بسم الله الرحمن الرحيم
هذا فارس ترجّل في زمن الذل والهوان، في زمن كثرت فيه الأنانية البغيضة، والتكالب على الدنيا حلالها وحرامها، وانكباب الخاصة على المُتع الزائلة، فضلاً عن العامة الذين اتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله - عز وجل -، فسلّط الله عليهم الأعداء يسومونهم سوء العذاب بُكرة وعشياً، ومع هذا لا يزالون يكدحون في التقرّب إلى أولياء الشيطان من حكّام وطواغيت وأعوان ظَلَمة، فهم مع هذا الذل والهوان الخارجي ذلّوا أضعافه فيما بينهم، ترى الواحد منهم ينظر إليك وعيناه تدوران في رأسه كأن به مس من الجن ولا شيء به، إلاّ استمرار المهانة للطواغيت من الإنس والجن وعبدة الشهوات.
في ظل هذا الوضع السائد، انتفض فارسنا من بين أكوام المهانة يشمخ بعزة المؤمن قائلاً: لا للعبودية..لا لطواغيت الأرض..لا لا يا قيود الأرض لن تمنعيني من أن أعتز بديني، نظر حوله، فإذا جيران متدابرون، وإخوة يتشاحنون، وأهل البلد الواحد لا يعرف بعضهم بعضاً.
بكل تأكيد لاحظ التهاون في فرائض الله - عز وجل -، فلا ميراث يُقسّم إلاّ على الذكور، والصلوات الخمس لا تُقام في المساجد وإذا أُقيمت فعلى سبيل اللهو الذي لا يعود بالفائدة منها، التنابز بالألقاب على قدم وساق، الغيبة، النميمة، قطيعة رحم منتشرة على قدم وساق، انحطاط الشباب من حولي، لا يفكرون إلاّ بشهواتهم، فهم إن عملوا للشهوات وإن تعلموا العلم وحصلوا على الشهادات، سهراتهم على الإذاعات المرئية، وعلى ملاعب برشلونة وإشبيلية.
إنه اختصار شديد، مجتمع محلّي يعيش الضياع بكل صورهِ وأشكاله، فما كان من فارسنا إلاّ أن انتخى وأزاح عن نفسه أغلال الهوى وحبال الوهن من حب الدنيا وكراهية الموت.
قد عمد إلى التفكير ماذا يعمل، أيبدأ مع زملائه في الجامعة أم من بيته أم من مجتمعه!! وبعد الأخذ والرد في الأفكار والخطط، قرر الانطلاقة من نفسه، ليحصنها بالقرآن والسنة فهما حبل النجاة، قام بوضع خطة عملية يُلزِم نفسه بها بكل حزم وصرامة.. فقرر المحافظة على الصلوات الخمس حيث ينادي بهن، والإتيان بكل مستحبات الصلاة وفضائلها، وقيام الليل والاستغفار، والإكثار من صيام النفل ليربي نفسه على تحمّل المشاق، فلن ينتصر على غيره مَن عجز عن الإنتصار على نفسه.
وأيضاً وضع ترتيباً عاماً لتنظيم وقته ليجمع ما بين دراسته الجامعية وما بين همته الدعوية، لإنقاذ الأمة من وحل الدمار والهلاك، فهو يرى نفسه على ثغرة من ثغرات الإسلام، فيرى الإتيان من قِبَلِه خيانة عظمى.
وصلة للرحم والجيران والأهل كان لها النصيب الوافر، أما النصح والإرشاد فكان حديثه اليومي.
بعد ذلك قرر الانطلاق إلى كيان بيته من أب وأم وأخ وأُخت نُصحاً وتوجيهاً، لما يعود بالنفع العاجل والآجل، فكانوا يستجيبون له أحياناً ويخالفونه أخرى، مع أن بعضهم كان يسخر منه قائلاً: إنك تؤذن في غير وقت.. عِش عهدك وتمتّع بحياتك، فما كان ليثنيه عن عزمه، واستقر على دعوته لأهله ومعارفه وأصدقائه إلى أن منَّ الله عليه بهدايتهم إلى طريق الرشاد، فقويت عزيمته، وكان هذا النجاح حافزاً له للانطلاق إلى دائرة أوسع، إلى بلدته كاملة.. نعم، قام بعدة جلسات متكررة على مدار الأسبوع وحسب المناخ الملائم لهم، فمرة يجتمعون عقب صلاة العصر، وأخرى يجتمعون عقب صلاة المغرب، فهو يُحسن استغلال المناسبات بكل دقة لصالح الدعوة إلى الله - تعالى -.
فكثر حوله الجمع، لاستماع ما يُلقيه عليهم، فازداد الوعي عندهم لما يجري حولهم، وازدادت عندهم حصيلة العلم النافع فأول ما قام به هو دعوة الناس إلى الإسلام الخالي من الشوائب والشركيات بعيداً عن المغالاة، وتقديس الأشخاص، فحرص على ربط الناس بالله - جل وعلا - دعاءً وخشوعاً وصلاة وذكراً وتوكٌّلاً ورجاءً وخوفاً، فأصبح يُشار إليه بالبنان ويُقال في المسجد الفلاني شاب صالح، فأخذت الجموع ترتحل إليه من نواحي القرية لحضور وسماع ما يلقيه عليهم من خطب ومواعظ.
وكما هو الحال فهناك أعداء له، خصوصاً كل الذين بقوا على النفاق، أخذوا يلمزونه ويثنون الناس عن دعوته، لمّا أيقنوا أن الأمر يخالف مبتغاهم في هذه الحياة، فهم مسلمون بالشكل والصورة، ثيابهم قصيرة ولحاهم طويلة، ومسابحهم ملونة وجميلة، يسكنون شاهق العمارات ويركبون أرقى السيارات ويدّعون أنهم على الطريقة المثلى وأهدى من هذا وأمثاله ألف مرة.. وأن هذا حتى لم يجرب الحياة ولم يسبر غورها فباءت كل محاولاتهم بالفشل عند من آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - عليه السلام - نبياً ورسولاً.
فما بقي أمامهم إلاّ الوشاية به عند أسيادهم ممن تربوا في أحضانهم، ورضعوا من أثدائهم الخديعة لأهل الإيمان والمكر بهم والتلبيس عليهم، وعلم المجرمون بما يقوم به هذا الفارس في هذه البلدة الوادعة، فحوّل أغلب أهلها إلى دعاة إلى الله وإلى مشاعل إيمانية متقدة، حوّلهم إلى غاية أخرى عمّا درجوا عليه وأهلهم منذ قديم الزمان، إنها دعوة الأنبياء والمرسلين التي تُحارب من كل مجرم وطاغية، وصاحب لغط وهذيان، فقاموا بتسليمه كتاباً خطياً لمراجعتهم للاستجواب، فذهب إليهم في حينه وكانوا له مهدّدين، ما لك والناس؟؟ صلّ فرضك وولّ دربك، أنت شاب في مقتبل العمر، لا يسعك هذا الأمر.. فكّر في مصلحتك الشخصية.........................
فما كان منه إلاً أن نطق من فوره قائلاً: أنتم ماذا تعبدون؟؟ قالوا له: وما لك ولعبادتنا، كل يعبد ما يراه مناسباً!!
قال حسناً.. أنتم تعبدون ما ترونه مناسباً، ونحن نعبد إلهاً واحداً لا شريك له.
قالوا: كم مرة تصلي في اليوم؟ قلت: خمس صلوات في اليوم والليلة!! قالوا: أكُلٌّها في المسجد!! قلت: نعم، قالوا: فأنت إرهابي مجرم، قال: أيكون إرهابي من يلتزم بشرع ربه ومولاه، قالوا: أنت لا تحبنا، قال: وكيف عرفتم ذلك؟؟ قالوا: دينك هكذا يقول، قال: ديني يدعوني إلى حب من يحبه ومعاداة من يعاديه، فإن أنتم أحببتم ديني ودخلتم فيه فأنا أول من يحبكم.
فردوا عليه مؤنّبين: أسكت ولا تتكلم، وإن عدت لمثل هذا سيكون لنا معك شأن آخر.
قال لهم: افعلوا ما بدا لكم، فلن ترهبوا إلاّ أنفسكم، وأنتم الأخسرون أعمالاً.
وعاد إلى مسجده يعمل مجتهداً أضعافاً مضاعفة عما كان عليه سابقاً، ليُريَ أهل الخور والضعف الذين ما إن يُلوَّح لهم بالعصا من بعيد فإذا بهم على أعقابهم ناكصين، جبناء مهازيل.
بالأمس كانوا من دعاة الحق، واليوم يسارعون إلى الذين مردوا على النفاق ليتدثروا بدثارهم، فراحوا يتنكرون لما كانوا بالأمس يعدونه جهاداً ومدافعة عن الحق، فاليوم هم من دعاة السماحة والمؤاخاة بين المنافق المجرم والمؤمن الموحِّد
فأخذوا ينأون بأنفسهم عن كل ما يمت إلى الإسلام بصلة في الحقيقة، ولم يبق لديهم إلاّ الشكليات الباهتة، فهم يظنون أن الناس لم يعرفوا خباياهم، بل كما اخبر ربنا \" ولتعرفنهم في لحن القول \"، فهمهم الهمز والغمز والترصد بالمؤمنين، إنها الخيبة والخسارة.
يا دعاة الحق بالأمس.. أنتم اليوم دعاة مهادنة ومداهنة وتملق إلى أعوان الظلمة، قاتلكم الله تُظهرون التخشٌّع وقلوبكم قلوب ذئاب!!
يا أصحاب اللحى والثياب القصيرة.. ليس الإسلام شكلاً فحسب.. أحسبتم أن الجنة لكم بدهائكم وكيدكم ومكركم.. قل موتوا بغيظكم أيها الساقطون، ارجعوا إلى فتات الموائد.. أتخادعون الله أم الذين آمنوا، كلاّ والله لا تخدعون إلاّ أنفسكم.
بكل تأكيد.. هؤلاء هم أهل مودة وقربى لدى الملاحدة المجرمين وطواغيت هذا العصر، فلا يخفى على أحد أنهم أشد عداوة للذين آمنوا من اليهود والنصارى \" إن المنافقين في الدّرَك الأسفل من النار \".
ولنرى فارسنا وموقفه الشجاع، فعندما يظهر الرجال بصولاتهم وعزمهم الأبِيِّ تتوارى الخفافيش نهاراً وتعود إلى جحورها، ولا تظهر إلاّ في الظلام \" فمثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث \"، وذلك بانقلابهم وانسلاخهم عن آيات الله بعد معرفتها.. ألا فليتقوا الله هؤلاء المجرمون وليعودوا إلى رشدهم.
وكل هذا لا يثبط من عزم فارسنا شيئاً فما كيدهم إلاّ كيد شيطان.. والله - سبحانه وتعالى - يقول: \" إن كيد الشيطان كان ضعيفاً \".
ماذا يملك هؤلاء وغيرهم في مُلك الله؟!! لا شيء بالتأكيد، فالذي يملك النفع والضر هو الله وحده لا شريك له، وإذا كان الأمر هكذا فلِم الخوف والقلق!! قاموا كعادتهم بالوشاية ثانية إلى أسيادهم، وقام هؤلاء بدورهم بزجِّه في السجن الذي يكون للأولياء راحة بال وهدوء وسكينة، وفي السجن التقى مع المظلومين أمثاله، فقام بتحريك الهمة في نفوسهم وحثهم على الصبر إلى أن يأذن الله بالفرج، فالسجن هو المجال الأرحب للود والصفاء، حيث لا منغصات ولا مشاحنات ولا دنايا، لا يوجد لهم أي صارف عن الحق، فأعجب به السجناء وجعلوه إماماً لهم.
ولما علم به المجرمون قاموا بطرده إلى سجن آخر.. وعمل معه كما عمل في الأول، وبعدها حُوّل إلى سجن انفرادي، فقوي يقينه وصلته بالله - تعالى -.
وباءت كل المحاولات بالفشل، فقرروا إبعاده إلى خارج بلده وإلى مناطق بعيدة بحيث أنه لا يقدر على جلب النفع لنفسه أو الإضرار بهم.. وأُبعد وصبر، ثم جعل يُكوّن هناك أسس أقوى وأشد من ذي قبل.. فالمؤمن يُختبر بالمحن.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد