بسم الله الرحمن الرحيم
يحكى أن أحد الخطباء \"من أهل الحظوة\" كان يلقي إحدى خطبه العصماء على منبر الجمعة ويقول فيما يقول عن وعيد الله لمن غير منار الأرض بإحباط العمل ويعرج على قول رسول الله ص \"الظلم ظلمات يوم القيامة \" وفيما هو وذاك، إذ دخلت المسجد عجوز على المصلين وقالت لهم لا تصدقوه لقد اغتصب مني كذا وكذا من الأرض.. فانفجرت جموع المصلين في ضحك عارم..
وبعيداً عن هذه الرواية فلست ممن ينتقص من دور الكلمة الجادة في إصلاح فساد الأمة وانتشالها مما هي فيه، وأنى لي أن أنتقص من قوم رائدهم محمد وخيرة البشر: أبو بكر، عمر، عثمان وعلي وغيرهم..
كما أن الخطابة والكلمة الجادة الصادقة أخرجت الأمة من دوامات عديدة وكانت مشاعل نور ومنارات هدى.
على أن قيمة الخطابة والمنبر لا تنبع من تماثيل براقة منتصبة عليه، وإنما العبرة بقيمة ما يقال، وقد أثنى النبي على قس بن ساعدة وهو القائل:
في الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
يمضي الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لا محالة
حيث صار القوم صائر
إذ قال النبي \"يرحم الله قساً. إني لأرجو أن يُبعث يوم القيامة أمَّة وحده\".
كلمة وبيان وثورة ومؤتمر صلح
لقد فهم القدماء ما لهذا اللقاء الأسبوعي من قيمة في تبصير المسلمين بأحوالهم، ومعالجة مشكلاتهم الآنية الدينية والحياتية وفضح أعداء الأمة، فهي نفحة إيمانية وكلمة توجيهية، وهي مؤتمر صلح عند اشتعال الفتنة.
هذه هي خطبة الجمعة عند القدماء.. ليست ذنباً أو عقاباً مفروضاً من الله كما يظن بعض الخطباء وكما يعبر عنه أديب العروبة والإسلام الرائد مصطفى صادق الرافعي في كتابه الرائع \"وحي القلم\" تحت عنوان \"قصة الأيدي المتوضئة\"، قال الراوي: \"وصعد الخطيب المنبر وفي يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه وكان السيف سنة قديمة ثم استبدل مع الزمان بسيف خشبي ثم انتهى تماماً الآن فما استقر في الذروة حتى تخيل إليّ أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه، ونظرت فإذا هو كذب على الإسلام والمسلمين صريح، كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها\".
وسائل للرقي بالكلمة:
ولما كان للخطابة من الأهمية ما لها منذ فجر الدعوة، ولما كان دور الكلمة له الريادة كان من الواجب لفت النظر إلى بعض الأمور التي ترتقي بدور الخطبة أو الكلمة أو اللقاء أو الندوة لتصويب الاتجاه ودعم الهدف المعول عليه من ورائها، وسنوجز هذه الأمور في عدة نقاط:
1 وضوح الدعوة: أى أن يعيش الخطيب فكرة الدعوة التي إليها يدعو الناس بروحه وعقله وجسده وأن تشغل وعيه وتملك جماع قلبه وتأخذ بلبه فتصبح نصرتها والعيش في محرابها هدفاً سامياً.. وتصبح الدعوة إليه مطلباً عزيزاً، إن إعداد نفوس المتلقين وشحنهم بعزيمة وهمة يحتاج إلى عزيمة أكبر وطاقة خلاقة نفتقدها كثيراً..
ولعل في قصة الصحابي النبيل مصعب بن عمير أول سفراء الإسلام حين أرسله النبي ص إلى أهل المدينة، وهو لا يحمل إلا عقيدته الراسخة وإيمانه المتأجج وأسلوبه الخلاق المبدع أوضح مثال.
ولقناعته الشخصية أن دوره أن يبني لبنات الدولة الجديدة، وأن يمهد طريقاً ويفتح الأبواب المغلقة للعصبة المؤمنة كان ما كان لدعوته من تأثير وعجب.
وإن مما يساعد على شحذ همم الموهوبين من الدعاة ممن فقدوا الثقة في أنفسهم أن يتبصروا في إحداق المؤامرة بأبناء هذه الأمد وأن يروا كيف يعمل أعداؤها على محو هويتها وجرأة بعضهم على التعبير عن دعوته رغم باطلها.
2 تفرد الداعية: الخطيب أو الداعية يؤدي دور الأنبياء والصديقين والمصلحين في كل زمان في قضية التوجيه، وشاء أم أبى فهو محط الأنظار ومرجع الأفكار.. فلابد أن يكون كما قلنا مقتنعاً بما يدعو الناس إلى الاعتقاد فيه والعمل به. فالريادة في هذا الباب تنبع من القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي يضربه للناس، فلا يصلح أبداً أن يأمر الناس بشيء ولا يأتيه أو ينهاهم عن شيء ويأتيه.
وفي الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله ص قال: \"يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق اقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحاء فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه\" متفق عليه.. وتندلق أقتابه: أي تخرج أمعاؤه..
وشخصية الداعية أو الخطيب شخصية فريدة تجبر الآخرين على تبني فكرته في التغيير، فلا يذوب أو يتحلل في شخصيات الخطباء الآخرين أو يتحول إلى بوق أو ببغاء يردد أسلوبهم أو يتملق للناس بألفاظهم، وطريقة إخراج الحروف، ولكنه يفرض شخصيته أو كما كان يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - \"أنت نسيج وحدك\".. في كتابه الرائع جدد حياتك.. إن أيسر شيء على المقلد أن يفنى في شخصية من يقلده ومن واجبات الخطيب الداعية المعاصر أن يأخذ بيد المرضى والعصاة والجهلة وعبدة الدنيا بيد حانية رقيقة، فلا يبطش بالمسلمين فالبطش والعنف أثبت فشله وانصراف الناس عنه..
فلا يصح أن يقف خطيب على منبر يوجه الناس فيقول: \"اتق الله لعلك تنجو.. ولست أراك ناجياً\" طبعاً هذا حدث بالفعل.
كما يجب أن يكون حال الداعية خيراً من مقاله وسلوكه أوقع أثراً من حديثه وأن يأسر الناس بأخلاقه حتى يحدث التفاعل والتغيير والارتقاء الذي من أجله شرعت الدعوة والخطابة.. وكم رأينا من خطباء ترتج الحلوق خلفهم بالدعاء ثم ينتهي كل شيء كأن لم يكن، نتيجة لفقدان المعايشة والقدوة خارج أسوار المسجد.
والعكس صحيح، فقل أن تجد داعية أو خطيباً خلقه الصبر ومنهجه اللين والرفق ثم هو ناجح في حياته العامة والشخصية.. خدوماً للناس والمجتمع.. بسيط التكوين والطباع ثم تجده فاشلاً أو غير مؤثر فيمن حوله من الناس كافرهم قبل مؤمنهم.
3 سعة الاطلاع: أنت أيها الخطيب الداعية عندما تقف مستشرفاً فوق الجموع الغفيرة يجب أن تراعي أموراً عدة.. منها أن هذا الجمع الغفير يضم فيما يضم أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة جامعة ومدرسين وعلماء ومثقفين.. كل واحد من هؤلاء ينظر لك على أنك أرفع منه في العلم درجة.. وبما أنك تقف للناس في موقف التوجيه والتربية وهما أمران عظيمان يحتاجان إلى خصوصية في الفكر والمعرفة وسعة الأفق، فيجب عليك أن تقف على قدر معقول من الثقافة في مختلف العلوم قدر المستطاع.
المتابعة والمداومة على معرفة الجديد والمناقشة مع أهل الاختصاص في آخر الأخبار وأبعادها وتبصير المسلمين بما يحاك أو يدار خاصة مع القضايا المصيرية، قضايا المسلمين المستمرة والمتلاحقة، والمصيرية كالجهاد والصحوة الإسلامية وبث الأمل في وقت اليأس والتحذير والتنبيه في زمن الغفلة.
4 الموضوعية: من الأمور الخطيرة في الخطيب أو الداعية أن يعتمد منهج التهييج والإثارة الزائفتين وأن يعتمد على القصص التافهة لمجرد جذب الاستماع، وإنما عليه أن يلزم العقل والمنطق، فليس فيما ورد لنا من صحيح الأخبار أن الرسول وأصحابه والسلف الصالح اعتمد لفت الانتباه وهم أساتذته عن طريق الخرافات والهراء والإسرائيليات المغلوطة وفيما تركُوه لنا من تراث لو أتعبنا العقول والعيون في البحث والاستزادة منه.
إن المستمع والمتابع ليجد في الواقع وقصص الحياة ما يغنيه ألف مرة عن الإحماء الكاذب الزائف.
إذن فموضوعية الداعية تخرجه من حيز ضيق الأفق إلى سعة الدعوة وحقلها الممتد الوارف لكل البشر، وإن ترتيب الأفكار وجدية الطرح لأمر مهم، ومن الموضوعية أن يعطي كل أمر وكل قضية حجمها الطبيعي وأن يرتب الخطيب والداعية أفكاره وأولوياته حسب احتياج مجتمعه ومحيطه الخاص، فليس من المنطق أن يبدأ بالتكفير لتارك الصلاة و90% من المجتمع لا يصلون وإنما عليه التدرج فيبدأ من العقيدة الصحيحة وينتقل إلى العبادة السليمة ثم إلى الأصول فالفروع.
ومن الموضوعية عدم تحويل نقاط الخلاف إلى معارك من خلال المنابر أو التركيز على فئة أو شريحة ومخاطبتها كأن يخاطب المثقفين دون الجهال أو العكس.
ومن الموضوعية مناقشة الأقرب فالأبعد فإذا كان هناك حدث قريب من المجلة التي هم فيها فهو أولى بالطرح والعرض وإبداء الرأي الصحيح أو كما يقال: لكل مقام مقال وقد أوصى أبو بكر.. عمر - رضي الله عنهما - قائلاً: \"إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل\" أي أن يكون ميزان الحكم على الأمور هو المنطق لا شهوة الكلام أو الفعل.. وميزان الحكم هو ميزان الصواب والخطأ لا المزاجية..
ومن الموضوعية البعد عن التعصب البغيض أو الأخذ برأي مفرد وتجريم ما عداه وخاصة فيما يتسع به الرأي.
فنحن جميعاً جنود لهذا الدين العظيم وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي والإمام مالك وتلاميذهم كلهم جنود مخلصون مجتهدون في الرأي لتوسيع ما ضاق، واختلافهم رحمة لنا وليس وبالاً علينا كما يحلو للبعض أن يصور..
5 التوثيق والدقة: هذا الأمر غاية في الخطورة والأهمية لأنه يعني بكل بساطة الثقة أو عدمها فيما يقول الخطيب أو الداعية فإما الانصراف عن كل شيء إليه أو الاشتغال بكل شيء عنه.
فهناك دعاة وخطباء لا يعرفون بل يجهلون معنى التوثيق والتدقيق لكل ما يسردون بل ربما لجأ إلى الاختراع أو التأليف أو التلفيق لمجرد جذب الانتباه.
إن عدم التوثيق العلمي للأرقام والتواريخ ورواية الأحداث والأسماء أمر غاية في الخطورة ومزلق شديد وقلَّ أن تجد من يقول لك إن هذا القول محض ظن أو رأي لبعض العلماء أو أن هذا التاريخ تقريبي أو أن الرقم مشكوك فيه بل يطلق الأرقام والأسماء بلغة الواثق المسيطر على الأوضاع فيخرج الناس ليقرأوا بالكتاب أسماء وأرقاماً وروايات أخرى!.
إن ثقة البسطاء بل والمثقفين في شخصك أيها الخطيب أو الداعية تحملك أمانة الصدق فيما يدخل هذه العقول، واحترامك لدعوتك يفرض عليك احترام عقول الناس.
وأذكر أنني حضرت جمعة لخطيب ظل يتكلم طيلة الخطبة عن \"هرقل\" ملك ألمانيا الذي أهلك اليهود عن بكرة أبيهم وكلما شككت في أذنى أعاد نفس الاسم. فهو يجهل الفرق بين هتلر الزعيم النازي الأشهر وهرقل الملك الروماني الطاغية.
إن توثيق الروايات خاصة فيما يتعلق بصدر الإسلام يحتاج إلى تنقيح وحرص شديدين لأنه يمس العقيدة أيضاً وما قد نتقبله في الأمور الاعتيادية من خطأ غير مقصود أو أمور تضاربت بها الآراء لا ينبغي في حضرة صدر الإسلام الأول، والأولى إن لم نتأكد من صحة الرواية وخلوها من عوامل البلبلة والحيرة ألا تروى أصلاً.
6 المنهجة: إن الخطيب يجب أن يسأل نفسه كلما صعد المنبر: لماذا أنا هنا ولماذا يفرض الإسلام على هؤلاء الناس الاستماع والإنصات ويشدد تشديداً لا نجده إلا في الحث على الإنصات لكلام الله؟ إذا أجبت على هذا السؤال فبقي أن تعرف أن عليك في كل مرة تصعد فيها لتكلم الناس أن تضيف إليهم شيئاً جديداً أو تبين لهم أمراً قديماً.
ومنهج الإسلام في الوعظ مميز فهو منهج عاقل مبصر، لا يعتمد على رجل واحدة أو يتبنى مبدأ (قل كلمتك وامش)..
وإذا أردت أن تستكشف هذا المنهج فعليك برائده محمد فعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: \"وعظنا رسول موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال \"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وأنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة\" (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح) فالأمر بدأ بموعظة قوية ارتجفت لها الأبدان ثم تحولت إلى منهج حياة للأمة وتوجيه بالطاعة والاتباع للمنهج.
إن واجب الخطيب أن \"يمنهج\" إذا صح التعبير كل فكرة يدعو إليها، فإذا تكلم عن التوبة وجب أن يتحدث عن أهم لوازمها وهي صحبة الخير، وإذا تحدث عن الصلاة فلا يبدأ بقيام الليل بل يبدأ بالفرائض الواجب أداؤها وتحبيب الوقوف بين يدي الله والأنس بالقرب من رب الكون.. وإذا أراد الحديث عن الجهاد تكلم عن لوازمه في واقع الحياة من صبر على سوء خلق البشر وحسن صحبة الطائعين والمداومة على الطاعات.
7 القصة: يعتمد أسلوب القرآن كثيراً على القصة كوسيلة للتوثيق وتقريب الحال والمقال، وقد استخدمها الرسول أيضاً في دعوته المباركة وإرشاده ووعظه.
والقصة مفيدة في إمتاع المستمع سهلة الاستيعاب والحفظ ويرتبط كل جزء من أجزائها ببعض ربطاً متصلاً مما يرسخ تأثيرها في النفس.
غير أن بعض الخطباء والدعاة لا يستعملون القصة للتوثيق وإنما يبنون القصة ويبحثون عنها ويجعلونها هدفاً فيسطحون من قيمة وكمية الثراء في المكتبة الإسلامية.
إن الكلمة أمانة وأداء الأمانة في عصر الفتن يحتاج إلى عزيمة شديدة وصلابة لا يؤدي حقها إلا أحفاد العلماء والرواد العظام كالعز بن عبد السلام وابن تيمية ممن نهضوا بالأمة وأعادوا لها مجدها وعزتها وإن أمتنا اليوم لهي في أحوج أزمانها إلى مثل تلك العزائم حتى تخرج بإذن الله مما هي فيه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد