منذ أن وقعت جريمة نشر الرسوم البذيئة في صحيفة \" يلاندز بوستين \" الدانماركية في 30 سبتمبر 2005 والثورة الغاضبة تجتاح ربوع البلاد في أركان المعمورة الأربعة، فلا يوجد مكان يعيش فيه مسلمون إلا وظهرت مظاهرات الغضب عليهم.. وهذا بدهي.. وقد بدأت هذه الجريمة بمقال نشره الكاتب الدانماركى المجرم \" كار بلوتجين \" يشكو فيه من امتناع الرسامين عن تنفيذ طلبه برسم رسوم للنبي الكريم ـ - عليه الصلاة والسلام - ـ في كتاب كتبه الأثيم عن نبينا الخاتم - عليه الصلاة والسلام -.. وعلقت الجريدة على هذا الامتناع بأنه خوف من المسلمين غير مبرر، وأنه نكوص عن حرية التعبير، وطلبت من الرسامين رسوما تصور الرسول - عليه الصلاة والسلام - كما يتصورونه، لتأكيد الحرية وإعلان رفضهم لضغوط المسلمين.
تاريخ قديم وإساءات متكررة:
وقد سبق ظهور الصور العنصرية ضد المسلمين والرسول الكريم \" كشخصية محورية \" في القرون الوسطى، وسبقها خطاب ثابت ومنظم يستهدف تشويه الرسول كسبيل رئيسي لتشويه المسلمين ـ راجع طارق الكحلاوي القدس العربي 18/2/2006 م ـ وبلغ هذا الخطاب خلال القرن الثاني عشر الميلادي نقلة نوعية خاصة من حيث طبيعة الاتهامات وانتظامها وتحولها إلى صيغ ثابتة يتم ترديدها عبر المجال المسيحي الأوروبي. ففي هذه الفترة كتبت أربع سير للرسول - عليه الصلاة والسلام - باللغة اللاتينية من قبل قساوسة ورهبان لقيت رواجاً كبيراً في الأوساط المدرسية المسيحية ساهمت في ترسيخ أفكار مشوهة عبر سلسلة من القصص المختلقة في التراث الفلكلوري المسيحي تركز علي إلصاق أبشع الصفات بالرسول الكريم.
ومن الواضح للباحثين أن هذه الصورة المكتوبة كانت المصدر الرئيسي للصورة المرئية التي ستنشأ فيما بعد، ووفرت الصورة المرسومة وسيطا مناسبا يقتصد مفردات النص، وأصبح من المناسب تركز صورة الإسلام والمسلمين في صورة شخص الرسول نفسه التي شوهتها النصوص المختلقة. وهكذا ظهرت أول الصور من هذا النوع في القرن الثاني عشر الميلادي ضمن مؤلفات متأثرة بالسير الأربع التأسيسية ومن هذه الصور المبكرة صورة لشخص يشبه وحشا وذا لحية طويلة وردت في مخطوط لاتيني بعنوان (في ظهور محمد) لراهــــب فرنسي من دير \" كلونى \" محفوظ في مكتبة الأرسنال في باريس برقم 1162.
صورة أخري لقيت رواجا من حيث استنادها لروايات فلكلورية مسيحية وتهتم خاصة بقصة وفاة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وهى تقدم صورة بشعة يعف اللسان والقلم عن الإشارة إليها، وذلك في مخطوط يرجع إلى أواسط القرن الثالث عشر الميلادي (محفوظ في مكتبة معهد كوربوس كريستي في كامبردج تحت رقم 26).
نوع آخر من الصور ذات الطابع العنصري في القرون الوسطى تظهر هذه الصورة في مخطوط تاريخي يرجع لأواسط القرن الثالث عشر الميلادي لراهب فرنسي باسم \" بيير دى بواتييه \" المخطوط محفوظ في مكتبة معهد ايتون في وندسور (تحت رقم96). ومع تكثف الحملات الصليبية وما رافقها من تصاعد لحملات التشويه أصبحت صورة الرسول الكريم مرافقة لصورة صلاح الدين الأيوبي، وأصبح كلاهما يمثلان المسلمين والإسلام ذاته في الذهنية الغربية. وعلي سبيل المثال هناك مخطوط يرجع لسنة 1242 ميلادي لمؤلف باسم \" أليكسندر لايكس \" يصور كلا من الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - وصلاح الدين بصورة بشعة \"يباركان\" مجموعة من المسلمين في مواجهة مجموعة من المسيحيين أمام الصليب. ولكن لم تكن صورة الرسول \"المشوهة\" وحدها المستعملة في تصوير المسلمين، بل وقع بشكل مواز استعمال صورة لشخص أو شخوص غير محددة وذات ملامح شيطانية لتختزل الصورة الجمعية للمسلمين، وهذه الصبغة تحديدا أي استعمال القدرة الاختزالية للصورة لتبليغ فكرة عنصرية وتعميمية هي ما شاهدناه في الصور الكاريكاتورية المنشورة مؤخرا في يلاندز بوستين.
الموقف إذن ليس جديدا، ولا يحمل موقفا مغايرا لما حملته الثقافة الغربية \" المسيحية \" من كراهية للإسلام طوال عصور تجاورهما، الجديد هو افتضاح الصورة الحقيقة للحضارة العنصرية الغربية أمام الرأي العام الإسلامي المغيب منذ عهود بعيدة من جانب.. ومن جانب آخر الصورة \" المسيسة \" التي تعكس آليات الصراع ليس بين الغرب المسيحي المدعي للعلمانية والحرية وبيننا فحسب، ولكن أيضاً بين المراكز المتصارعة في الغرب المسيحي ذاته.
أحداث ومعان:
ما بين الأمريكيين وتابعيهم، والأوروبيين وتابعيهم نجد الكثير من الاختلافات الظاهرية في الموقف من الجريمة، ولعل قراءة الأحداث وردود الأفعال توضح هذه الصورة.. فبالرغم مما سبق وأن أوضحناه أن الرسوم البذيئة المنشورة أخيرا لم تكن شيئا جديدا على الذهنية العنصرية الغربية بكل مكوناتها \" القروسطية \"، فالقراءة المتأنية ـ على صعوبتها مع الحالة الانفعالية ـ التي تسود عقولنا وقلوبنا جميعا تعطى بعض المؤشرات المهمة الإدراك حتى لا تنجلى سحب هذه المعركة لنجد أنفسنا ومقدساتنا ورموزنا وقودا لمعركة يستفيد منها الأعداء وحدهم بينما ندفع نحن نفقاتها، فالموقف الأمريكي بداية والذي جاء على لسان بوش هو الاستنكار الواضح للإساءة إلى الأديان والمقدسات الدينية.. وهذا غريب.. فكم من التعديات المنهجية مارسها بوش وقواته وقادته على المقدسات والرموز الإسلامية تحديدا وعلى رأسها القرآن المطهر في جوانتانامو وأبو غريب ومعتقلات أفغانستان.. وغيرها وجميعها تستهدف النيل من المقدس الإسلامي، وهو القائل أن الحرب الإجرامية التي يخوضها ضد المسلمين هي حرب صليبية فما الذي تغير؟! ولماذا عاد بموقفه بعد أيام إلى مؤازرة رئيس الوزراء الدانماركي في تصميمه على عدم الاعتذار، وفتح مرة أخرى بوق \" حرية التعبير \" في مواجهة التحركات الغاضبة لشعوب المسلمين؟! وما سر المواقف العنترية لبعض الحكومات (في بلاد عربية وإسلامية) معروفة بالانصياع الكامل للرغبات الأمريكية؟!
هل هي عملية مخابراتية؟!
السيناريو الذي جرت به الأحداث والتوقيت الذي انطلقت فيه يثير هذا السؤال.. ففي إطار الصراع الأوروبي الأمريكي لتحديد الخطوط على خريطة الهيمنة، فتحت أوروبا ملف المعتقلات الأمريكية على الأراضي الأوروبية وعلى مجمل الأرض، وركزت الأضواء على الممارسات التي تنتهك \" حقوق الإنسان، ومقدسات الأسرى \"، في خطة أوروبية لضرب الدعاية الأمريكية ـ أو الادعاء الأمريكي ـ لمخطط الشرق الأوسط الكبير الذي سيجلب الحرية والديموقراطية لشعوب الشرق المقهورة، وقد حركت أمريكا ومخابراتها كل قوى طابورها الخامس وجواسيسها في الشرق والغرب أيضا لوضع هذا المخطط موضع التنفيذ، وقد نجح الأوروبيون نتيجة لارتطام الخطة الأمريكية بصخرة المقاومة في إحراج الأمريكيين، وجاءت قضية الرسوم البذيئة في الوقت الذي وضعت فيه أوروبا مسألة المعتقلات الأمريكية على رأس جدول أعمال الاتحاد الأوروبى السياسية، بعد أن نجح الأوروبيون في استثمار انتصار المقاومة العراقية على مستوى المنظمة الدولية، وحلف الناتو فعظموا رغما عن الرغبة الأمريكية نصيبهم ودورهم، كما تمت تحركات لا سابق لها من مسؤولين رسميين وشبه رسميين في دول الشرق المعروفة بالانصياع للأوامر الأمريكية.. فشيخ الجامع الأزهر الذي أفتى بحق الحكومة الفرنسية في تحريم الحجاب على المسلمات الفرنسيات في المدارس، طالب الحكومة الدانماركية بالاعتذار، بل وأدلى (وزير الخارجية المصري) أبو الغيط بدلوه أيضا.. وهذا على سبيل المثال لا الحصر، ففي غير دولة من دول المنطقة انطلقت التصريحات والقرارات غير مسبوقة في القضايا المماثلة، بل والتي تمس الإساءة للقرآن المطهر ذاته، ما يبعد عن الظن فكرة الغيرة على الدين كدافع، كما يلفت النظر موقف تلك النظم والحكومات من التحركات الشعبية التي ثارت في موجهة الجريمة، فقد اتسمت المواجهة الحكومية لها بقدر كبير من الرقة حتى بدأت التحركات الجماهيرية الربط بين هذه الجريمة والجرائم الأمريكية المستمرة في حق الإسلام والمسلمين فاختلفت الصورة.. أيضا لابد من ملاحظة التغير في الموقف الأمريكي بعد أن تحقق الهدف الأول وتساوت الكفتان الأوروبية والأمريكية أمام المسلمين، فقد بدا الأمريكيون على الفور العودة إلى ثوابتهم في الدفاع عن \" حق \" الرجل الأبيض في الاعتداء على كل مقدسات الآخرين بدعوى حرية التعبير المصانة، وكذلك فقد تحقق الهدف الثاني وهو إبعاد ملف المعتقلات الأمريكية من دائرة التركيز.. ووضع الأوروبيين في موقف الدفاع بعد أن كانوا في حالة تطوير الهجوم.
دروس وواجبات تطرحها الجريمة..
لعل أهم الدروس التي تطرحها خبرة التعامل مع هذه الجريمة في حق ديننا ورسولنا الكريم عليه وعلى آله الصلاة والسلام..
أولا: معرفة حقيقة المشروع الحداثي الغربي العنصري الصليبي الذي يبشر به بعض الليبراليين العرب، فكل ما هو مطروح في هذا المشروع من حريات وحقوق مرتبط باللون والجنس والديانة، ومبنى على استبعاد الآخر وعلى وجه الخصوص المسلمين، وإن كان يشمل في استبعاده كل الأجناس الأخرى أيضا، ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا أن أهم خلاصات هذه المعركة هي السقوط الكامل لنموذج الحداثة الغربية بكل أشكاله.
ثانيا: أن لدينا وفقا لآليات الصراع الرسمية في المجتمع الدولي حجة أخلاقية في مواجهة كل الجرائم التي يرتكبها الغرب في حق مقدساتنا، هي واقع المفارقة الناشئ من الوضع المميز لليهود المحميين قانونا من أي تمييز ديني أو غيره (والذي يجب أن يكون حال أي طرف ديني أو كائن بشري في الواقع)، حيث يشكل ذلك سابقة قانونية تفرض التفكير الجدي في كيفية الصراع لتعميم محتواها علي بقية المجموعات الدينية في المجال الأوروبي. فالمساواة الدينية المزعومة في الاتحاد الأوروبي الناشئ غير مكتملة وهي تحد حقيقي يؤكد أن هناك فرقا مهما، بين التحديث السياسي والتحديث الثقافي، حتى في المجال الذي يرى الكثير، بناء علي تصور مثالي، أنه بدهي.
ثالثا: أنه يجب العمل على استثمار انتصارات المجاهدين في ربوع الإسلام، لصالح الأمة بدلا من ترك ثمار هذه الانتصارات والتضحيات لتجنى بأيدي الأعداء، فلا يعقل أن تستثمر نتائج الوقفة الشامخة للمقاومة في العراق وأفغانستان من قوى الأعداء، ولا نبنى نحن عليها في اتجاه الانتقال من الدفاع إلى الهجوم.
رابعا: تطوير حالة الوعي التي أثارتها الجريمة الدنيئة، لمقاطعة كافة المعتدين على ديننا وأرضنا وأعراضنا وأرزاقنا، ودعم المنتجات الوطنية وتشجيع التجارة البينية للدول الإسلامية لتوفير البدائل للسلع المقاطعة، وانتهاج فلسفة استهلاك تقوم على أسس ديننا، لموجهة تحكم الأعداء فينا بغرائزنا الاستهلاكية، وعلى رأس هؤلاء الأعداء الأمريكان والصهاينة، فلا يجب أن ننخدع فنحول أنظارنا إلى عدو تابع، متلهين به عن العدو الرئيس، دون إهمال الأعداء المباشرين في كل مرحلة من الصراع، ودون الانصراف الكامل إليهم وترك الأعداء الرئيسيين دون مواجهة.
خامسا: أن ضيق رقعة الصراع بين الأعداء بعد صعود عدد من القوى الإقليمية والدولية يطرح إمكانية تصاعد الاختلافات بينهم، وكلما اشتد الجهاد في مواجهتهم، كلما اشتدت خلافاتهم استعارا، وهو ما يعطى مساحات للمناورة للمجاهدين قد تسمح بآفاق غير مسبوقة للحركة لم تتوفر منذ الحرب الثانية بين دول المنظومة الغربية، وتأسيس نظامهم الدولي للسيطرة على مقدرات البشر.
لقد أراد الأعداء أن تكون هذه المعركة استغلالا لقوانا في مصلحة أحدهم لمواجهة الآخر، وشاء الله أن تكون بداية لمرحلة جديدة من الصحوة تؤكد وحدة العالم الإسلامي، كما تؤكد على وعى المسلمين بوحدة أعدائهم، وبقى أن يتفق المسلمون على ترتيب الأعداء، من الرئيس ومن المباشر ومن الثانوي، ليصب جهادهم في الاتجاه الأصح، كما بقى أن يتفقوا على منهج المواجهة، ولا نظنه ببعيد.. فما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله فلن نضل أبدا بإذن الله.. والله متم نوره ولو كره الكافرون \" صدق الله العظيم \".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد