الدعوة ميدان واسع


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذه وقفة مع حكاية الله - عز وجل - طرف مما دار بين يوسف - عليه السلام - وبين صاحبي السجن، أخبر الله - تعالى -عن يوسف عندما سأله صاحباه تأويل الرؤية أنه قال للسجينين: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما (37)} [يوسف]، من المفسرين من ذكر أن يوسف يقول للسجينين: لا يأتيكما طعام إلا أخبركما بنوع الطعام الذي سيأتي كما قال عيسى - عليه السلام -: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم (49)} [آل عمران]، والقول الآخر: إن يوسف يقول لهما بلسان الحال سأعبر لكم الرؤيا، ولكن ليس الآن، سأؤخرها إلى وقت حضور الطعام، وهم يعرفون متى يحضر الطعام، فقوله: {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} [يوسف: 37]. معناه: سأنبئكم قبل حضور الطعام، أي لن أؤخر تعبير الرؤيا تأخيرا كثيرا، ولكن عندي موضوع أهم وهو الدعوة إلى الله - جل وعلا - وهذا هو المعنى الراجح والمعنى الأقوى.. ثم بدأ في دعوتهم إلى الله - جل وعلا -فلما انتهى من بيان الدعوة قال لهما: {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و(41)} [يوسف].

وهذا الأسلوب من يوسف - عليه السلام - من باب التشويقº لأنه لو أخبرهما بتعبير الرؤيا قبل أن يدعوهما إلى الله لانشغل كل واحد منهما بتعبير رؤيته، فالذي قيل له: إنه سيخرج وسيسقي ربه خمرا سينشغل باله بالخروج والاستعداد له، والذي قيل له: ستصلب سينشغل باله بالقتل ومآله، فإذا حدثهما عن الدعوة لم يكونا قد هيئا لهذا الأمر، فقال لهما: سأؤجل تعبير الرؤياº لأنه يعلم ماذا في الرؤيا، وبدأ يدعوهما والذهن صاف وبعيد عن الشواغل، وهذا أسلوب رائع من يوسف - عليه السلام - وفيه دروس أهمها:

أن الداعية لا يحول بينه وبين تبليغ دعوته أي شيء ما دام على قيد الحياة، العالم الصادق لا يستطيع أحد على سطح الأرض أن يمنعه من تبليغ دعوته ما دامت عينه تطرف وقلبه ينبض ولسانه معه، وهكذا كان يوسف، فمع أنه سجن غير أنه لم يترك الدعوة إلى الله - جل وعلا - بل تستطيع إذا ابتليت -وأسأل الله أن يعفيك- أن تدعو إلى الله ولو مع السجان حتى لو حيل بينك وبين الناس وعزلت وحدك، فلا بد أن يأتيك السجان عند أكلك وشربك فتستطيع أن تدعوه.

والدعوة في السجن لها أساليب ووسائل عدة فقد لا تكون بالكلام، بل بالخلق وبالمعاملة، فمن عامل الناس بأخلاقه لا بأخلاقهم، اطرد في حياته، وكان لفعله وقوله تأثير، وهناك خلل يقع فيه البعض حيث تتناقض أخلاقه تبعا لأخلاق الناس، فلو لم يكن مع المسجون إلا أن يتعامل مع السجان بالخلق الصحيح لكان دعوة له كيف إذا أتيحت له الفرصة في الكلام معه ووعظه.

إن الوسائل تختلف، وكذلك الأساليب تتنوع وبعض الأساليب والوسائل أقوى من بعض حتى في السجن فلا عذر لأحد.

وإذا كان الأمر كذلك فما هو عذر هؤلاء الذين لا يبلغون رسالة الله وهم في بيوتهم ومع أهلهم ومع أزواجهم بحجج واهية هم يعرفون عدم صدقها أكثر من غيرهم: {بل الإنسان على نفسه بصيرة (14) ولو ألقى معاذيره (15)} [القيامة].

في صحيح البخاري أن شابا جاء يعود عمر - رضي الله عنه - في مرض موته بعد أن طعن، فأثنى عليه خيرا ثم انصرف، فلما أدبر رأى عمر إزاره يمس الأرض، فقال: ردوه علي، ثم قال له: ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.

فانظر إلى الخليفة الراشد رضوان الله عليه على أي حال وفي أي وقت يحرص على الدعوة؟ وفي مسألة قد يراها بعض من ينتسب إلى الطيبين اليوم ثانوية!!

أخا الإسلام إن الناس لن يحاسبوك ولكن سيحاسبك الله - جل وعلا - وهو يعلم هل أنت معذور أو لا فإذا كان يوسف وهو في السجن يبلغ رسالة ربه، ومثله فعل عدد من العلماء والمصلحين على مدار التاريخ، فما هي حجتك؟ لماذا لم تقم الدعوة بين أهلك وبنيك وأمك وأبيك وأختك وأخيك؟ إن الأقربين أولى بالمعروف.

إننا لم نسمع بنبي جاء بدعوة التوحيد فهيئ له قومه اللاقطات والمنابر وحشدوا له الجموع والطلاب من أجل الاستفادة من علمه بل قال الله - تعالى -: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53)} [الذاريات].

إن الصادق يبلغ رسالات ربه على أي حال، وفي أي وضع في السجن وفي خارج السجن، بالعبارة المسموعة وبالمقالة المقروءة وبالإشارة المرئية، بل بالسكوت حيث يحسن السكوت وبالمعاملة الطيبة، ولن يملك مخلوق أن يحجر على الناس الدعوة إلا في نطاق ضيق مخصوص، فالعاقل من نظر ببصره إلى ميادين الدعوة الأخرى الرحيبة الفسيحة، وأعمل فكره كيف يبلغ رسالات الله فيها واضعا نصب عينيه قول الله - تعالى -: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108)} [يوسف].

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply