيها نساء، حينما اقتربت منه نصحته بأدب وبهدوء، رد علي معتداً بسيارته (الفارهة):
(ضف وجهك يا...) أدركت أنه ليس سلوكه فقط هو المنحط، والمتخلف... و(الحيواني)، وهي الصفة التي رماني بها، بل كذلك قاموسه، وكلماته، وما تمتلئ به تلك الجمجمة الفارغة إلا من بقايا سلوك بهيمي، إنه لا يملك من مظاهر التحضر - كما يقول الدكتور عبد الواحد الحميد - إلا السيارة التي يمتطيها، والحذاء الذي ينتعله (...)، لقد هممت بأن أفعل شيئاً لكني شعرت بالعجز خاصة وأنا أرى رجل الأمن لا يبعد عنه إلا أمتاراً قليلة ولم يحرك ساكناً، ما دام أنه لم يقطع الإشارة، أو يقف في مكان ممنوع الوقوف فيه (...).
هذا الخلل التربوي العميق من المسؤول عنه؟ هل يكفي أن نقول أن أجهزة الأمن قصرت في لجم هذه العناصر المنحرفة؟ هل يبرر هذا السلوك المنحرف وجود فئة من الناس انطلقت نساؤهم في الشوارع والأسواق بمظاهر استثارة رخيصة للغرائز؟ هل نحن فعلاً أصبحنا مجتمعاً بلا هوية؟ تحولنا إلى شعب مستهلك لكل شيء، من أجهزة الـ(Hi Fi)، والسيارات الفارهة، إلى الملابس وأسلوب الحياة... والمباذل الأخلاقية التي يصدرها لنا الآخرون، كيف تحولنا إلى ما نحن فيه: جرائم قتل من نوع لم نعهده، حالات انتحار عالية، سلوك شهواني منطلق، وغرائز مفلوتة؟ هل السبب خطط التنمية، وانفتاحنا غير المدروس؟ هل هي (الفضائيات) التي تصب الرذيلة في عيون الأطفال؟
كنت في جدة يوم الخميس الماضي في رحلة عمل حينما عدت إلى الفندق بعد منتصف الليل، بدأت أقلب محطات التلفزيون، متنقلاً بين (الفضائيات)، لقد كان شيئاً مخيفاً ومفجعاً ومحزناً، قنوات بعضها يملكها مسلمون بل ومواطنون تحشو عقول الناس حشوا بالعهر والفجور، كل شيء في تلك القنوات يدعو للزنا، ويطلق الشهوات من عقالها، العري الكامل، القبل، الأغاني الماجنة، الأجساد المترفة (الجائعة) التي تتمايل على صوت المغني، وهو يحرضها على الانفلات، كانت دوامة من الجنس والرغبات المحمومة، لا مكان للعقل، ناهيك عن الأخلاق فيها، أين يذهب هؤلاء من الله؟ أين يذهبون من حكم التاريخ الذي لا يرحم؟ إن الأمة مثلما سجلت وتسجل بأحرف من نور بناة حضارتها ومجدها من الرجال والنساء، سوف تلعن كل من يقض بنيانها الحضاري، كل من أحالها إلى مباءة للعهر والفجور والبغاء، ومرتعاً للغرائز، كل من قذف رذائل الغرب، ونفاياته الأخلاقية، وفجور الرجل الأبيض في سمائها.
إننا أمة في خطر، أمة تفقد أخلاقها، وتنسلخ من هويتهاº وهي تدخل (عصر العولمة)، إننا نشهد انهياراً أخلاقياً كل مؤسسة في المجتمع ترمي مسؤوليتها على الأخرى، أو تدفن رأسها - كما يقول الكاتب المبدع سعد الدوسري - في متابعاته العميقة، إنه سؤال التربية مرة أخرى: من المسؤول؟
يتفق الاجتماعيون والتربويون على أن هناك مؤسسات معينة في كل مجتمع تقوم بتنشئة الأفراد وتثقيفهم، وتعليمهم السلوك السوي المقبول اجتماعياً، إضافة إلى تلقينهم المعارف والعقائد التي تشكل هويتهم الثقافية والحضارية، وما يقوم عليه دينهم، هذه المؤسسات هي: البيت والمدرسة والمؤسسة الدينية، وهي في مجتمعات المسلمين الهيئات المعنية بتعليم الناس أمور دينهم، لقد ظل الناس لزمن طويل يعرفون لهذه المؤسسات دورها في تنشئة أفراد المجتمع على اختلاف بينهم حول أي من هذه المؤسسات يقع عليه العبء الأكبر في عملية التنشئة.
ثم جاء عصر وسائل الاتصال الجماهيري - أو وسائل الإعلام كما هو التعبير السائد -، في عصر الاتصال الجماهيري لم تعد وسائل الإعلام مجرد أداة ترفيه وتسلية، أو (مساهم) صغير في عملية تشكيل الفرد وصياغته، وتكوينه المعرفي والثقافي، أو ما يسمى التنشئة الاجتماعيةº لقد أصبحت الوسائل (لاعباً) رئيساً في العملية - كما نعبر أحياناً -.
لقد دخلت وسائل الإعلام كل بيت، وخاطبت الصغير والكبير، واقتحمت كل الميادين، من الفكر إلى الترفيه والتسلية، مروراً بالثقافة، لقد تضاءل دور مصادر المعلومات وطرق التلقي الأخرى أمام طوفان الرسائل الإعلامية التي استخدمت أعظم ما توصل إليه العقل البشري في تقنية الاتصال، واستهدفت بأسلوب جذاب العقول والعواطف بل وحتى الغرائز، في المقابل استسلم الإنسان لهذا (المربي الإلكتروني) الذي صار يقوم - إلى حد كبير - بدور الأب والأم والمدرسة، وفي أحايين كثيرة (الشيخ) الذي تؤخذ عنه الفتوى.
إن إدراك دور وسائل الإعلام في عملية التنشئة الاجتماعية يتضح من خلال معرفة مفهوم الناس لاستخدام تلك الوسائل، إن كثيراً من الناس يتعامل مع وسائل الإعلام على أنها مجرد أداة ترفيه بريئة ليس أكثر، أو مصدر مستقل للأخبار ليس غير، هذه النظرة فيها كثير من السذاجة والتبسيط، إذ ليس هناك ترفيه بريء ولا أخبار محايدة، إن كل ما نسمعه أو نراه أو نقرأه لا يخلو من هدف، أو بالتعبير المتعارف عليه بين المهتمين بالاتصال الجماهيري (مشحون بالقيم) Loaded Value ، استخدام هذا التعبير يشير إلى أن الرسائل الإعلامية سواء كانت في شكل خبر أو فكاهة أو برنامج علمي تسعى إلى إزالة قيمة من القيم وتثبيت أخرى محلها، أو ترسيخ شيء قائم والتصدي لآخر قادم، وهذا بالضبط هو مفهوم التنشئة الاجتماعية في أبسط صورة.
إن تعرض الإنسان منذ طفولته المبكرة إلى أن يموت للرسائل الإعلامية سواء كانت ترفيهية، أو إخباريةº يجعله (ينشأ) على القيم التي (تشحن) بها تلك الرسائل من حيث لا يشعر غالباً، إن مشاهدة الفرد مثلاً لتمثيلية تلفزيونية ساخرة تعرض مواقف مضحكة لشخص متعدد الزوجات تجعله يضحك، ويفرط في الضحك، لأن ما يراه فعلاً يثير الضحك لطرافته، (القيمة) المشحونة في رسالة إعلامية كهذه لا يراها ذلك الشخص وهو يتفرج على ما يعتقد أنه (تسلية بريئة)، تلك القيمة التي تتسلل إلى (اللاشعور) لتشكل موقفاً أو اتجاهاً من تعدد الزوجات.
إن الفرد سيكون أقل تجاوباً مع الرسالة الإعلامية التي تقول له بشكل مباشر (مقالة في صحيفة مثلاً): إن تعدد الزوجات أمر مزعج ومثير للسخرية، لكنه قبل هذا الرأي حينما تم عرضه عليه من خلال تلك التمثيلية من حيث لا يشعر، الفكرة نفسها تنطبق على (الثوابت الأخلاقية) التي نرى اعتداء عليها الآن لأن سيل الرسائل الإعلامية يقدم التفسخ والانفلات الأخلاقي على أنه نوع من (المتعة)، و(الحرية الشخصية).
إن التنشئة الاجتماعية - كما تساهم بها وسائل الإعلام - تتم بهذا الشكل: نحن نتعرض باستمرار ومنذ طفولتنا لرسائل إعلامية مشحونة بالقيم، ومعروضة بقوالب جذابة، ننشأ ونترعرع ونشب ونحن نتلقى قيماً وعادات وطريقة حياة، تشعرنا وسائل الإعلام وفي مناسبات كثيرة أن ما نحن عليه أدنى مما تقدمه لنا وتعدنا به، وهذا ما يجعلنا في حالة لهاث دائمة لنكون بمستوى (مجتمع التلفزيون)، أصبح الرجل لا تعجبه الطريقة التي تلبس بها المرأة (قد تكون زوجته)، وشعرها الأسود، وحياؤها من الرجال، يريدها أن تتلوى مثل شريهان حينما تخرج إلى السوق، ويريدها أن تلبس حتى تبدو مثل بروك شيلدز، ويريدها أيضاً أن تكون (جريئة) مثل جودي فوستر، أما المرأة فهي (اللاهث) أبداً، تريد أن تكون كل أولئك الثلاث، وفوق ذلك تعمل جاهدة على أن لا تغضب سان لوران، أو كريستيان ديور، أو فرساتشي، فتمتلك كل ما يرد إلى السوق من منتجاتهم، وتسعى أن تكون صدى لكل ما تعرضه الفضائيات، أو تقدمه فتيات (الفيديو كليب)، أما الطفل فهو الضحية الكبرى: يسمع في البيت شيئاً، ويرى في وسائل الإعلام شيئاً آخر مختلفاً، ويتعلم في المدرسة خلاف ذلك كله، وقد يذهب إلى المسجد، فيحس أنه في عالم آخر لا يمت إلى عالمه الذي يعيشه بصلة، هذا الفصام الذي يعيشه الطفل وهو ينمو ويصبح شاباً، بين عالمه (الطوباوي) المثالي الذي يتعلمه في المدرسة، ويسمع شيئاً عنه في المسجد، وبين واقعه الذي يعيشه في أحضان (المربي الإلكتروني) في البيت، مضافاً إليه التناقض الذي يراه في سلوك والديه وبعض أفراد المجتمع المحيطين به هو الذي ينتج شخصيات غير سوية، منفصلة اجتماعياً في أحيان كثيرة عن النسق القيمي للمجتمع كنتيجة طبيعية لتنشئة غير طبيعية.
لا تهدف هذه المداخلة إلى تحميل جهة دون أخرى (أزمة الأخلاق) التي يشهدها مجتمعنا، لقد ظللنا - لفترة طويلة - نردد بأننا نحن الأصفى عقيدة، والأحسن أخلاقاً، والأكثر أمناً، والأقل جريمة، كان كثير (منا) يساهمون - من حيث علموا أو لم يعلموا - بتضليل القيادات السياسية والفكرية، بالتقليل من شأن ظواهر الانحراف التي تضرب في مجتمعنا، وبصياغة (صورة ذهنية) لمجتمعنا تضعه فوق الناس، وفوق الأخطاء، حتى كدنا أن نقول: نحن (مجتمع) الله المختار، إن هذا (الانحدار الأخلاقي) الذي عرضت جزءاً بسيطاً منه مسؤول عنه البيت والمدرسة ووسائل الإعلام والدولة بكافة مؤسساتها، إن خطورة هذا السلوك تتعدى إلى الجانب الأمني، فالشعور بعدم الأمان على الأعراض والمحارم سوف يدفع الناس إلى (الدفاع) عن أنفسهم، وهذا سوف يؤدي بالضرورة إلى انفلات أمني.
إنني أتمنى تكوين هيئة وطنية عليا لعلاج أزمة الهوية والأخلاق التي بدأت نذرها تصبحنا وتمسينا، إن الحل الأمني مطلوب لكنه لا يكفي.. إنها أزمة هوية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد