نفوذ المخاطبين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحقيقة أن من تأمل كافة تلك القضايا التي ناقشناها في الفقرات السابقة فسيلاحظ أن بعض المنتسبين للدعوة قد قارب بعضها بحسن نية وتحت وطأة الرغبة الملحة في هداية الناس وتأليف قلوبهم وتحبيبهم في الخير والتودد لهم والدخول إلى قلوبهم من جهة ما تهواه، والمرجو أن يكون أمثال هؤلاء الدعاة تحت مظلة العذر الإلهي والكرم الرباني.

 

ولكن المأمول دوماً هو التواصي بالحق والتواصي بالصبر، حتى لا يقع الداعية في هوة التحرج من حقائق الوحي، أو التدسس عنها مجاملةً لوسائل الإعلام، أو تربيتاً على أكتاف الذوق الجماهيري الحديث.

                                               

ولطالما اشتد عجبي وأنا أتأمل آيات القرآن من كثرة تنبيه الله - سبحانه - لنبيه من مخاطر الوقوع تحت \"سلطة الجماهير\"، والحقيقة أن الكثيرين يظنون أن الصراع مع الهوى هو صراع مع هوى النفس الشخصي فقط، ولكن هناك ما هو أقوى على العامل للإسلام من ذلك، إنه الصراع مع أهواء المخاطبين، والرغبة في الاستحواذ على رضاهم وكسب تعاطفهم مع الإسلام.

 

لا أشد على العامل للإسلام من تلك الفتنة التي حذر الله منها نبيه وهي فتنة استمالة المدعوين، والرضوخ لهوى المكلفين، والانصياع لضغوط مألوفاتهم، وتوجيه التعاليم الإلهية بالشكل الذي يرتاحون به ويميلون إليه.

 

فالضعف البشري في تأويل النص باتجاه رضا الناس حقيقة لا يكاد يفلت منها داعية إلى الله، ولو لم تكن هذه الفتنة بهذه الخطورة لكانت كثرة تحذير الله لنبيه منها عبث ينزه القرآن عنه، فكثرة التنبيه فرع عن شدة الخطورة، وتثنية التحذير مرة بعد أخرى انعكاس لدحض الطريق ومزلة الأقدام.

 

ولا سيما إذا كان التحذير والتنبيه موجها إلى أكمل من أدى أمانة الرسالة على وجهها، فكيف بمن يليه في المنزلة والتسديد.

 

انظر مثلاً كيف صور الله الجماهير المتلقية وهي تحاول استمالة النبي عن مقررات الوحي وتعده بأن تنساق خلفه وتنصره فقال - سبحانه - في سورة الإسراء:

{وَإِن كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ لِتفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً}

 

إنهم على استعداد تام للاتباع والانخراط في جملة المسلمين ولكن بشرط واحد، شرط واحد فقط، إنه \"تبديل\" بعض هذا الوحي الذي لاتروق لهم مضامينه!

وقد كشف القرآن في الآية التي تليها مباشرة أن هذا الاستسلام لنفوذ المخاطبين كان خطراً فعلياً على النبي - صلى الله عليه وسلم - لولا العصمة الإلهية ولذلك قال - تعالى -:

{وَلَولا أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَلِيلا}

 

فإذا كان نفوذ المخاطبين كاد أن يبلغ تأثيره سيد المرسلين لولا العصمة الربانية فكيف يأمن من بعده ذلك؟

 

وقد أشار القرآن إلى هذا الإلحاح بتبديل الوحي كما قال - سبحانه - في سورة يونس:

{وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ,، قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرجُونَ لِقَاءنَا ائتِ بِقُرآنٍ, غَيرِ هَذَا أَو بَدِّلهُ، قُل مَا يَكُونُ لِي أَنأُ بَدِّلَهُ مِن تِلقَاء نَفسِي، إِن أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}

 

وكرر الله ذات التنبيه إلى خطورة \"سلطة المخاطبين\" فقال في سورة المائدة:

{وَاحذَرهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيكَ}

مع أن هذه الآية تحكي صفقة على \"بعض الوحي\" وليس \"كل الوحي\" إنما هي مجرد \"تحوير\" بعض الأحكام والتصورات فقط، ولكن الله - سبحانه وتعالى - مع كل ذلك نبه نبيه وحذره وسمى ذلك \"فتنة\"، وقد أجمع أرباب الطريق إلى الله على أن \"الفتنة\" موضع الابتلاء والامتحان والاختبار.

 

وليس المطلوب فقط هو الامتناع عن التنازل عن بعض مضامين الوحي، بل نحن مطالبون بقدر زائد على ذلك، وهو الفخر بهذه المضامين، والشموخ بها، وعدم التحرج منها، كما قال - سبحانه - في مطلع الأعراف:

{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدرِكَ حَرَجٌ مِّنهُ}

 

وجعل الرضا بالحكم الإلهي وتصورات الوحي والخلوص من التحرج منها معيار \"الإيمان\" كما قال - سبحانه -:

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجًا مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا}

 

ففي هذه الآية أكد هذا الشرط للإيمان بأنواع من الأدوات الألسنية لترسيخ المعنى كالقسم والنفي والتعقيب والتكرار والاسم المطلق وغيرها من الصيغ اللغوية للتأكيد مما هو مبسوط في مطولات المفسرين.

 

وهكذا تمضي آيات القرآن تثنّي مرة بعد مرة هذا التنبيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن خطورة ضغوط أهواء المخاطبين كما قال - سبحانه - في سورة المائدة:

{وَلاَ تَتَّبِع أَهوَاءهُم عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحَقِّ}

وفي لغة تحذير مدوِّية يضطرب لها قلب القارئ يقول - سبحانه -:

{وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهوَاءهُم بَعدَ مَا جَاءكَ مِنَ العِلمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ, وَلاَ وَاقٍ,}

هذا التأكيد الإلهي البليغ المتكرر حول الصراع الشرس بين هذين القطبين \"هوى المكلفين\" و \"كتاب الله\" وأثر ذلك على الداعية المبلغ عن الله - سبحانه - ليس مجرد ملحوظة فكرية تُحتسى في مقهى مسائي، بل هي قاعدة عميقة نابعة من عظمة العلم الإلهي بسنن الدعوة وتبليغ الدين.

ويعيد - سبحانه وتعالى - ذات التأكيد على تعارض هذين القطبين \"الهوى البشري\" و \"الوحي الإلهي\" فيقول - سبحانه - في سورة القصص:

{فَإِن لَّم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءهُم}

 

ويشير - سبحانه - إلى ذات التعارض فيقول في سورة الشورى:

{وَلا تَتَّبِع أَهوَاءهُم وَقُل آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ,}

والمواضع التي نبه الله نبيه فيها إلى خطورة سلطة المخاطبين، وضخامة نفوذهم على الداعية كثيرة جداً، ومن تدبر هذه المواضع، وقلَّب وجوه معانيها، ورأى ما فيها من تكرر الإشارة إلى مشقة مواجهة الهوى البشري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتحذير الله - سبحانه - من الاستجابة لضغط أهواء الناس في تغييب بعض حقائق الوحي، ورأى كثرة ربط الله - سبحانه - بين النقيضين أهواء المكلفين وكتاب الله: انكشف له سر تعقيب الله - سبحانه - بذكر \"الصبر\" بعد ذكر \"اتباع الوحي\" وذلك في قوله - سبحانه - في سورة يونس:

{وَاتَّبِع مَا يُوحَى إِلَيكَ وَاصبِر}

 

فعلاً..ما أحوج من أراد أن يجمع الوحي كله إلى \"مقام الصبر\"، الصبر على تعارض الوحي مع الهوى البشري، الصبر على تثاقل النفوس وتمنعها بحبال مألوفاتها، الصبر على الإلحاح النفسي الرهيب الذي يدفع الداعية إلى تلبية ما ينتظره الجمهور منه وإن كان لا ينسجم مع ما تمليه آيات الوحي.

وإن لم يعتصم العامل للإسلام بمقام \"الصبر\" فسيقع حتماً في سوق النصوص تجاه مراعي الشهوات الأرضية، بدل أن تعرج به هي في مدارات العبودية.

وأحياناً كثيرة لا يقع العامل للإسلام تحت ضغط الرغبة في هداية الناس، بل يقع ضحية تحاشي السخرية والاستهزاء، ذلك أنَّ من الملاحظ عند بعض غلاة المدنية أنهم يضعون كثيراً من المفاهيم والمصطلحات الدينية والتراثية الجادة في قالب ساخر أثناء أطروحاتهم النقدية، والواقع أن السخرية والاستهزاء من أمضى أدوات النفوذ والتأثير على الآخرين، ذلك أنها من أشد الأمور إيلاما لأصحاب المروءة، فتحجزهم عن كثير من المواقف تحاشياً أن يقعوا في مثار سخرية أو موضع استخفاف، ولذلك نبه الله الرسل والمصلحين على استغلال خصوم الدعوات الإلهية لهذه السلطة، فقال - تعالى -:

{وَلَقَدِ استُهزِئَ بِرُسُلٍ, مِن قَبلِكَ}

 

وقال - تعالى -:

{وَلَقَد أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ، وَمَا يَأتِيهِم مِن رَسُولٍ, إِلا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ}

وأحياناً أخرى يواجه المصلحون جور الاتهامات السياسية، وأنهم يسعون للنفوذ السياسي ولعبة السلطة، والاستحواذ على الجمهور، ونحوها من الاتهامات التي تؤثر على سلوك العامل للإسلام في كثير من الأحيان، وقد نبه القرآن أيضاً على ذلك، وبين أن خصوم الدعوات الإلهية سيلوكون هذه الاتهامات السياسية، ولذلك اعتبر قوم فرعون أن موسى مجرد \"طامح سياسي\" يخطط للاستيلاء على أرض الوطن، كما نقل الله قولهم:

{قَالَ أَجِئتَنَا لِتُخرِجَنَا مِن أَرضِنَا بِسِحرِكَ يَا مُوسَى}

وذكروا أن موسى وهارون يهدفان للسلطة كما نقل الله قولهم:

{وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبرِيَاءُ فِي الأرضِ وَمَا نَحنُ لَكُمَا بِمُؤمِنِينَ} [يونس: 78]

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply