رسالة إلى شاب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:

فأحييك أخي الشاب بتحية الإسلام، تحية أهل الجنة، تحية خص الله بها- تبارك وتعالى -هذه الأمة: وكلي أمل أن تتفضل بقراءة وجهة نظري بكل تجرد، وموضوعيةº وأحسب حينئذ أن نقاط الاتفاق بيني وبينك ستكون أكثر من نقاط الاختلاف، وأن اختلافك معي في قضية من القضايا لا يعني إهمال وإلغاء جميع ما توافقني عليه، أتمنى أن

تفكر بموضوعية وإنصاف وتجيب على هذه الأسئلة بصوت خافت لا يسمعه غيرك، أجب عليها في نفسك بكل صراحة، ولن يجنى مرارة التستر على العيوب والمخادعة إلا من يخادع نفسه.

أي العبوديتين تختار؟

تأمل في هذا الإنسان وحياته، مرة يلم به مرض، ومرة يصيبه جوع، مرة يضيق صدره … بينما تراه فتياً نشيطاً، يتحدث بملء فيه، ويعلو صيته وصياحه إذا به يصاب بفيروس لاتراه عينه المجردة فيتحول ذلك الإنسان صاحب القوة والحيوية إلى جسم ممدد طريح على الفراش، لا تكاد تميز صوته، ولا يستطيع حراكاً.

يملك المال ويوغل في الثراء، فما يلبث أن تصيبه كارثة تحوله إلى أسير لديونه وبين طرفة عين قد انقلب من قمة الثراء إلى حضيض الفقر والحاجة والفاقة.

إنها أمارة نقصه وضعفه وهكذا شاء الله أن يكون المخلوق كذلك، لذا فلابد أن يكون المخلوق عبداً، فإما أن يكون عبداً لله يخضع له ويستجيب لأمره، وإما أن يبتلى بعبودية ما سواه، أرأيت كيف يسجد ويركع بعض الناس لأحجار نحتوها بأيديهم؟ أرأيت كيف يتعبد النصارى بخرافات سطروها بأقلامهم وألغوا لأجلها عقولهم وألبابهم؟

من الشاذ؟

إن العالم الفسيح من حولنا بأرضه وسمائه ونجومه وأفلاكه، وكل صغير وكبير ندركه ولاندركه، كل ذلك يسجد ويخضع لخالقه تبارك وتعالى، ويلهج بالتسبيح له عز وجل.

والظل الذي نتقي به لهيب الشمس المحرقة يتفيأ ذات الشمال واليمين ساجداً لله تبارك وتعالى. بل هذه الشمس التي نراها كل يوم، تعلن خضوعها وسجودها لخالقها، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - \"فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها..\"

فما بال الإنسان بعد ذلك؟ ما باله يستنكف ويستكبر على خالقه؟ بل ما باله يتمرد على نظام الحياة أجمع؟ وماذا عساه يساوي في هذا الكون؟ وأين مكانه في هذا العالم الفسيح؟

فمن الشاذ والغريب حيئذٍ,؟ ومن الذي يسبح ضد التيار؟ أهو المسلم القانت الساجد المسبح لله- تبارك وتعالى -فيتجاوب ذلك مع هذا الكون الخاضع لربه؟ أم هو الذي يتمرد على خالقه، ويستنكف عن طريق الهداية، فيستظل ويختبيء حين يواقع المعصية وراء حائط يسبح ويسجد لربه، والسيارة والهاتف والقلم… وسائر ما ييسر له طريق

المعصية يخضع لمولاه ويسبح ويسجد له.

فالذي يسلك طريق الهداية يسير وفق السنة التي يسير عليها الكون أجمع، أما الذين يتنكبون طريق الهداية فيعيشون تناقضاً في حياتهم، ليس مع الكون الأرحب الواسع بل مع ذواتهم وأنفسهم، فأجسادهم وأعضاؤهم تخضع لله.

أسرى ولكن لا يشعرون..

أرأيت أتباع الشهوات والغارقين في أحوالها؟ أتظن أنهم يعيشون السعادة؟

إنهم أسرى وعبيد لهذه الشهوة المحرمة تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فينتهون، ولسكرهم في لذتهم لا يدركون ماهم فيه، وهاهو أحدهم لا يجد شبهاً لنفسه وحاله إلا بأهل الجنون، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.

قـالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم *** العشق أعظـم مما بالمجــانين

العشق لا يستفيق الدهر صـــاحبه *** وإنما يصرع المجنون في الحين

إن أحدهم يقدم ما يملك فداء لمن يعشقه ويحبه، بل قد ينحر دينه قرباناً بين يدي معشوقه، وهاهو أحدهم يعبر عن ذلك:

رهبان مدين والذين عهدتــهم *** يبكون من حذر العذاب قعوداً

لو يسمعون كما سمعت كلامها *** خروا لعزة ركعاً وسجــوداً

ويستغرق المعشوق فؤاد من يعشقه فلا يبقى فيه مكان للبحث عن رضا مولاه، بل قد يصبح رضا الله مرتبة دون رضا معشوقه، كما قال هذا الشقي عن محبوبه - عافانا الله:

رضاك أشهى إلي من *** رحمة الخالق الجليل

ولو أدرك أتباع الشهوات اللاهثون وراءها مرادهم، فسرعان ما تنتهي حياتهم، وتنتهي معها المتعة ويبقى دفع الثمن الباهض الذي لا يمكن أن يقارن بحال بتلك الشهوة العاجلة واللذة الفانية، وهاهو الناصح الأمين - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا عن ذلك فيقول: \" يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة،فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيقال له: يا ابن آدم: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط\".

فالدنيا كلها ومتاعها وشهواتها تنسى في غمسة واحدة في العذاب، فكيف بما بعد ذلك؟

ماذا تنتظر؟

أعرف أن الشاب الغافل ليست هذه أول كلمة يسمعها، وأنه قد مرت به مواقف عدة دعته للتفكير في التوبة والرجوع إلى الله، لكن السؤال الذي لم أجد له إجابة مقنعة

إلى الآن هو: لماذا الإصرار على الخطيئة؟ ولماذا التردد في سلوك سبيل الصالحين؟

انظر إلى من حولك، إلى من هو في سنك وعمرك، ممن هداهم الله فأقبلوا على طريق الصلاح والتقوى، وانظر إلى من كان له تاريخ في الغفلة والصبوة، فنهض وعاد إلى مولاه، إنهم بشر مثلك، ولهم شهوات وتنازعهم غرائز، وتعرض لهم الفتن وتشرع أبوابها أمام ناظريهم، فما بالهم ينتصرون على أنفسهم؟ وما الذي يجعلهم يستطيعون

وأنت لا تستطيع؟ ولم ينتصرون وتنهزم أنت؟ بل ربما أنت أقوى شخصية من أحدهم، وأكثر ذكاء من الآخر وفطنةº إن الذي جعل هؤلاء ينتصرون على أنفسهم يمكن أن يجعلك كذلك.

فهلا سلكت أنت الطريق وأقبلت إلى ربك، واعلم بأن الله يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أشد من فرح رجل كان في صحراء على دابة فأضاعها وعليها طعامه وشرابه، ونام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ وجدها عند رأسه، ففرح الله بتوبة عبده أشد من فرح هذا الرجل بدابته، فأقبل عليه، واتخذ القرار الحاسم ولا تتردد.

أيهما أكثر رجولة؟

صفة الرجولة صفة يحبها جميع الناس، ونفي الرجولة عن أحد تهمة جارحة يرفضها المرء ولو كانت جميع صفات الرجولة معدومة لديه.

أيهما أكثر رجولة أقوى شخصية؟ الشاب الذي تقعد به نفسه عن فعل ما أمره به مولاه فتنتصر عليه، أم الشاب الذي يجتاز العقبات، ويستجيب لأمر ربه ولو كان شاقاً على نفسه؟

أيهما أكثر رجولة وأقوى شخصية الشاب الذي يسير وراء غرائزه وشهواته، ويستجيب لنفسه في كل ما تدعوه إليه وتدفعه له؟ أم الآخر الذي يملك الغرائز والشهوات، وتدعوه نفسه وتدفعه إليها، لكنه يكبح جماحها ويضبطها، ويقول لها: ليس من حقك أن تتمتعي بكل ما تريدين، فثمة عاقبة وخيمة للسير في هذا الطريق، وثمة عاقبة حميدة لمن يمنع نفسه عن الحرام؟ وهو وإن ترك الشهوة العاجلة فهو يعلم أن نهايتها في الدنيا مؤلمة، إما مرض عضال، أو فضيحة تنغص حياته، أو مصيبة أو كارثة، وحين ينجو من عذاب الدنيا لن ينجو من عذاب الآخرة إلا أن يمن الله عليه بعفوه.

أما الامتناع عنها فعاقبتها السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، إن لذة الانتصار على النفس.

أن أشجع قرار، وأولى قرار يتخذه الإنسان هو أن يغير مجرى حياته، ويسلك في قطار الصالحين الأخيار. فأتمنى أن نكون شجعانا وجريئينº فنتخذ هذا القرار.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply