الدولة الأولى ولا فخر!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

جاء السودان متصدراً قائمة "الدول الفاشلة" لعام 2007م التي نشرتها مجلة السياسة الخارجية الأمريكية، فقال بعض الفضلاء: أبشرك نحن الدولة الأولى ولافخر!

فذكرني ما قاله قول المتماجن:

فبتنَا يرانـا الكلٌّ شرَّ عِصَـابة             نجرِّرُ أذيالَ الفسوقِ ولافخرُ!

إي والله! لا فخر لهم في ذلك، وكلمته قد جاءت مطابقة لجزء الحقيقة، فلا فخر لهم، وعليهم عار!

وكذلك لا فخر لنا في هذا النتيجة حقيقة، سواء وافقنا التقييم الأمريكي، أو غالطناه، وأثبتنا خطأه، لنتحرك نحو المركز الثالث أو الخامس، أو السادس أو العاشر! فليس مما يُسعِدُ أن يعلم الناس أن هناك من هو أفشل منا، أو أننا لسنا أفشل الجميع، إذ على جميع التقديرات لا فخر! مادمنا نمثل دور (فلانٍ,) الذي قال فيه الشاعر:

إذا ابتدر الرجالُ ذُرى المعالي           مسـابقةً إلى الأمرِ الخطيرِ

تعـــــــثَّرَ في غبارِهـمُ (فلانٌ)           فلا في العيرِ كان ولا النفيرِ

وإذا لم تكن في العير أو النفير فلا كبير معنى لأن تكون في مقدمة أو ساقة جيش القاعدين! ولا يدفع عنك العار كون المُثَرِّب عليك جالسٌ خلفك في هذا الجيش! مثلما في حالة التقريري الأمريكي المقر بأنهم حازوا المركز الثاني بعد السودان في العراق!، وهم يقرون بأن وضع العراق قبل دخولهم لم يكن هكذا، بل ولا وضع السودان قبل تدخلاتهم في دارفور!

وعوداً على القائمة فقد جاء هذا التقييم وفقاً لمعايير ربما كان بعضها صحيحاً، وبعضها قد غُذِّي بمعلومات مغلوطة، وكان لها أثر في هذه النتيجة، من نحو الإحصائيات الخرافية لأعداد القتلى والمشردين في دارفور، وتهويل صورة المأساة في غرب البلادº لتضارع الأوضاع في العراق وأفغانستان، والصومال، ودول أفريقية أخرى وغيرها.

وحتى يتصور هذا التهويل فحسبك أن تعلم أن الإحصائيات الأممية والأمريكية تدعي الآن هلاك ما يربو على مائتي ألف قتيل في دارفور خلال السنوات الخمس الماضية، بينما مقتضى تصريحات المسؤولين في السودان أن الأعداد لا تتجاوز بضعة آلاف، ولا زلت أذكر تحدي الرجل الفاضل مصطفى عثمان إسماعيل وقد كان وزيراً للخارجية السودانية آنذاك عندما قال في مؤتمره بالقاهرة: إنه يتحدى الأمم المتحدة أن تعطينا أسماء أو ترينا قبور الخمسين ألف قتيل الذين تتحدث عنهم في دارفور! وكان على الوزير أن يستثني مقابر البلاد الرسمية التي يتدافنون فيها منذ عهودهم الأولى، أما مع الإحصائيات الجديدة فلا عليه ألا يستثني!

وفي مقابل هذا التهويل للحالة في دارفور تجد تهويناً من الوضع في العراق وأفغانستان، فبينما تقول بعض الإحصائيات المستقلة والدراسات الميدانية بأن عدد القتلى والمتوفين جراء الحرب في العراق تجاوز الستمائة ألف إنسان، إزاء هذه الدراسات - مع أن بعضها أمريكي - تصر الإدارة الأمريكية على أن العدد لا يتجاوز البضع عشرة ألفاً، مع أن الجنرال تومي فرانكس نفى قيام الإدارة الأمريكية بإحصاءات تبين العدد الحقيقي للقتلى في العراق.

وأياً ما كان فإن المعيار الأمريكي من الواضح أنه غير دقيق هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا أبالغ إن زعمت أن مصدروه يذكروننا بجحا يوم نسي عد حماره!، وكل ذلك لا يعني أن السودان - وكثير من الدول العربية - دولة ناجحة! بل الفشل حاصل، والسعي إلى الخروج من قبضته واجب.

وليس بالضرورة أن يكون تقيمنا لفشلنا وفقاً للمعايير الأمريكية مع أن بعضها بل كلها معتبرة في الجملة، غير أن هناك معايير أولى تتمثل في قيم المنطقة، وتشملها كلها شريعة أهلها، فهلا تجردنا عن أهوائنا، ونظرنا في موقعنا بناء على ضوئها؟

بإمكاني أن أقول لسنا دولاً فاشلة - ولله الحمد -، ونحن خير من غيرنا! بل بإمكاني أن أدعى أن دولتي خير دولة، وللأسف ربما يزعم بعضنا هذا!، ومثل هذا التصنيف قد لا يقل اعتسافاً عن تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أتمادى تمادياً فيه حق كثير فأزعم أن أفشل دولة هي أمريكا تلك الدولة التي بلغ عدد جرائم العنف فيها فيما بين عامي 2000 - 2005م ما يربو على الثمانية ملايين جريمة (8420233)، ولا أعلم دولة تضاهيها في ذلك، وذلك وفقاً لإحصائيات مكتب إحصائيات العدالة التابع لوزارة العدل الأمريكية، أفشل دولة هي تلك الدولة التي أضحت مبغوضة لدى الشعوب في طول الكرة الأرضية وعرضها، أفشل دولة هي تلك الدولة التي لا يستطيع الرجل الجلد أن يسير في شوارع بعض ولاياتها بعد مغيب الشمس... إلخ.

بل كثير من العقلاء على يقين من أن الشعوب العربية المسلمة فيها من معاني النبل، ومعادن الشهامة، وقيم الشريعةº ما ترتفع به عن ضحضاح شعوب الأرض التي يقال عنها متحضرة، وهي في الحقيقة محتضرة أرواحاً وقلوباً، منتكسة فطراً وعقولاً، دنسة ثياباً ونفوساً، ولا أجرؤ أن أزعم مثل ذلك فيما يتعلق بجل الأنظمة!

وخير من الخوض في هذا كله أن نحاسب أنفسنا ونضع موازين لتقيم ذواتنا بالقسط، ثم لينبعث الحكم المنصف كيف كان، ولننظر كيف نصنع بناء على نتيجته، فإن أفلحنا في ذلك فسيحق لنا ولو بعد حين أن نقول: دولتنا خير دولة، بل سيقولها الآخرون.

أخيراً قد تكون هذه الدعوة مجرد صرخة في واد، أو نفخ في رماد، إذا حسبت أنها موجهة للحمقى المغرورين، أو الأنظمة التي لا يرى قادتها أن بالإمكان خيراً مما كان منذ قرون تشريفهم الأولى.

لكن إذا علمت بأن الخطاب موجه للمصلحين والحادبين، والناصحين والمنصفينº علمت أن الكلمة ربما تعيها أذن واعية، لفضلاء من أمثالك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply