مواقف دعوية من السيرة النبوية ( 2 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إسلام أبي بكر واهتمامه بالدعوة:

أسلم أبو بكر - رضي الله عنه - بدعوة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوائل المرحلة السرية

قال ابن إسحاق بعدما ذكر إسلام خديجة وعلي وزيد - رضي الله عنهم -: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة.

قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما بلغني: \"ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عَكَم حين ذكرته له وماتردد فيه\".

وقوله \"كبوة\" أي امتناع، و\"عكم\" أي تلبث (سيرة ابن هشام 1/255).

وبعد أن أسلم أبو بكر دعا إلى الله في هذه المرحلة الحرجة، حتى أسلم على يده شباب كان لهم دور كبير في مستقبل الجهاد والدعوة.

وقد ذكر محمد بن إسحاق - رحمه الله - شيئًا من مآثره في الدعوة حيث قال: فلما أسلم أبو بكر - رضي الله عنه - أظهر إسلامه يعني لخاصة من يثق به ودعا إلى الله - تعالى -وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو بكر رجلاً مؤلفًا لقومه محببًا سهلاً وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلاً تاجرًا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله - تعالى -وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه.

ثم ذكر الخمسة الذين أسلموا على يديه في أول الإسلام، وهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم -.

قال: فجاء بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استجابوا له فأسلموا وصلَّوا (سيرة ابن هشام 1/254).

هذا النص يبين لنا شيئا من مآثر أبي بكر - رضي الله عنه - في الدعوة إلى الإسلام، فهؤلاء الخمسة المذكورون الذين أسلموا على يديه كلهم أصبحوا من المبشرين بالجنة، ومن أكابر أهل الحل والعقد في الإسلام وهم إضافة إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - كانوا أهل الشورى الذين جعل عمر - رضي الله عنه - الخلافة فيهم.

فكم هي فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -، وكم هي سوابقه على المسلمين! إنه لم يكتف بأنه غامر بنفسه فاتبع دينًا لا يمثله خارج بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد، وفي ذلك ما فيه من المغامرة، بل صار يدعو من يثق بهم سرّا إلى اتباع هذا الدين الجديد، فاستجاب له هؤلاء الفحول الذين صار لهم في مستقبل الإسلام شأن كبير.

ولاشك أن الذين أسلموا واتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وحيد ليس معه أحد أو معه النفر اليسير..لاشك أن لهم مكانة وفضلاً كبيرًا في الإسلام، فإن الإقدام على دين جديد يهدم الأديان السائدة في المجتمع أمر له خطورته، وهؤلاء الذين أقدموا على الإسلام آنذاك يدركون خطر ما توجهوا إليه، لذلك أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتمان دعوتهم، وظلوا يدعون إلى الله - تعالى -سرّا حتى أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعلان الدعوة بعد ثلاث سنوات من البعثة.

وإن استمرار هؤلاء الصحابة على دعوتهم السرية ومقدرتهم على كتمانها طيلة هذه المدة أمر يستحق الإشادة والتقدير، والدراسة والتأمل، خاصة مع ملاحظة عيشهم في مجتمع صغير بالقياس إلى حياة المدن في العصر الحاضر، فكم هي الإحراجات التي مروا بها مع أهاليهم وقومهم! وكيف استطاعوا التخلص منها!

إن كتمان الدعوة يحصر انتشارها بلا شك، وكان هذا واقعًا اضطراريّا تمليه هيمنة الباطل، ولكنه مع ذلك يصنع رجالاً كاملين في مواهبهم وقدراتهم، لأنهم يحسون من أول خطوة في الطريق أنهم يواجهون معركة بعيدة المدى، فيخرجهم هذا الشعور من حياة الدعة والسكون التي قد تعطل بعض المواهب والقدرات، وهكذا تمت تربية أولئك العظماء في تلك الفترة.

وفي قولـه عن أبي بكر: \"وكان رجال من قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته\" إشارة إلى عامل مهم من عوامل نجاح الداعية، وهو أن يكون متعدد المواهب، له مشاركة في عدد من الجوانب التي تربطه بالمجتمع، فيأتي إليه في كل جانب طائفة من الناس، فإذا توافر لديه مع ذلك الدافع القوي الذي يجعله يبذل كل طاقته في سبيل دعوته فإنه يعمل عمل عدد من الناس، وينجح في اجتذاب الكثير منهم.

هذا وقد بذل أبو بكر ماله في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية، كما جاء في خبر ذكره الحافظ ابن حجر عن يعقوب بن سفيان بإسناده عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا فأنفقها في سبيل الله... \" ثم ذكر المماليك السبعة الذين أعتقهم (الإصابة 2/334).

 

دعوة بني عبد المطلب (وموقف لعلي - رضي الله عنه )

أخرج الإمام أحمد بإسناده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [أو قال دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] بني عبد المطلب، فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفَرَق (الجذعة الشاة الصغيرة، والفرق بفتح الراء مكيال يتسع لستة عشر رطلاً، وقوله \"كلهم\" أي كل واحد منهم)!

قال فصنع لهم مُدًّا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يُمسَّ، ثم دعا بغَمر (يعني بشراب كثير)، فشربوا حتى رَوُوا، وبقي الشراب كأنه لم يمس، - أو لم يُشرب- فقال: يا بني عبد المطلب، إني بُعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيٌّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم، قال: فقال: اجلس قال: ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي (مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر 2/ رقم 1371، وقال أحمد شاكر - رحمه الله -: إسناده صحيح.

وذكره الإمام الهيثمي من رواية الإمام أحمد وقال: رجاله ثقات مجمع الزوائد 8/302).

وهكذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشيرته الأقربين فدعاهم إلى الإسلام وحماية دعوته فلم يستجب منهم غير علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على الرغم من مشاهدتهم تلك المعجزة الظاهرة من تكثير الطعام والشراب وبقائه بعد أكلهم وشربهم وكأنه لم يمس، مع أن فيهم كما في الرواية- من اشتهروا بكثرة الأكل والشرب.

لقد اجتمع في ذلك الموقف أكابر بني عبد المطلب ومع رهبة الموقف فإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبدى استعداده ثلاث مرات لبيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم صغر سنه وهذا دليل واضح على قوة إيمانه وشجاعته المبكرة التي أصبحت فيما بعد مضرب الأمثال.

 

مثل من تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - (إسلام عبد الله بن مسعود)

لم يقتصر منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكيم المشتمل على اللطف والتودد على الأكابر وزعماء القبائل، بل نجده يعامل بهذا المنهج الغلمان الضعفاء.

ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام أحمد بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: \"كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فقال: يا غلام هل من لبن؟ قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لم يَنزُ عليها الفحل؟ فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي وقال: يرحمك الله فإنك غلَيِّم معلَّم\" (وقد ذكر الحافظ الهيثمي هذا الخبر من رواية الإمام أحمد وأبي يعلى، وقال: ورجالهما رجال الصحيح مجمع الزوائد 6/17.

وهكذا رواه أبو داود الطيالسي - رحمه الله تعالى -بإسناده عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وذكر مثله.

وذكره الحافظ ابن كثير والحافظ الذهبي، وصحح الذهبي إسناده البداية والنهاية 3/32، سير أعلام النبلاء 1/465).

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحتقر هذا الغلام الذي لم يكن ينتمي لقبيلة قريش وليس له عشيرة بمكة، بل اهتم به وقدر ما يتمتع به من خلق الأمانة الذي يدل على أنه عنصر زكي، فأثنى عليه بالعلم والفهم وأقرأه القرآن حتى أصبح بعد ذلك من قراء الصحابة وفقهائهم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply