مواقف دعوية من السيرة النبوية ( 14 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أثر دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحطيم الطغيان

الطغيان في اللغة التعدي وتجاوز الحد ([1]).

والمقصود به هنا سلب شيء من خصائص الألوهية من الخالق - جل وعلا - ومنحه للمخلوق، فهذا من التعدي على الله - سبحانه - ومن التجاوز بالمخلوق فوق حده.

 

وقد ظهر الطغيان في عهد الجاهلية على ضربين:

الأول: منح الأصنام حق العبادة من دون الله - تعالى -.

والثاني: منح زعماء المشركين حق التشريع من دون الله - تعالى -.

 

فأما الأول فإنه قد انتشر في جزيزة العرب انتشارًا واسعًا، وكان العرب في ماضي حياتهم على دين إسماعيل - عليه السلام -، وهو التوحيد إلى أن دخلت عبادة الأصنام في حياتهم.

 

وكان أول من أدخل عبادة الأصنام على العرب عمرو بن لُحَيّ الخزاعي، كما جاء في حديث أخرجه الحاكم، وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر النار: \" ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي، فقال معبد: يا رسول الله أتخشى عليَّ من شبهه فإنه والدي؟ قال: لا، أنت مؤمن وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام \".

 

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي ([2]).

 

وانتشرت عبادة الأصنام في بلاد العرب حتى دخلت إلى بيوتهم، وفي بيان ذلك يقول ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسَّح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله ([3]).

 

وقد أخذت عبادة الأصنام أشكالاً متعددة منها السجود لها والطواف حولها والنحر عندها، والتمسح بها.

 

ومن مظاهر إشراكهم الأصنام مع الله - تعالى -قول بعضهم في تلبية الحج \" لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك \" ([4]).

 

هذا وقد انتشرت عبادة الأصنام في أكثر الأمم الجاهلية كما سيتبين لنا في عرض مواقف الفتوحات الإسلامية.

 

أما الضرب الثاني من الطغيان فهو منح زعماء المشركين حق التشريع من دون الله - تعالى -فهذا واضح في جميع الأمم ومنها قبائل العرب حيث كان الزعماء هم الذين يشرعون للناس ما ينظمون به حياتهم من غير رجوع إلى وحي سماوي، وكان بروز دور الزعماء في حياة الأمم ذات الحكومات أكبر مما هو عليه عند العرب الذين كانت تغلب عليهم الحياة القبلية.

 

وحينما تكون القلوب ممتلئة بتعظيم الأصنام والخوف منها وبتعظيم البشر والرهبة منهم فإن تصورات الإنسان تكون منحرفة عن الخط المستقيم، لأن فكره سيكون مشغولاً بهذا الإطار، من تقديم مظاهر التعظيم والولاء والخوف والرجاء رغبة فيما عندهم من الخير واتقاء لما عندهم من الشر الذي يكون من نسج الخيال وهيمنة الأوهام بالنسبة للأصنام، ومن المغالاة في تقدير الأسباب التي يمكِّن الله - تعالى -منها طغاة البشر واعتبارهم مستقلين بها عن إرادة الله - تعالى -وقدرته.

 

وبالتالي يكون السلوك منحرفًا نحو عبادتهم من دون الله - تعالى - وذلك ظاهر في الأصنام، ومغلف بالنسبة للطغاة لعدم تقديم مظاهر العبادة الظاهرة لهم ولكن بتقديم رضاهم على رضا الله - تعالى -، وما يحبونه على مايحبه، واجتناب سخطهم وغضبهم وإن غضب الله - جل وعلا - عليهم.

 

وإن مهمة الداعية الحقيقية هي الجد في محاولة تفريغ قلوب هؤلاء المستعبدين وتطهيرها من رجس عبادة الأوثان من الأصنام ومن طغاة البشر، وذلك ببيان حقارة الأصنام وعدم تمتعها بخصائص الإنسان العاقل فضلاً عن خصائص الألوهية، وببيان جرائم الطغاة ومظاهر الضعف والتناقض في أحكامهم وقراراتهم لتحطيم كبريائهم وتطهير العقول من اعتقاد عظمتهم وقداستهم.

 

ولقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته بهذه المهمة خير قيام، حيث حطم الطغيان البشري القائم في عهده، وأحل محله العبودية الكاملة لله - عز وجل -.

 

وقد أخذ جهاده لتحطيم الطغيان مسلكين:

المسلك الأول: ما قام به من تحقير الأصنام وتسفيه عبادتها وإظهارها بمظهر العاجز الذي لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وقد نزلت في هذا المعنى آيات كثيرة منها قول الله - تعالى -: (أَيُشرِكُونَ مَا لاَ يَخلُقُ شَيئاً وَهُم يُخلَقُونَ (191)وَلاَ يَستَطِيعُونَ لَهُم نَصرًا وَلاَ أَنفُسَهُم يَنصُرُونَ (192)وَإِن تَدعُوهُم إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاء عَلَيكُم أَدَعَوتُمُوهُم أَم أَنتُم صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمثَالُكُم فَادعُوهُم فَليَستَجِيبُوا لَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ (194) أَلَهُم أَرجُلٌ يَمشُونَ بِهَا أَم لَهُم أَيدٍ, يَبطِشُونَ بِهَا أَم لَهُم أَعيُنٌ يُبصِرُونَ بِهَا أَم لَهُم آذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعُوا شُرَكَاءكُم ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَستَطِيعُونَ نَصرَكُم وَلآ أَنفُسَهُم يَنصُرُونَ (197) وَإِن تَدعُوهُم إِلَى الهُدَى لاَ يَسمَعُوا وَتَرَاهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ وَهُم لاَ يُبصِرُونَ (198))[الأعراف: 191 198].

 

وقولـه - تعالى -: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخلُقُونَ شَيئًا وَهُم يُخلَقُونَ وَلَا يَملِكُونَ لِأَنفُسِهِم ضَرًّا وَلَا نَفعًا وَلَا يَملِكُونَ مَوتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) [الفرقان: 3]

 

وقوله - تعالى -: (وَيَعبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرٌّهُم وَلاَ يَنفَعُهُم وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُل أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرضِ - سبحانه وتعالى - عَمَّا يُشرِكُونَ) [يونس: 18].

 

وقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ, (13) إِن تَدعُوهُم لَا يَسمَعُوا دُعَاءكُم وَلَو سَمِعُوا مَا استَجَابُوا لَكُم وَيَومَ القِيَامَةِ يَكفُرُونَ بِشِركِكُم وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثلُ خَبِيرٍ, (14)) [فاطر: 13 14].

 

وقوله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسلُبهُمُ الذٌّبَابُ شَيئًا لَّا يَستَنقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ) [الحج: 73].

 

وقوله - تعالى -: (قُل أَرَأَيتُم شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَم لَهُم شِركٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَم آتَينَاهُم كِتَابًا فَهُم عَلَى بَيِّنَةٍ, مِّنهُ بَل إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعضُهُم بَعضًا إِلَّا غُرُورًا) [فاطر: 40].

 

وقوله - تعالى -: (قُلِ ادعُوا الَّذِينَ زَعَمتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَملِكُونَ مِثقَالَ ذَرَّةٍ, فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرضِ وَمَا لَهُم فِيهِمَا مِن شِركٍ, وَمَا لَهُ مِنهُم مِّن ظَهِيرٍ,) [سبأ: 22].

 

ففي هذه الآيات بيان عجز الأصنام وعدم أهليتها لأن تكون آلهة تعبد من دون الله - تعالى -، حيث فقدت الحواس والأعضاء اللازمة لكل حي كي يتحرك ويعمل، فضلاً عما هو فوق ذلك مما هو من خصائص الإله القادر كالإيجاد من العدم والملك المطلق لكل ما في السموات والأرض.

 

وليس المقصود بنقد عبادة الأصنام وتحطيم طغيان الكفار بها أن يقوم المسلمون بسبِّ تلك الأصنام، فإن السب لا ينتج تحطيمًا وقر في النفوس من تعظيمها وإنما يدفع عابديها إلى شيء من رد الفعل فيسبوا الله - جل وعلا - عن ذلك، ولذلك نهى الله - سبحانه - المسلمين عن هذا السلوك بقوله: (وَلاَ تَسُبٌّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبٌّوا اللّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ, كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ, عَمَلَهُم ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرجِعُهُم فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ) [الأنعام: 108].

 

فالسب والشتم نُزُول في مجال الجدل ولا يقوم به إلا من فقد الحجة والبيان في الدفاع عن قضيته، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاه الله - تعالى - أعلى البيان البشري وأبلغ الحجة، مع ما هو مؤيد به من الوحي الإلهي العظيم.

 

أما الآيات السابقة التي اشتملت على نقد عبادة الأصنام فليست من باب السب والشتم، وإنما هي من النقد المشتمل على بيان الحقائق، ومن هذه الحقائق أن الأصنام عاجزة عن خلق الأشياء من العدم، وأنها لا تستطيع نصر عبادها ولا نصر أنفسها، وأنها لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا، فضلاً عن أن تمنح ذلك عابديها، وأنها لا تستطيع إماتة الناس ولا إحياءهم، وأنها لا تملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.

 

فهذه الحقائق الناصعة لا يستطيع الكفار أن يجيبوا عنها إلا بالإقرار والاعتراف بصدق ما جاء في القرآن من وصف أصنامهم، بينما لا يستطيعون أن يصفوا الله - جل وعلا - بتلك النقائص لأنهم يقرّون بتوحيد الربوبية، وإنما جحدوا توحيد الألوهية.

 

والمسلك الثاني: القيام بتحطيم طغاة الكفار الذين كانوا يتزعمون قومهم ويشرعون لهم القوانين التي يسيرون عليها في هذه الحياة، حيث إن الطغيان في ذلك الزمن يتمثل في شرك العبادة، وذلك بعبادة الأصنام من دون الله - تعالى -، وفي شرك الطاعة، وذلك بطاعة السادة والزعماء الذين يشرعون للناس من دون الله - تعالى -.

 

ولقد نزل في توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تحطيم الطغيان البشري آيات كثيرة، منها: -

قولـه - تعالى -: (وَلاَ تَأكُلُوا مِمَّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَآئِهِم لِيُجَادِلُوكُم وَإِن أَطَعتُمُوهُم إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ (121) أَوَ مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظٌّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ, مِّنهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (122)) [الأنعام: 121 122].

 

وقولـه - تعالى -: (وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِي العُميَ وَلَو كَانُوا لاَ يُبصِرُونَ (43) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظلِمُ النَّاسَ شَيئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ (44)) [يونس: 4243].

 

وقولـه - تعالى -: (قُل إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالوَحيِ وَلَا يَسمَعُ الصٌّمٌّ الدٌّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ) [الأنبياء: 45].

 

وقولـه - تعالى -: (إِنَّكُم وَمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُم لَهَا وَارِدُونَ (98) لَو كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلُّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَهُم فِيهَا لَا يَسمَعُونَ (100)) [الأنبياء: 98 100].

 

وقوله - تعالى -: (قُل أَفَغَيرَ اللَّهِ تَأمُرُونِّي أَعبُدُ أَيٌّهَا الجَاهِلُونَ) [الزمر: 64].

 

وقولـه - تعالى -: (وَيلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ, أَثِيمٍ, (7) يَسمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتلَى عَلَيهِ ثُمَّ يُصِرٌّ مُستَكبِرًا كَأَن لَّم يَسمَعهَا فَبَشِّرهُ بِعَذَابٍ, أَلِيمٍ, (8) وَإِذَا عَلِمَ مِن آيَاتِنَا شَيئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ مٌّهِينٌ (9) مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ وَلَا يُغنِي عَنهُم مَّا كَسَبُوا شَيئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَولِيَاء وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)) [الجاثية: 7 10].

 

ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجهر بتلاوة هذه الآيات وأمثالها ولايداري المشركين بالإسرار بها، وكان من الأهداف الكبيرة والحكَم البالغة من نزول هذه الآيات الشديدة على المشركين أن يتحطم الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء الكفار وسادتهم، وأن يتلاشى شيئًا فشيئًا ما وقر في نفوس الأتباع من تعظيمهم والرهبة منهم.

 

ولقد سبقت أخبار تبين جرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - على زعماء الكفار وستأتي أخبار أخرى في هذا المجال.

 

ولقد اجتمع على سيادة مكة آنذاك عدد من أشراف قريش منهم أبو جهل عمرو بن هشام وأمية وأبي ابنا خلف والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل، وكانوا جميعًا يعادون الإسلام ويحكمون أهل مكة بالقوانين التي تعارفوا عليها، وكان من الصعب على أفراد الناس أن يخالفوهم في شيء من ذلك، بل إنّ قوانينهم تلك اكتسبت القداسة الدينية لكونها مما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم في ذلك والإنكار عليهم وتسفيه آرائهم وعيب ما ورثوه عن أسلافهم أنكروا ذلك منه وناصبوه العداء، وساءهم أن بعض أشرافهم قاموا بحمايته وأبرزهم عمه أبو طالب.

 

وكان لزعماء مكة المذكورين شأن كبير في نفوس أكثر أهل مكة، بل في نفوس قبائل العرب، وقد بلغ تعظيم أتباعهم لهم في مكة حد العبادة حيث خضعوا لهم في القوانين التي كانوا يؤمنون بها ويحمونها وينفذونها، فكان من أعظم مَهامِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته أن يزيل من النفوس ما وقر فيها من تعظيم هؤلاء الطغاة، وأن يمحو من القلوب أي حب أو تقدير لهم، لأن تمكن محبتهم وتعظيمهم في القلوب يزاحم وجود الإيمان بالله - تعالى -وتعظيمه، وبالتالي يتكوَّن سلوك الناس في الحياة وتصوراتهم على ما يرسخ في القلب من المعتقدات.

 

لقد كان من أول ما يتخلى عنه المؤمنون بالإسلام آنذاك أن ينفضوا من قلوبهم أي غبار علق بها من الولاء للأصنام أو للطغاة الذين يحاولون أن يتحكموا في مصائر الناس وأن يحددوا لهم المعتقدات التي يؤمنون بها والسلوك الذي يسيرون عليه في الحياة.

 

ولقد كان الرجل يمسي كافرًا وقلبه عامر بحب أولئك الأوثان من الحجارة وطغاة البشر، ثم يصبح مؤمنًا وقد محا من قلبه أي وجود لتلك الأوثان.

 

ولقد كان من مظاهر ولاء الكفار لطغاتهم أنهم كانوا يُكثرون من الثناء عليهم وذكر محاسنهم ويغضٌّون الطرف عن مساوئهم، بل كانوا يسِّوغون مساوئهم ويحوِّلونها إلى محاسن ومحامد.

 

لقد كان أولئك الطغاة يقودون قومهم إلى الضلال في الدنيا والنار في الآخرة رغم وضوح الحق لهم واعتراف بعضهم بذلك، ومع ذلك يتبعهم عامة الناس إلى هذه الحياة المظلمة والمصير المهلك، وقد ألغوا عقولهم وحصروا تفكيرهم في محاولة كسب رضا أولئك الطغاة والحصول على شيء مما يجري على أيديهم من متاع الدنيا الزائل، أو كسب الجاه الوهمي الذي يحاول الطغاة رفعهم إليه.

 

ولقد كان يحصل من أولئك الطغاة غالبًا تمجيد لأولئك الأتباع الذين يسيرون في ركابهم، وثناء عليهم بذكر فضائلهم، وما ذاك إلا لأن الطغاة لا يقوم وجودهم إلا على أتباعهم من عموم الناس، فإذا فقدوا هذه القاعدة سقطوا، فوجود كل من الطائفتين مرتبط بوجود الطائفة الأخرى.

 

وكما أن العامة محتاجون إلى الطغاة في بعض أمور معاشهم وتَبوٌّء المكانة الاجتماعية التي يطمحون إليها فإن الطغاة محتاجون إليهم لأنهم الركيزة التي يقوم عليها مجدهم، بل إن حاجة هؤلاء إلى العامة أعظم وأهم، لأن وجود مجدهم يقوم على أولئك العامة بينما يستطيع العامة لو عقلوا وتفكروا أن يتخلوا عنهم وأن يبحثوا عن ما يحقق مصالحهم في الدنيا والآخرة.

 

وهكذا فعل المؤمنون في مكة حيث حرروا أنفسهم من أوهام الجاهلية ومن ربقة تبعية أولئك الطغاة، فأصبحوا ينظرون إليهم بازدراء واحتقار، ويعدٌّونهم من معالم الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها وتحرير عقول الناس منها.

 

إن ما قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تحرير عقول الناس من تبعية طغاة البشر قد أتاح لهم فرصة عظيمة من التفكير والإبداع في هذه الحياة، فليس أمام المؤمنين من يطلبون رضاه ويجتنبون سخطه إلا الله - تعالى -، ثم هم بعد ذلك يتحركون غير مقيدين بالخضوع لبشر مثلهم، وإن كان الإسلام قد أوجب عليهم طاعة ولاتهم فإن ذلك من طاعة الله - جل وعلا -، مادام الجميع خاضعين لذلك المبدأ العظيم وهو طلب رضوان الله - تعالى -واجتناب سخطه.

 

-------------

(1)مفردات الراغب /304.

(2) المستدرك 4/605.

(3) سيرة ابن هشام 1/91.

(4)سيرة ابن هشام 1/86.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply