بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرة تلك الدعوات الجميلة والشعارات البراقة، وجميل بنا أن ندعو إلى مقاصد عظيمة، بيد أن تلك الدعوة النبيلة وللأسف- سوف تظل دعوى جوفاء إن نحن أخطأنا طريقها.
وهكذا كل دعوة جليلة، فدعوة التوحيد وحسبك به من أس لمقاصد الشريعة- تظل دعوى فارغة جوفاء لو أخطأ الداعي طريقها، أو كانت الدعوة شعاراً لا دثار له، فلو طفق دعاة يدعون الناس إلى ما يتوهمونه توحيداً كما فعلت الاتحادية في الغابر، وكذلك المشركية من المعتزلة الذين زعموا التوحيد أصلاً لهم، فهل كان يغني الاسم عنهم شيئاً؟
وقد يفهم الرجل التوحيد الصحيح ومع ذلك تظل دعوته إليه مجرد هراء في أعين المدعوين لأنه لم يعرف طريق الدعوة فظن أن إرشاد الناس إليه يكون بنحو الصياح فيهم وتبكيتهم ودفعهم من القفا نحو الدرب ليسقطوا فيه على وجوههم..سقطة لاقيام لهم بعدها!
ولعله لابد لمن أراد أن يرشد الناس إلى غاية نبيلة من أن يدرك الغاية، ولابد كذلك من أن يدرك طريقها، وإلاّ فلن يرشد مثله الناس.
بل قد يرشد الناس إلى طريق صحيح ولكنه موصل لغاية أخرى والسبب هو الجهل الذي هداه لوصف غاية أخرى عرف طريقها فزللـه للسالكين.
وقد يأطر الناس على طريق غير الطريق الموصل لغايته التي علمها علماً صحيحاً جهلاً منه بطريق الإرشاد السليم.
ولك أن تشبه هذين برجلين أحدهما يريد أن يرشد الناس إلى طريق مدينة جميلة فيها من رغد الحياة وزهرة الدنيا ما فيها، فسمع بمدينة أعجبه اسمها فظنها كما توهم فوقف على سبيلها يدعو الناس إليها ثم تبعهم، فكانت النتيجة أن غرر بأقوام مناهم الأماني فلما وصلوا المدينة بعد بُعد الشقة وجدوها خراباً بلقعاً مهجورة... لقد كان مقصده حسناً ومع ذلك فقد شقي وأشقى.
وأما الرجل الآخر فقد علم محل المدينة التي فتح الله عليها بركات السماء والأرض، علم بمكانها وما فيها، غير أنه وقف على سبيلها يدعو الناس ولكنه كان يقول:
- أنت يا ضال تعال وادخل من هنا!
- أنت يا بليد التائهين تعال واحشر نفسك هنا!
- أنت يا أيها الخارج من درب السلامة يا كلب النار تعال ارجع وادلف ههنا!
- أنت يا...
- أنت يا...
وضع محل النقاط شيئاً مما تسمع نحوه من أفواه بعضهم في صحف ومنابر لا يطاوعني قلمي على تسميتها ثقافية!
لعلك توافقني في أن عاقبة مثل هذا أن يستفز أَنِفَاً يحول دونه ودون سلوك تلك السبيل فضلاً عن دعوته غيره إليها- بعد أن يتحطم أنفه وتكسر أطرافه إثر معركة كرامة!
ونفير الناس بسبب سيء الأخلاق والمعاملة معلوم مشاهد وتأمل حال الناس وبعض الحاجيات بل بعض الضروريات، قد تجد بائعاً شكساً لكساً غضوباً لا يحسن عرض سلعته فما أن يفاصلك في الثمن حتى تنفصل عنه إلى غيره ولو كنت تبحث عن دواء، وصدق الله: (فَبِمَا رَحمَةٍ, مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ... ) الآية، هذا وهو نبي بل أعظمهم صلوات الله وسلامه عليهم، وهم الصحابة بل خير القرون، أرق الأمة قولباً وأقلهم تكلفاً وأعمقهم علماً، - رضي الله عنهم -، فتأمل يا من لست بنبي ولا من حلوك يقايس بخيار الأمة، أليست الغلظة والفظاظة أدعى لتنفيرك الناس؟
فللـه كم من داعية فظ قام منفراً عن الله، ولله كم من غليظ قد فض الناس فانفضوا (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
ولله ما أعظم الفرق بين قلبين قلب ذلك الداعية (!) المُجَهِّلِ المُسَفِّهِ الذي تسربل بسربال الحرب وحسب نفسه في ساحة الوغى، فشرع رمحه وتقلد سيفه وأضحى لا هم له سوى الانتصار بالطعنة النجلاء مدعوه المسكين أو من هكذا ينبغي أن يكون، وبين من علم مقامه وأدرك حقيقة الدعوة إلى الله وفهم مقصدها فتراه ينظر إلى الناس بعين الشفقة التي طالما دمعت أثناء الدعاء لهم بالهداية والتوفيق.
وربما وافقني كثير من الفضلاء إلى هذه النقطة في سابق التقرير، فإذا قلت له: فأنزل ما مضى من حديث على الدولة أو بعض مؤسساتها الرسمية، تغير واستشاط.. وأرجو أن لا تكون أيها القارئ من هؤلاء فإني لك ناصح محب.
وحتى لا يفرح بهذه الكلمات أرباب المناصب وأصحاب الولايات وليس غرضي أيها الغَضِبُ رضاك بل رضا مولاك- الذين استمرءوا مخالفة الشرع وتقديم الأهواء والآراء والمصالح المتوهمة عليه أقول للفطن اللبيب: لست أرمي بما ذكرت آنفاً إلى نبذ ما يسمونه بالعنف (!) في الخطاب الإصلاحي، كيف هذا والله - تعالى -يقول لنبيه: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)، ولا أدري لم رسم الحاسب أمامي خطاً أحمر على كلمة (اغلظ) المشعرة بخطأ إملائي.. ربما لأهميتها!
والشاهد أخي الفاضل هو أن جهاد المنافقين المُغلَظِ فيه أعظمه جهاد الكلمة، أفلا نجاهد بها قوماً تسربلوا بسربال الإسلام ثم هم يقذعون إلينا في منطقهم، ويجهلون ويسفهون ويشنعون، فتارة رمي بالتخلف والرجعية والهمجية، وأخرى نبذ بالعنف والتطرف والغلو في الإرهاب، إلى غير ذلك من كيل التهم والسباب؟ بلى والله لنجاهدنهم بألسنتنا، ولنغلظن لهم كما أغلظوا لنا، محتسبين في ذلك الأجر.
بيد أن غرض ما سبق، الحديث عن الأصل في منهج الدعوة بقصد الهداية والبيان دون قصد إلى الحديث عن حالاتها الخاصة، كمقام إنكار المناكر، وجهاد الكلمة للمنافق والكافر فتلك - إن كانت تجدي وتزجر- قد تقتضي المكافأة بالمثل بل ما هو فوقه دون فحش أو بذاء أو نزول نحو درك نهينا عن النزول إليه، ومن أوتي الحكمة فرق بين مقام المدافعة والمجاهدة والإنكار، وبين مقام الهداية والتعليم والإرشاد لأخيه المسلم والذي كان ما سلف من الحديث عنه، والله هو الموفق وهو يهدي السبيل.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد