إخواناً وإن لم نتفق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

التعصب المذموم آفة خطيرة تعكّر حياتنا الدعوية، وتفسد العلاقات، وتهدد بالقضاء على آمال الوحدة الإسلامية، فالمتأمل في أحوال الساحة الدعوية يرى كثيراً من مظاهر التمزق والتآكل بين معظم الاتجاهات والتيارات والجماعات، والتي ترجع إلى أسباب متعددة من أخطرها: التعصب المذموم.

ولا تقتصر نتائج التعصب المذموم على حدوث الفرقة والنزاع فحسب بل تتعدى إلى ما هو أخطر، وهو فقدان الهداية بالكتاب والسنة، حيث يحجب الهوى والتعصب المذموم نور الحقيقة عن عقول المتعصبين، ويقتل فيهم روح التواضع والتسامح والذلة على المؤمنين، فتتباغض قلوبهم، وتتحول النقاشات والمحاورات إلى معارك تفوح منها رائحة الهوى والكبر والانتصار للنفس.

والأشد خطراً في التعصب المذموم أن تتحول به الأقوال الفقهية والآراء الاجتهادية من ساحة الفقه إلى ساحة الاقتتال وسفك الدماء، فكم أُهدرت حقوق، واشتعلت فتن، وسُفكت دماء للمسلمين، بسبب التعصب المذموم!

التعصب المذموم آفة خطيرة تعكّر حياتنا الدعوية، وتفسد العلاقات، وتهدد بالقضاء على آمال الوحدة الإسلامية

لكن كيف نتغلب على التعصب المذموم لنكون أكثر تقويماً لأنفسنا لتلتزم آداب الاختلاف الفقهي، وأكثر عدالة مع المسلمين لنحترم حقوق أخوّتهم الدينية، فنكف عنهم ولا نعتدي عليهم؟

الخطوة الأهم والأكبر هي معرفة أسباب هذه الصفة المذمومة، وكيف تنمو داخلنا لتكون في النهاية مسيطرة على العقل، فتمنعه من رؤية الحق، أو تدفعه إلى الظلم.

فالجهل من أسباب التعصب المذموم، كالجهل بأقوال العلماء المختلفة في المسألة، أو بمقاصد الشريعة، أو بالأعذار والرخص الشرعية وأحكام الضرورات، أو بمراتب المنكرات والمخالفات، أو الجهل بتقدير المصالح والمفاسد، ولا يقف خطر الجهل عند هذا الحد، فالجهل بالواقع وأحوال الناس وأعرافهم قد يؤدي إلى الخطأ في تقدير الأحكام واتخاذ القرارات..كل هذا قد يفتح على صاحبه باب التعصب المذموم، لظنه أنه يتمسك بالحق، وهو لا يعرف أنه تمسك ببعض الحق وجهل كثيراً من جوانبه.

ولذا فمن الخير أن يتروّى الإنسان ويتأنى ويتثبت قبل أن يتصرف بناء على مفهومات غير موثقة لديه أو معلومات ناقصة أو أقوال قد يتبين له فيما بعد أن هناك ما هو أرجح منها أو يساويها قوة، أو أن تطبيقها يرتبط بقاعدة المصالح والمفاسد، وليدع أمام نفسه مساحة لاحتمال صحة الاجتهادات والأقوال الأخرى حتى يهديه الله تعالى إلى الحق، وهذا خير من تبني رأي واحد والتعصب له بصورة قبيحة مذمومة، تتجاوز حدود الشرع، ليكتشف في النهاية أنه تعصب لرأي خطأ، ارتكب من أجله أخطاء في معاملة المسلمين قد تصل إلى حد فتنتهم وإيقاع الفرقة بينهم، أو ظلمهم وسفك دمائهم، لا سيما وأن خروج المرء من تعصب مذموم وقع فيه ليس يسيراً على النفس، لأن الاعتراف بالجهل والرجوع عن الخطأ لا يقدر عليه إلا ذوو المروءة والشجاعة والصدق.

وحتى لا يقع أحدنا فريسة للتعصب المذموم فيما لا يعلمه أو لا يتقنه فليأخذ من الدواء الذي وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو سؤال أهل العلم أو ذوي التخصص أو أصحاب الخبرة، قال - عليه الصلاة والسلام -: \"إنما شفاء العي السؤال\"(1)، قال ابن الأثير: \"العيّ: الجهل\"(2).

والهوى له دور كبير في تكوين صفة التعصب المذموم، فقد يعلم بعض المتعصبين تعصباً مذموماً في نفسه أنه على باطل وأن الآخرين على حق، لكنه يصر على رأيه الخطأ لأنه يتوافق مع ميوله، ولا يلقي بالاً للنصح أو الوعظ.

 

والتأثر بالأشخاص والإعجاب بهم سبب آخر من أسباب التعصب الذميم، لا سيما مع الجهل، حيث ينزوي العقل جانباً ليفسح المجال للعاطفة العمياء، ويتبنى الشخص المتعصب أقوال مَن يُعجب بهم مهما تبين له الحق في غيرها.

وإلف العادة مدعاة للتعصب المذموم، ويوجد هذا السبب في بعض العامة، وخصوصاً أصحاب البدع، أكثر من طلاب العلم والمثقفين وغيرهم، حيث يقعون في التعصب المذموم لانحرافات عقدية أو بدع عملية، يصرّون عليها ويتمسكون بها لمجرد أنهم اعتادوها ونشؤوا عليها ووجدوا آباءهم وأجدادهم يعملونها.

 

وإذا كان الإنسان في حال تعصبه المذموم تخفى عليه نفسه أحياناً، فإن هناك أمارات تكشف له حاله، وعلامات يعرف بها إن كان تعصبه مذموماً أو محموداً:

أول علامات التعصب المذموم ضيق صدره بآراء الآخرين، والإعراض عن سماعها، والنظر فيها، ولو كان تعصبه لحق يعلمه ويثق به لما ضاق بالآخرين، وتأفف من سماع آرائهم، لأن صاحب الحق لا يخشى من الجدال والحوار، بخلاف المتعصب للباطل.

 

ومن علامات التعصب المذموم أن يسعى صاحبه للتشهير بالمخالفين له ولآرائه دون سبب مشروع، أو حجة واضحة، لذا يسعى للبحث عن سقطة هنا أو هناك لمخالفيه، فيذيعها بين الناس ويضخمها، في الوقت الذي ينسى فيه أو يتناسى فضلهم وخيرهم، ومما يدل على ذلك أنه يبحث عن أخطاء مخالفيه في غير موضوع الخلاف بينه وبينهم، فتجده يتهمهم في أنسابهم، أو سيرتهم، أو أعراضهم ويترك موضوع الخلاف أو النقاش.

ومن علامات التعصب المذموم الاستهانة بحقوق الأخوّة الإسلامية، تلك الأخوّة التي يشمل سياجها جميع المسلمين على ما فيهم من نقص أو خطأ أو تقصير، فالخطأ أو التقصير لا يُخرج المسلم من نطاق أخوّة الإسلام، ولا يسقط حقوقه الشرعية إلا في نطاق حدود الشرع من إنكار أو تعزير أو حد أو عقوبة شرعية، فيأتي هذا المتعصب فيهدم بتعصبه المذموم بناء الأخوّة الإسلامية، حتى تراه يعتدي على المسلمين بالقول أو الفعل، ويتكلم بظلم في إخوانه المسلمين بما قد يتحاشى لسانه أن يقوله في الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم!

وتجاوز الحدود الشرعية في التعصب للحق قد يحوِّله إلى تعصب مذموم، فمع أن النقد الموضوعي والتنبيه على الأخطاء والتحذير من المخالفات أمر مطلوب ومهم، فإن هناك من يتعدى أدب النقد والنصح، مع أنه قد يكون محقاً، حيث بتجاوز حدود الشرع في تعصبه للحق، في أسلوب التبليغ أو النصح، أو في التطبيق، أو في الإنكار على المخالفين، حتى يفسد أكثر مما يصلح، كمن يدعو الناس إلى سنّة ثابتة غير واجبة، لكنّه يجعلها أساساً يصنّف الناس عليها، ويفرّق في المعاملة بينهم بسببها، أو كمن يدعو إلى اتباع منهجه في الدعوة لكنه يتعصب له إلى درجة تسفيه المناهج الدعوية الأخرى حتى إن كانت صحيحة وسليمة من البدع أو المخالفات.

الصادقون المخلصون لا تراهم إلا باحثين عن الحق، مجتهدين في الوصول إليه، بان الحق عن طريقهم أو عن طريق غيرهم، كان معهم أو مع غيرهم، لأنهم يتخذون ذلك عبادة، وليس لهم في ذلك مآرب أخرى، ولذا تجد تعصبهم للحق تعصباً محموداً منضبطاً بأحكام الشريعة وآدابها، محافظاً على أواصر الأخوّة وحقوقها، وخذ مثلاً لهؤلاء الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - حين مدح إسحاق بن راهويه، مع أنه كان يختلف معه في عدد من المسائل، فقال: \"لم يعبر هذا الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً\".

الشافعي: \"ما كلّمتُ أحداً إلا أحببتُ أن يُوفق ويُسدد ويُعان، وما كلمتُ أحداً قط إلا ولم أبال بيّن الله الحق على لساني أو لسانه\"

وكان الشافعي - رحمه الله تعالى - يقول: \"ما كلّمتُ أحداً إلا أحببتُ أن يُوفق ويُسدد ويُعان، وما كلمتُ أحداً قط إلا ولم أبال بيّن الله الحق على لساني أو لسانه\"، وانظر إلى حرصه على بقاء روابط الأخوة بينه وبين من يخالفه، حيث قال يونس الصدفي - رحمه الله - يمتدح الشافعي: \"ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق! \".

 

------

(1) سنن أبي داود، كتاب الطهارة، رقم 336، وهو جزء من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشده في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك فقال: \" قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر\" أو \" يعصب\" - شك موسى- \" على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده\". قال الألباني: (حسن دون قوله: إنما كان يكفيه).

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام ابن الأثير.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply