زلزال آسيا.. وقفة اعتبار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما قضى وقدر، والشكر له على ما امتن به وتفضل، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين.

وبعد: فإن الله - عز وجل - خلق الخلائق لعبادته، وجعل الحياة الدنيا دار اختبار وابتلاء لينظر كيف يعملون، ((خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً))، ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)).

وإن من جملة الابتلاء الذي عاشه بعض أهل الأرض - وبالأخص أهل جنوب شرقي آسيا - ذلك الزلزال الذي ضرب المحيط الهندي فتجاوزت آثاره غربي القارة حتى بلغت الصومال بإفريقيا، مشرداً أكثر من خمسة ملايين، ومتسبباً في موت زهاء مئة وخمسين ألف* نفس بشرية فضلاً عن غيرها.

ولا شك أن هذا الزلزال آية كونية مرئية تدل على قدرة الله، يخوف الله بها عباده، يتحتم الوقوف معها، وأخذ بعض الدروس والعبر منها، وقد جالت بالنفس خواطر عدة أثناء قراءة أخبار الزلزال والطوفان الناجم عنه، ولعلي أقف اليوم وقفة مع مسألةº ثم إن تسير الأمر وقفت مع مسائل أخرى في مقالات ربما أتيح لجمعها كتاب.

فمن ذلك الوقوف عند قوله تعالى : (( وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً ))

إن الله - عز وجل - يخوف عباده بالآيات السمعية كما قال سبحانه: (( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ))، فيعتبر ويتذكر أولوا الألباب كما قال سبحانه: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلُّ مِّن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الألبَابِ)).

غير أنه تظل فئة من الناس متبلدة الأفهام والإحساس، لا تؤثر فيها الآيات السمعية، بل ما تزداد غير طغيان وبعداً، كما قال سبحانه: (( وَإِذ قُلنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلنَا الرٌّؤيَا الَّتِي أَرَينَاكَ إِلاَّ فِتنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلعُونَةَ فِي القُرآنِ وَنُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُم إِلاَّ طُغيَاناً كَبِيراً )).

ولعل من إمهال الله لفئام من البشر الذين تبلدت أحاسيسهم وفهومهم فلم تخلص إليهم معاني الآيات السمعية المتلوة، ومن رحمة الله بهمº بعثه بالآيات الكونية المرئية المحسوسة، حتى تنبه من لم تكفه الإشارة، وتنغز من لم يفهم العبارة، فإن انصاعوا بعدها تجاوز عنهم، وغفر لهم، وكشف ما بهم، وإن استمرءوا التكذيب ومحادة الرسلº فلم تبق إلاّ النار تذيب تلك الفهوم المتحجرة، وتشوي تلك الجلود الثخينة المتبلدة.

ولهذا جرت سنة الله بإهلاك المكذبين الذين لم تكفهم الآيات السمعية بعد إرسال الآيات الكونية، فإذا لم يعتبروا بهما أهلكهم بعدها أخذاً لهم بذنوبهم، ومن هؤلاء قوم صالح أصحاب الناقة، جادلهم رسولهم بالحجج السمعية، ثم بعث الله لهم آية مشهودة مرئية، فقال الله - عز وجل - حكاية عن نبيهم: (( وَيَا قَومِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُم آيَةً فَذَرُوهَا تَأكُل فِي أَرضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسٌّوهَا بِسُوءٍ, فَيَأخُذَكُم عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, ذَلِكَ وَعدٌ غَيرُ مَكذُوبٍ, )).

ولم يُذكر في القرآن أن الله أنجى قوماً بعد أن رأوا الآية الكونية إلاّ قوم يونس قال الله - تعالى-: (( فلَولاَ كَانَت قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَومَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُوا كَشَفنَا عَنهُم عَذَابَ الخِزيِ فِي الحَيَاةَ الدٌّنيَا وَمَتَّعنَاهُم إِلَى حِينٍ,))، فما أعقلهم من قوم آبوا جميعاً ورجعوا إلى ربهم مذعنين عندما رأوا الآية.

قد يتعجب المرء! ما بال أولئك المكذبين؟ أليست لهم عقول؟ أولا يرون الآيات؟ فما بالهم لا يرعوون ولا يرجعون؟! أيعقل أن يرى فرعون تسع آيات ثم يصر مستكبراً؟ ألا يعقل؟

والجواب: بلى كانت لهم عقول، وكانت لهم حضارة، وكانت لهم علوم، ولكنهم اغتروا بها فاقتصر نظرهم على ظاهر الأمور ولم يتعده إلى مسبباتها وحقائقها وما ورائها، وتأمل معي قول العزيز الحكيم: (( وَيُرِيكُم آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ * أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوا أَكثَرَ مِنهُم وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرضِ فَمَا أَغنَى عَنهُم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ العِلمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَستَهزِؤُون * فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحدَهُ وَكَفَرنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشرِكِينَ * فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إِيمَانُهُم لَمَّا رَأَوا بَأسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَد خَلَت فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ )).

نعم قد سمعوا بالآيات التي نزلت بالأمم كما سمعنا بها، ورأوها كما شهدناها، وعلموا أن الهالكين أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض كما علمنا، وفوق ذلك كله قد جاءتهم الرسل بالبينات كما جاءتنا، ولكن...؟

(( فرحوا بما عندهم من العلم )) فكانت النتيجة الطبيعية: (( وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ))، وعندها استفاقوا: (( فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحدَهُ وَكَفَرنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشرِكِينَ * فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إِيمَانُهُم لَمَّا رَأَوا بَأسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَد خَلَت فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ )).

لقد كانوا يرون الآيات ولكن ما عندهم من العلم قادهم إلى بَطَر الحق، فَمَن أُهلِكوا بالريح غضبت عليهم الطبيعة وفق علومهم! إثر تقلبات جوية، سببتها تخلخلات في الضغط الجوي بفعل تغيرات في السخونة والبرودة، وهكذا تنتهي الآية فلا ينظر عاقل في مسبب الأمر وموقته ومدبره - سبحانه وتعالى -!

كان أحدهم يرى الخسوف فيقول من الطبيعي انعكاس ظل الأرض على القمر! وينسى الذي أوجد هذه الطبيعة بعد أن كوكب الكواكب، وأجراها على ناموس مطردº فلا يتساءل ما باله أمره فاضطرب هنا، ولماذا؟

وإذا أُهلك قوم بالطوفان ورأوا الآية فرحوا بما عندهم من العلم، وقالوا: هزة أرضية ناجمة عن تخلخل للصفائح في قعر المحيط أدى إلى ارتفاع مد البحر، وتننتهي القضية دون نظر إلى من أوجد تلك الصحائف وأرساها، وجعل بها صدوعاً في ذلك المكان، ودون اعتناء بأمر من أمر تلك الصحائف أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت! فإذا تساءلت من المسبب لتلك الأسباب يخرس متفلسفة كل عصر، وينطق العجاج من عاصر الجاهلية الأولى ثم أدرك الإسلام:

الحمد لله الذي استَقَـلَّت بإذنه السمـاءُ واطمـأنت بإذنه الأرض فما تَعَنَّـت، أوَحَّى لها القرارَ فاستقرت، وشَدَّها بالراسيات الثُبَّت، رَبٌّ العبادِ والبـلادِ القُنَّت.

لقد رأى فرعون طوفان النهر أو البحر أحد تسع آيات ذكرت في القرآن فلم يعتبرها آية، بل ثورة كونية! ويرى اليوم بعض الناس طوفان المحيط فيتبع منطق فرعون فلا يراه آية بل هو غدر الطبيعة القاسي!

ويصر على عزو الأمور إلى أسباب تفتقر إلى أخرى لا تنتهي إلاّ عند مسببها، فقد تقرر في ميزان العقول أن كل ما هو جائز الحدوث من نحو هذه العوارض الأرضية من الممكن أن يكون، ومن الممكن ألا يكون، فكونه جائزاً قضى باستواء طرفي الوجود والعدم، فلا يترجح أحد الطرفين فيكون موجوداً أو يكون معدوماً إلاّ بمرجح خارجي ليس بجائز بل واجب تختلف صفاته ونعوته عن ما يدركه البشر من الموجودات الجائزة فلا تجري فيه مقاييسهم.

إن من فرح بما علمه من أسباب كونية، وأصر على قصر تفسير الظواهر الأرضية بهاº فسينتهي به المطاف إلى الحيرة أو الاتكاء على سبب هش لن يجد له مسبباً إلاّ إن أقر بالخالق الرازق المدبر، واعترف بعلمه وقدرته ومشيئته، وعلم أنه لا يحيط به علماً.

وعندها حري به أن يلهج بدعاء الأنبياء: (( سُبحَانَكَ تُبتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤمِنِينَ ))، (( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply