الدعوة الإسلامية أمام نسوة يوسف وإخوان لوط


 

بسم الله الرحمن الرحيم

للدعوة الإسلامية واجهات كثيرة من العمل، وكتب عليها في هذا الزمان أن تعيد بناء كل شيء، وتعيد التذكير بكل شيء، لكنها في هذه الغمرة من الأبواب المفتوحة والمعارك المتتالية ترتبك عندها الأولويات، وتزيغ النظرات، فتنسحب من بعض الميادين غفلة ونسياناً، أو تقديراً منها أنها غير ذات أهمية، أو إحجاماً وخضوعاً لبعض المشاعر والتقاليد غير الشرعية.

ومن أكبر ميادين المعارك في هذا العصر ما أصبح يعرف بالإباحية الشاملة، وهذه ساحة حرب حقيقية بين الفضيلة والرذيلة، غيبتها حركات الدعوة الإسلامية ضمن بعض الأبعاد الغائبة في اهتماماتها وأعمالها، وفي الوقت الذي تتدافع فيه الدعوة في ساحات العمل السياسي، تستحوذ الإباحية الجنسية على كل المجالات بما فيها المجال السياسي، وتحاصر الدعوة والدعاة من كل جانب، فهل تدرك الدعوة الإسلامية أي خصم يواجهها؟ وماذا أعدت من برامج وخطط لفك الحصار على الصعيد المحلي والعالمي؟ وهل تدرك أن الخصم قد غير سلاح الشبهة بسلاح الشهوة من أكثر من ثلاثة عقود؟

 

تجارة الميل العظيم:

منذ أكثر من ثلاثين سنة بدأت تشهد البشرية تحولاً كبيراً في سلوكها الجنسي بالتحرر من القيود الأخلاقية والاجتماعية، وسمي هذا التحول منذ ذلك بـ\"الثورة الجنسية\"، وهذا الاسم عنوان كتاب ألفه اليهودي النمساوي ويلهيلم رايخ، ذهب فيه إلى أن السلوك الجنسي المتوارث ليس هو سلوكنا الأصلي، بل هو سلوك مكتسب من الأسرة والمجتمع، وأنه آن الأوان لإنهاء هذا الأمر، والتحرر من كل ذلك، ونتيجة دعاية ذكية، وتحالف بين هذه الدعوة وظهور المذهبية الشيوعية واليساريةº عرفت دعوة الكتاب انتشاراً واسعاً بين الشباب في نهاية ستينيات القرن الماضي، فتصاعدت \"الثورة الجنسية\" في كل أقطار الغرب.

ورغم تخلي الاتحاد السوفييتي عن قوانين وإجراءات تسهيل التحرر الجنسي بعد أن رأى آثارها المدمرة السريعة في أوساط الشباب والأسرة، إلا أن الموجة مضت في طريقها مكتسحة كل شيء خاصة بعد أن وجدت محترفي وسماسرة تجارة الميل العظيم.

تجار الميل العظيم هم شيدوا بإحكام شبكة عالمية من النخاسة الجديدة التي تنظم الدعارة المقننة والوحشية، وتدير مصانع الشهوة الجنسية وأسواقها الكبرى والصغرى، ومعارضها ومؤتمراتها، وآلاتها الإعلامية الضخمة، وأدواتها الثقافية والفنية، بل ومؤسساتها القانونية الدولية.

ومنذ أكثر من ثلاثين سنة والمجتمعات الإنسانية تشهد حرباً حقيقية بسلاح القصف الجنسي المتواصل ليل نهار، وتشهد عولمة ضخمة لبورصة دولية للمتاجرة في النساء والرجال والأطفال، وإغراق كل جوانب النشاط الإنساني بسلع جنسية متنوعة ومتجددة، من بيع الملابس والسيارات والطائرات إلى الإنتاج الإعلامي لكل دول العالم، مروراً بالسياحة والرياضة ونظم التربية، والتعليم والتشريع.

وشملت تجارة الميل العظيم الرجال والنساء والولدان، أي الدعارة التقليدية لكن بطرق حديثة، ولكن زيد عليها اليوم تجارة الشذوذ الجنسي، وصناعة وتجارة الغلمانيةº أي الاستغلال الجنسي للأطفال، فماذا بقي بعد ذلك.

حسب إحصائيات خبراء غربيين وهيئات دولية يصل رقم المعاملات المالية لتجارة الميل العظيم إلى حوالي 60 مليار يورو، في سنة 1989 قدرت هيئة الأمم المتحدة أن 4 ملايين شخص يدورون سنوياً في طاحونة النخاسة الدولية، وذلك ما يدر على التجار الفجار ما بين 5 و7 مليار دولار أمريكي، وحسب الأمم المتحدة أيضاً وصل عدد النساء والأطفال ضحايا التجارة الخبيثة والاستغلال الجنسي إلى أكثر من 30 مليون ضحية، وهذا دون الحديث عن سوق البورنوغرافيا أي معارض الصور الجنسية، والكاتالوغات الخاصة.

 

نسوة يوسف:

يحدثنا القرآن الكريم عن نموذجين للإباحية الطاغية المستبدة:

نموذج امرأة العزيز، ونسوة يوسف - عليه السلام -، ونموذج قوم لوط - عليه السلام -.

في قصة يوسف - عليه السلام - يتحالف سلاح المراودة الفردية والجماعية مع سلاح الإكراه البدني لنزع لباس العفة عن النبي يوسف - عليه السلام -، وبشكل درامي متصاعد يصل الأمر إلى التهديد، والمصادرة بعد سقوط خيار الإغراء والإغواء، لتنتهي فصول الصراع إلى اعتراف الجهات المعتدية بالعدوان، والإقرار بالمراودة، وانتصار كبير للعفة، وتسليم زمام الحكم لها لتعميم الفضيلة، وحل الأزمات، وتقديم الخدمات.

ألا نعيش اليوم نحن بني آدم جميعاً تحت سطوة المراودة الجماعية في كل لحظة وحين؟ ألا نعاني من عدوان إباحي شامل يسحقنا صباح مساء، ويسبي منا نساء ورجالاً وأطفالاً، ويترك فينا الهلكى، والجرحى، والمرضى، والحمقى، والمعطوبين؟ ألا تبلغ الصور واللقطات الجنسية العنيفة الموجهة للجميع من دون استثناء مئات الملايين كل يوم؟ ألا تتعالى الأصوات في الغرب نفسه أن أبعدوا عنا هذا الظلم الكبير؟ ألسنا أمام نسوة المدينة حيثما حللنا وارتحلنا من دون أن نرى يوسف؟ وأين هو يوسف هذا الزمان؟

 

إخوان لوط:

النموذج الإباحي الثاني الذي عرضه علينا القرآن الكريم هو نموذج قوم لوط المؤسسين الأوائل لفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، ومن يتابع مراحل ظهور الشذوذ الجنسي واستعلاءه ووصوله إلى مرحلة الإكراه، والتهديد للسلوك الجنسي الطبيعي في قصة لوط - عليه السلام - مع قومه، ويقارنها بتطور حركة الشذوذ الجنسي العالمية الحاليةº سوف يتعجب من تشابه المراحل، وتطابقها تطابقاً دقيقاً.

لقد وصف القرآن الكريم قوم لوط بالإسراف فقال: ((وَلُوطاً إِذ قَالَ لِقَومِهِ أَتَأتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِن أَحَدٍ, مِنَ العَالَمِينَ إِنَّكُم لَتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهوَةً مِن دُونِ النِّسَاءِ بَل أَنتُم قَومٌ مُسرِفُونَ))(الأعراف:80، 81) قال ابن عاشور (صاحب التحرير والتنوير): \"وصفهم بالإسراف بطريق الجملة الاسمية الدالة على الثبات، أي أنتم قوم تمكن منهم الإسراف في الشهوات، فلذلك اشتهوا شهوة غريبة لما سئموا الشهوات المعتادة، وهذه شنشنة الاسترسال في الشهوات حتى يصبح المرء لا يشفي شهوته شيء\" التحرير والتنوير/الدار التونسية للنشر/الجزء 8و9/ ص 232.

وفي سورة الشعراء وصفهم القرآن الكريم بالعدوان ((بَل أَنتُم قَومٌ عَادُونَ))(الشعراء: من الآية166)، وفي سورة النمل وصفهم بالتواطؤ الاجتماعي والدعوة العلنية ((أَتَأتُونَ الفَاحِشَةَ وَأَنتُم تُبصِرُونَ))(النمل: من الآية54)، كما وصفهم أيضاً بالجهالة ((بَل أَنتُم قَومٌ تَجهَلُونَ))(النمل: من الآية55)، وفي سورة العنكبوت وصفهم بقطع السبيل، وتنظيم نادي جماعي للشذوذ ((أَإِنَّكُم لَتَأتُونَ الرِّجَالَ وَتَقطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ))(العنكبوت: من الآية29)، ثم تطور رد الفعل عند آباء الشذوذ الجنسي حتى وصل إلى التهديد بالتصفية الجسدية ((لَئِن لَم تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخرَجِينَ))(الشعراء: من الآية167)، أو النفي والإخراج ((أَخرِجُوا آلَ لُوطٍ, مِن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))(النمل: من الآية56)، وأخيراً إلى التهديد في عقر دار النبوة ((وَلَقَد رَاوَدُوهُ عَن ضَيفِهِ))(القمر: من الآية37)، وقالوا له: ((وَإِنَّكَ لَتَعلَمُ مَا نُرِيدُ))(هود: من الآية79)، أما نهاية هذا التدافع المثير المدهش فهي معروفة.

وكذلك حدث لرجال ونساء من هذا الزمان عندما شبعوا حتى سئموا من الشهوات الجنسية المعتادة المعروضة في كل طريق، فبحثوا عن شهوات جديدة غير معتادة، أو انحرفوا إلى الشذوذ والسحاق كفعل ورد فعل تجاه حركة النسوانية المتطرفة، ثم تحول الحال إلى عدوان جنسي، وإلى حركة عالمية علنية منظمة، وأخيراً إلى تهديد للفطرة الجنسية المعتادة بالنفي والإخراج والإكراه، وأحياناً إلى التصفية الجسدية.

وتحظى حركة الشذوذ الحالية بحماية قانونية دولية، وتنظيم دولي محكم، وتسارعت في السنوات الأخيرة الاعترافات القانونية بهم، وتطبيع تشريعي واجتماعي في عدة دول غربية/ ولا يتوقف التنظيم الدولي للشواذ والسحاقيات عند هذا، بل يشن الغارات والحملات على بعض دول العالم الإسلامي، ويتسلل إليها من مسالك متعددة: مسالك إعلامية لا راد لها في زمن الفضائيات والإنترنت، ومسالك ثقافية وفنية وقانونية بل ودبلوماسية وسياسية.

 

مسؤولية الدعوة الإسلامية:

من المسلَّم به أن الدعوة الإسلامية بصحوتها وحركاتها الإسلامية المعاصرة، وطرقها الصوفية النقية، ووزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية وهيئات الدعوة والإرشاد، وعلمائها ومثقفيها هي الوريث الشرعي لدعوات كافة الأنبياء والرسل، وبخاتمية النبوة المحمدية، ورسالة الإسلام الأخيرة، وقد ركزت الدعوة الإسلامية المعاصرة كثيراً على جوانب وأعمال هي في غاية الأهمية، خاصة منها العمل السياسي المحلي والدولي، لكنها أغفلت جوانب أخرى لا تقل أهمية وخطورة وربما فاقتها ومنها هذا الجانب الغائب ألا وهو حركة الإباحية الجنسية العالمية، وانتشارها المريع في كافة أقطار المعمورة، مما يجعل الدعوة الإسلامية أول طرف يتوجه إليه التهديد، وأول طرف يتحمل المسؤولية، فهل تقوم هذه الدعوة بما قام به النبيان الكريمان - عليهما السلام - فتكون هي يوسف هذا الزمان، ولوط هذا الوقت.

ويجب أن ننتبه إلى أن هذه الحركة الإباحية الدولية تحولت إلى سلاح سياسي ضد العالم كله - وخاصة العالم الإسلامي -، وبصفة أخص الدعوة الإسلامية، وصار لسان حالها يقول: ((وَلَئِن لَم يَفعَل مَا آمُرُهُ لَيُسجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ))(يوسف: من الآية32)، ويقول: ((لَئِن لَم تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخرَجِينَ))(الشعراء: من الآية167).

ولست أدري لماذا تعرض حركات الدعوة الإسلامية عن مواجهة هذا الميل العظيم، ولا تجعله ضمن أولوياتها، وإذا اقتنعت به وقدرت خطورته فلماذا لا تتحرك عاجلاً وفق خطة تكون على القدر نفسه أو أكبر من التنظيم والإحكام والعالمية، وينبغي ألا تترد الدعوة الإسلامية في تحمل مسؤوليتها الجسيمة، خاصة وأنها ستكون مؤيدة مسددة من الله العلي الكبير، ومن حركات ومنظمات وجمعيات غربية مسيحية ويهودية وإنسانية تكافح وسط لجج الشهوة الجنسية الإباحية القاتلة.

فليس الغرب كله مع تجار الميل العظيم، بل يوجد فيه نور الفطرة يكافح سدول الليل الطويل، ويبحث عن يد ممدودة تساعده، ففي الولايات المتحدة نفسها التي تشن حروب الغزو والاحتلال ضدنا حركة صاعدة للعفة والإخلاص في الحياة الزوجية تحظى بالتمويل والتأييد من كل الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين، وفي أوروبا تجمع كبير لعدة جمعيات لمقاومة الاستغلال الجنسي للمرأة والأطفال، والشذوذ الجنسي، كما أن الكنيسة الكاثوليكية جعلت هذا الأمر من أولى أولوياتها، فكيف لا تكون الدعوة الإسلامية هي الرائد والمساعد، وهي المعنية الأولى بهذه المعركة؟

في المقاطع الأولى من سورة النساء حديث مسهب ومفصل عن مؤسسة الأسرة وأصولها وأحكامها، وسبل بنائها وحمايتها، وطرق تصريف الشهوة التناسلية فيها، والأخطار المحدقة بها، وفي قلب هذه القضايا يذكرنا القرآن الكريم بالمعركة وحقيقتها وأطرافها، وطريق النصر فيها فيقول: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيكُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً))(النساء:26 - 28). فهما إذن إرادتان: إرادة الله، وإرادة أتباع الشهوات وتجار الميل العظيم، ومحال أن تغلب إرادة حقيرة إرادة من بيده ملكوت كل شيء.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply