بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الحج ركن من أركان الدين، وأحد المباني الأربعة التي اختلف قول بعض السلف في تكفير تاركها، ومما أثر ما روى عن عمر - رضي الله عنه - لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
ولهذا وغيره- عظمت مكانة الحج في النفوس، وتوافد الناس من أقطارها لأداء النسك، وربما كان فيهم المقصر المبالغ في التفريط، إلاّ أنه يرى الحج حتم عليه لازم، وسبيل لابد أن يكون له سالك، ومن طريف ما يذكر عن بعض من عرف بفسق أنه عندما أكثر عليه بعضهم في اللوم والتأنيب قال:
إذا صليت خمساً كل يوم * * * فإن الله يغفر لي فسوقي
ولم أشرك برب الناس شيئاً * * * فقد أمسكت بالدين الوثيق
وجاهدت العدو ونلت مالاً * * * يبلغني إلى البيت العتيق
فهذا الدين ليس به خفاء * * * دعوني من بنيات الطريق
وهذا على ما فيه من خطل يدلك على مكانة الحج في نفوس الناس ولاسيما من بعدت ديارهم أو نأت آثارهم في الغابرين المعظمين لشعائر الدين وشرائعه.
وإذا كانت الحال كذلك فمن البديهي أن ترى - أيها الداعية الموفق- في موقف الحج، وقد وفدت مئات الألوف المؤلفة من بلاد المسلمين وأصقاع الأرض الأخرى ما لا ترضاه من معاص وآثام وسوء تصرفات.
ومن الخطأ أن تظن نفسك في رحلة إلى الرحاب الطاهرة مع بعض الطيبين الموفقين، الذين قد يصبرون على الأذى، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وإذا لم تتنبه لهذا فربما صدمت، وربما أسأت من حيث أردت أن تصلح.
وإذا تفطنت لهذا فإن مما ينبغي أن يعيه الداعية المصلح، أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، إذا جابه بعض منكرات الحجيج هو أن الله ما كلف نفساً فوق طاقتها، أو ما آتاها، ولذا فإن عليه أن يحسن قراءة الواقع -الذي ربما ارتبك عن واقع تلك البقاع في غير المواسم- وأن يعرف حدود قدرته، وما في إمكانه أن يغيره في ذلك الموقف ثم يتصرف في إطار تلك الحدود، بالأسلوب الحكيم الأمثل الذي ربما يكفل تغيراً للمنكر، أو يحقق أعلى المكاسب، ويدرأ أغلب المفاسد، وعندها يكون قد أدى الذي عليه (لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها)، وإن لم يزل المنكر. أما إذا اندفع الداعية أو المصلح أو المنكر وراء عاطفته التي تعدت حدود قدرته فربما أساء وظلم وربما استطال الشر ولم يغير من الواقع شيئاً، وتلك بلية قد تعرض لبعض الغيورين في غير الموسم، فينسى أحدهم أن الله لا يكلف نفساً إلاّ وسعها، فيركب الصعب ويترك الذلول لتغير واقعة فيبسل نفسه دون أن يصنع شيئاً وهذا القيد الأخير ينبغي أن يلحظ- وقد كان الأجدر به أن يتدرج شيئاً فشيئاً أو يعد للأمر حتى يطيقه ولكنه الاستعجال.
وعوداً على موضوع الحج فإن هذا الخطأ قد يكثر في المواسم دون غيره لذهول بعضهم عن التغير الذي طرأ على واقعه، أو على ما في وسعه، والداعية الحكيم هو من راعى هذا الواقع المؤقت وعرف الفرق بينه وبين غيره، ثم انتهج السبيل الأحكم لأجل الإصلاح.
يذكرون عن أبي حازم وأظنه الإمام سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد أنه دخل الطواف ذات يوم فإذا هو بامرأة سافرة عن وجهها تطوف، وقد فتنت بعض الناس بحسن وجهها، فقال: يا هذه ألا تخمرين وجهك? فقالت: يا أبا حازم، إنا من اللواتي يقول فيهن الشاعر:
أماطت قناع الخز عن حر وجهها * * * وأبدت من الخدين برداً مهلهـلا
من اللائي لم يحججن تبغين ريبة * * * ولكن ليقتلن البريء المغـفـلا
وترمي بعينيها القلوب إذا بـدت * * * لها نظر لم يخط للحي مقـتـلا
فقال أبو حازم: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار.
فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، وهو من شيوخ أبي حازم، فقال: رحم الله أبا حازم! لو كان من عباد كذا وسمى بلداً (العراق)، لقال لها: اغربي يا عدوة الله! ولكنه ظرف نساك الحجاز.
وظني أن تلك المرأة قد ارعوت، وإن لم ترعوي فقد سطر لنا هذا الإمام درساً في فقه الواقع، وتقدير ما في الوسع دون اندفاع.
ونحو هذا ما يذكر عن صلة ابن أَشيَم من أمر الذي مر عليه وقد أسبل إزاره، فأراد الطلبة أو الناس من حوله أن يأخذوه بألسنتهم، فقال لهم دعوني أكفكموه.
ثم قال مخاطباً الشاب: يا ابن أخي لي إليك حاجة!
قال: وما هي يا عم؟
قال: ترفع إزارك؟
قال: نعم، ونعمة عين.
ثم قال: أهذا كان أمثل أم أخذكم إياه بألسنتكم؟
والشاهد من هذه الأخبار أن الحكمة في الدعوة ولاسيما أيام الحج مطلوبة، ومن جملة الحكمة في تلك المشاعر أن يراعي الداعية أحوال الوافدين من أقطار الأرض، وتباين معارفهم وفهومهم وعاداتهم وما ألفوه، وأن يراعي واقعه الجديد على أرض المناسك، ويعرف الفرق بين ما يسعه فيها تلك الأيام المزدحمة، وما يسعه في غيرها، وما بوسعه هناك في تلك الأيام وما ليس بوسعه، فيدعو إلى ما ينبغي أن يدعو إليه، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
وتلك هي الحكمة، وقد قال - سبحانه -: "يُؤتِي الحِكمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلبَابِ" [البقرة: 269]، جعلني الله وإياك من أهلها، ووفقني وإياك لدعوة من ضل إلى الهدى، والتبصير بنور الله أهل العمى، مع الصبر منهم على الأذى.
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد