الفن الإسلامي .. والحسم الفقهي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لعل المسألة الفنية ستبقى من أعقد الموضوعات التي يلزم العقل الفقهي تحديداً أن يتحرك فيها برؤية جديدة ومتجددة ليصوغ تصوراً عصرياً يعبر عن حقيقة التصور الإسلامي لها، ويستجيب للحاجات الحقيقية للإنسان ويراعي المستجدات التي طرأت في حياة المسلم، ويعكس التعبيرات الجميلة المتأصلة في النفس الإنسانية كما هي واضحة في الفن الشعبي مثلاً، فضلاً عن انفتاحه على الأداء العالمي الذي يشاركنا بعض القيم والقضايا.

ومثل هذا التصور، وفي ظل التحديات المطروحة على العقل الإسلامي في الواجهة الإسلامية بعد هيمنة الفن الغربي بتعبيراته العبثية والسريالية وحتى الذوقية، وسيطرة ثقافة اللامعنى، وانتشار الإسفاف والابتذال وارتباط ذلك كله بما يشاع في المشهد الفني العربي، مثل هذا التصور لا يستلزم مجرد اختيار فقهي، أو انحياز إلى نوع من الفن المحافظ الذي يتجنب المحظور كما هو مسطر في جملة من الاجتهادات الفقهية.بل الأمر يحتاج، في تصوري الخاص، إلى إعمال المنهجية الأصولية في مجموعها، واستقراء النصوص في سياقاتها وتكاملها لبناء تصور متوازن في المسألة. فلم يعد ما يمكن أن نطلق عليه التقاطب الثنائي للتحليل والتحريم يخدم القضية والرسالة بأبعادها ودلالاتها. وإنما الأمر يستدعي تحديد مفهوم الفن ووظيفته المجتمعية ورسالته الحضارية. وفي ضوء هذا التحديد مطلوب من العقل الفقهي أن يقارب الموضوع في مجموعه وكليته. فلم يعد سياق طرح الموضوع منحصراً في الفتنة والإثارة، وإنما امتد ليحتل مساحات واسعة للتعبير عن الكينونة الذاتية والتوجهات الفلسفية الكبرى وقضايا الناس وهمومهم، حتى أصبحت الرسالة الفنية في أحد تعبيراتها ذات قوة فكرية وسياسية وتنظيمية يصعب تجاوزها أو إهمالها. من هذا المنطلق فالورقة التي تسعى لتقارب الموضوع تضع نصب عينها هذا التصور، وتستجيب للإشكالات الحقيقية المطروحة على عقل الأمة.

أولاً: تأسيس الرابطة:

كان إعلان تأسيس رابطة الفن الإسلامي موضع ترحيب وتقدير من كثيرين مهتمين بمسيرة العمل الإسلامي، وهي خطوة وإن تأخرت كثيراً إلا أنه وكما يقال: أن تأتي متأخرة خير من ألا تأتي. وهذه الدراسة تتجه مباشرة إلى ضرورة الإفادة من تجارب إخوة في ميادين أخرى اصطبغت بذات الصفة وخطت في ذات المجال ولها تاريخ امتد بعضه إلى أكثر من ثلاثين عاماً. وعليه كان من الضروري تنبيه الإخوة في الرابطة إلى دراسة تلك التجارب بعلمية وبشكل تفصيلي ومركّزº كي نوفر الزمن ونختصر الطريق ونحصل على خلاصة التجارب ونتائجها، وكي يتجنب الأحبة في رابطة الفن الإسلامي العالمية كل المآزق الشرعية والمهنية التي وقع فيها غيرهم والتي اعترضت مسيرتهم واستنزفت منهم جهداً ووقتاً ليس بالقليل. وكي يستفاد من كل الطرق التي سلكها السابقون وحققوا من خلالها النجاح في تلك الميادين التي يعملون فيها، وبالطبع كي تنطلق هذه الرابطة الفتيةº قوية، متلفعة بالرؤية العلمية والمنهجية والمهنية المحترفة.

ثانياً: قراءة لتجارب الأسلمة

سأعرض هنا سريعاً تجارب إخوة لنا سبقونا في أسلمة بعض الميادين، ولربما كانت ميادين الاقتصاد والإعلام والأدب هي الأشهر والأبرز، وأنا أتحدث هنا عن تجاربها في المشهد السعودي المحلي باعتباري ابن تلك البيئة.

الاقتصاد الإسلامي: في تصوري الخاص أن أبرز ميدان نجح فيه الإخوة الغيورون في التيار الإسلامي هو في ميدان الاقتصاد. وبالرغم من أن تجربة الإعلام الإسلامي انطلقت معها في ذات الوقت، فكلتا التجربتين سمعنا عنها في فترة السبعينيات، وكان المراقبون يراهنون على نجاح تجربة الإعلام الإسلامي أكثر من الاقتصاد.. لسبب بسيط وهو أن النظام المصرفي العالمي قائم بالكامل على النظام الربوي الغربي. فأينما يمموا فما ثمّ إلا الربا بوجهه القبيح. وجزم كثير من الحادبين بفشل تجربة الاقتصاد تماماً، ولكن قيض الله - تعالى -مخلصين وعلماء شرعيين واقتصاديين تعمقوا في الشريعة، وضُخت أموال للتنظير فيها وتأصيلها شرعياً.

لا شك أن ثمة عقبات شرعية كبيرة تجاوزها منظرو (الاقتصاد الإسلامي) واستطاعوا عبر هذه السنوات التي شهدت مناقشاتهم وبحوثهم ودراساتهم حلحلة كثير من المآزق والعقبات الشرعية والاقتصادية وتقديم قطاعهم الوليد بعقلية حرفية ومواءمة عصرية في سوق المال العالمي.

القراءة العجلى في دروس تجربة الاقتصاد الإسلامي توجهنا إلى أن أول أسباب النجاح تكمن في مسألة التنظير المهني والتأصيل الشرعي المبكر والذي تجاوز به منظور الاقتصاد الإسلامي كثيراً من العقبات التخصصية والشرعية، فيما لم يفلح إخوتنا في الإعلام الإسلامي مثلاً أن يخطوا خطوات متقدمة ونتلمس تأثيراً حقيقياً لهم في المجتمع وتقديم بدائل إسلامية حقيقية ومؤثرة، بل ظل أحبتنا يدورون في تيه الاجتهادات الفقهية التي تضيق وتتوسع بحسب ورع وحماس ممارسيها.

الدرس الثاني: ضرورة ترك الآخرين يعملون حتى لو اختلفت رؤانا الاجتهادية معهم مادامت أهدافهم واضحة ونياتهم ومقاصدهم حسنة بدلاً من الوقوف أمامهم وتثبيطهم. كثيرون تشاءموا من تجربة الاقتصاد الإسلامي الذي سيصطدم بنظام مؤسس بالكامل على ربوية يهودية، ولكن الأغيار والمخلصين جزاهم الله خيراً ثابروا ونجحوا، وأزالوا عن المجتمع برمته والمسلمين عموماً حرجاً شرعياً أرقهم وفتح لهم قنوات نظيفة للتعامل المالي.

الدرس الثالث: أن إقبال الناس بكل فئاتهم على ما قدمه الاقتصاد الإسلامي كخيار منافس، دليل على أنه متى وجد البديل الإسلامي القوي والمنافس فسينحاز الناس إليه ويتأثرون به، وهو ما نتوسمه في الفن الإسلامي: أن يقدم بدائل لأرتال العفن الفني والغنائي الذي زكمت به أنوف الأغيار في الأمة.

ثالثاً: معضلات أمام الرابطة

من وجهة نظري فإن قضية التنظير التخصصي والتأصيل الفقهي هي من أكثر الأمور أهمية وإلحاحاً وأولوية في أجنة رابطتنا الفتية. ومن الضروري جداً أمام منظري رابطة الفن الإسلامي العالمية.. الإفادة من تجربة الاقتصاد الإسلامي، وذلك عبر تبني أحد رجال الأعمال الكبار والمتعاطفين مع أهداف الرابطة، وهم بالمناسبة كُثر، لفكرة إنشاء مركز خاص للفن الإسلامي، بما فعله الشيخ صالح كامل عندما أنشأ مركزاً للاقتصاد الإسلامي ودعمه. ويمكن أن يكون الراعي مؤسسة أهلية أو رسمية كإحدى الجامعات العربية أو الإسلامية تتكفل بالغطاء الرسمي لمناشط الرابطة. يقوم هذا المركز بجلب كبار المتخصصين الإسلاميين والنقاد والعاملين، إضافة إلى الفقهاء أيضاً من مدارس إسلامية متعددة، وذلك من أجل رسم رؤية تنظيرية وتقديم تأصيل شرعي لكل ميادين الفن الإسلامي، إلى جانب وضع واقتراح السبل الكفيلة بحمل الفن الإسلامي بتخصصاته نحو فضاءات أرحب للإبداع المهني الحقيقي.

إن جل ما نراه الآن هو اجتهادات شخصية للعاملين تتكئ على انتماءاتهم الفقهية وورعهم وهم يتلمسون الطريق، يصيبون تارة ويخفقون تارات، ولكن إذا وجد التنظير الشرعي الواسع والمرن الذي يتيح الانطلاق على أسس شرعية، فإنني أتصور أن الانطلاقة نحو العالمية والتأثير الحقيقي ستكون ممكنة. كثيرون من المبدعين وممن لديهم ملكات فنية خلاقة يحجمون عن الدخول في الفن الإسلامي بدعوى الورع والخشية من اقتراف الإثم والدخول في الأمور المشتبهات، بيد أنه لو وجدت أرضية شرعية موثقة من أسماء تتمتع بالمصداقية والثقة فسيدخل هؤلاء ويضيفون الكثير.

بعد هذه المقدمة، أطرح من تصوري الخاص.. المسائل التي تحتاج من رابطة الفن الإسلامي إلى مناقشة مستفيضة وحسم في معظم هذه المسائل العديدة التي منها:

مفردة \"إسلامي\":

هذه المفردة وإن قُبلت في مجال الاقتصاد بسبب أن المطروح والسائد هو النظام الربوي، فإن الأمر لا يبدو كذلك في الإعلام والأدب، بل إن بعض المنظرين الإسلاميين في الإعلام الإسلامي كأستاذي الدكتور عبدالقادر طاش - يرحمه الله - عمد إلى إسقاط المفردة واستبدل جملة الإعلام الهادف بها مثلاً، لأن في الأولى قدراً من الإقصاء على اعتبار أن ما لم ينتم إلى الرابطة هو بالضرورة غير إسلامي.

إنسانية الأدب:

السؤال هنا: هل سيدخل أي فن عالمي، مما تنطبق عليه معايير رابطة الفن الإسلامي أو حتى مضامين الفن الإسلامي، تحت هذا الاسم؟ وهذه إشكالية واجهت إخوتنا في رابطة الأدب الإسلامي عندما طرح الأستاذ محمد قطب هذا الرأي وانحاز إليه.

بنفس القدر، هل يمكن اعتبار ما أنجز قبل إنشاء الرابطة من فنون تنطبق عليها معايير رابطة الفن الإسلامي سينسب تلقائياً للفن الإسلامي، كفيلم عمر المختار مثلاً، أم ثمة فواصل زمنية. وهذه إشكالية اعترضت إخوتنا في رابطة الأدب الإسلامي التي انحاز كثير من رموزها لهذا الرأي معتبراً بعض الشعر الجاهلي والأموي والعباسي ضمن الأدب الإسلامي، فيما اتهم خصوم الأدب الإسلامي الرابطة بادعاء تراث ليس لهم وإنجاز لم يحققوه.

الفن للإمتاع أم للرسالة؟

ونعود إلى السجال القديم بين مدرستي الفن للفن والفن للحياة، فقد كنا أمام تضييق شديد عندما انحازت رابطة الأدب الإسلامي إلى جانب مدرسة الفن للحياة إلى درجة ضيقت فيها على نفسها عبر التوسع في الرسالة على حساب الفن، ومن أدلجة الأدب بشكل كبير، فلم تنتج إبداعاً لافتاً للانتباه. يتأكد الأمر هنا بشكل أكبر في رابطتنا الجديدة وأتمنى شخصياً ألا تكون الرسالة على حساب الإبداع، مع ضرورة التوسع في المباح وتقديم البديل المبدع القادر على التأثير في الناس.

الموقف من الموسيقى المصاحبة للأناشيد والدف والفيديو كليب الإسلامي:

يبقى الحضور الفقهي قوياً في دفع أو تأخير الإبداع في نتاجات الرابطة، ومن الضروري بحث مسائل الموسيقى المصاحبة للأناشيد وكذلك الدف والفيديو كليب الإسلامي عبر فقهاء شرعيين يتمتعون بالثقة في الأوساط الإسلامية، كي يستطيع ويتشجع أصحاب المواهب دون الشعور بالذنب والمعصية. وأتصور أن المواءمة بين فقه المركز المحدود جغرافياً نوعاً ما والأطراف الأكثر عدداً والأوسع نطاقاً والتدرج فيه هو الحل الوسط.

هل من الضروري أن تبدأ المشاريع بكامل معاييرها الإسلامية؟

هذه من الإشكالات التي واجهت الإخوة في الإعلام الإسلامي تحديداً، وهي انطلاق مشاريع ربما لا يتوافر فيها كامل المعايير التي تخضعها تحت اسم إسلامي، فيما يحتج أصحابها بأنهم يحاولون جذب نسبة من القراء أو المشاهدين ويمررون رسالتهم عبر تلك المطبوعات.. مراهنين على الزمن في كسب الجمهور وتطبيق المعايير الإسلامية شيئاً فشيئاً. مثل هذه المشاريع ما موقف رابطة الفن الإسلامي منها؟

بعد هذه المقدمات التي تتحدث عن قضايا غير محسومة وينبغي أن تناقش باستفاضة ويُحسم كثير منها كي يفسح المجال أمام تقدم الفن الإسلامي، فإنني أهمس في أذن القائمين على هذه الرابطة بألا ينتظروا حسماً فقهياً جماعياً في أي من المسائل المطروحة، إذ إن أمراً كهذا لن يتوافر في يوم من الأيام، والموسيقى على سبيل المثال كانت مسألة خلافية منذ خمسة عشر قرناً، ويبدو أنها ستبقى كذلك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply