بسم الله الرحمن الرحيم
يا عباد الله.. إن أضرار عدم البيان شنيعة: منها:
خفوت دين الله.. وخفاء الحق.. واستشراء المنكرº لأنه لم يُبَيَّن فهو يستشري وينتشر.. وخذلان أهل الحق، لو بين لانتعش أهل الحق، وانتصر أهل الحق، وكان ذلك دعمًا لهم.. ومن أكبر المصائب لعدم التبيين: وقوع العامة في الضلال، ويَتَخذ الناس رؤوسا جهالًا، يفتون بغير علم، فيضلون ويضلون.
وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يقدر موقعه في الأمة، و أن الناس ينظرون إليه: ولذلك لما طلب منه القول بخلق القرآن أبي، ولما هدد بالقتل، وقال له تلميذه: يا أستاذ قال الله - تعالى -: {وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُم رَحِيمًا[29]}[سورة النساء]. قال: يا مروذي، اخرج فانظر، فخرج إلى الساحة قال: فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، قال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد: يا مروذي أُضِلٌّ هؤلاء كلهم.
والبويطي - رحمه الله - الشافعي لما امتحن في قضية خلق القرآن لم يجب: فقال له والي مصر المكلف من قبل الخليفة بامتحانه وتعذيبه حتى يقر، قال له بينه وبينه علاقة حسنة: قل فيما بيني وبينك، لماذا لا تريد أن تكتب وتقر بما أمر به الخليفة؟ قال: إنه يقتدي بي مائة ألف ولا يدرون المعنى، ناس من العامة تقلدني لا تستطيع أن تميز، فأمر به فحمل إلى بغداد، فقال البويطي - رحمه الله -: لئن دخلت عليه- يعني: الخليفة- لأصدقن، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
ونقل ابن كثير - رحمه الله - عن وهب: أُتِيَ رجلٌ من أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، فأعظم الناس مكانه، وهالهم أمره، وهذا رجل كان عالمًا يحبه الناس، والملك يريد أن يفتن الناس على أكل لحم الخنزير، وأشفق الناس على هذا العالم، فقال له صاحب شرطة الملك سرًا بينه وبينه: أيها العالم اذبح جديا مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلى حتى اصنعه لك على حده فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع أي الجدي بين يديك فتأكل منه حلالًا ويرى الملك والناس أنك إنما أكلت لحم الخنزير، فذبح ذلك العالم جديًا، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له، و أمر الطباخين إذا أمر الملك أن يقدم إلى هذا العالم لحم الخنزير أن يضعوا بين يديه لحم ذلك الجدي. واجتمع الناس لينظروا أمر هذا العالم هل يأكل أم لا؟ وقالوا: إن أكل أكلنا وان امتنع امتنعنا.
فجاء الملك، فدعا لهم بلحوم الخنازير، فوضعت بين أيديهم، ووضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكى، فألهمه الله، فقال: هب أنى أكلت لحم الجدي الذي أعلم حِلَّهُ أنا - يقول لنفسه-، فماذا أصنع بمن لا يعلم، والناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي، وهم يعلمون أني إنما أكلت لحم الخنزير، فيأكلون اقتداء بي، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة، لا أفعل والله، وإن قتلت وحرقت بالنار. وأبى أن يأكل، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه، ويومي إليه، ويأمره بأكله أي إنما هو لحم الجدي، فأبى أن يأكل، ثم أمره الملك أن يأكل، فأبى، فألحوا عليه فأبى، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله فلما ذهبوا به ليقتلوه، قال له صاحب الشرطة: ما منعك أن تأكل اللحم الذي ذكيته أنت ودفعته إلي أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما ائتمنتني عليه؟، قال له العالم: قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يتأسى الناس بي، وهم إنما ينتظرون أكلي منه ولا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير، قال: وكذلك كل من أُريد على أكله فيمن يأتي من الزمان يقول: قد أكله فلان فأكون فتنة لهم، فقتل - رحمه الله -. ونقل ابن كثير بعدها العبارة: \' اتقوا زلة العالِم فإنه إذا زل زل بزلته عالَم\'.
إن بيان الحق أمر عظيم وخصوصًا في هذا الزمان الذي كثر فيه الجهل، وقل فيه العلم، وكثر فيه أهل الباطل ونعيقهم: وقد قال عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة في زمن عافية الأمة وقوتها قال: \'إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره\'. فهو يستشعر عظم المسئولية: كيف سيغير الآن في واقع انحرافات ظنها الناس حقًا، فماذا نقول نحن عن عصرنا!
من أعذار عدم الإخبار بالحكم:
إذا سئل الإنسان، وهو لا يعلم، فيجب أن يقول: لا أعلم، ولا يتكلم بما لا يعلم، فكيف يقول لنفسه: إن سكت كتمت العلم ولا يوجد عنده علم أصلا.
وكذلك إن كان يظن ظنًا، والسائل يجره قل فيها.. أفتى فيها.. هيا عجل، فإنه لا ينزلق ولا يتكلم إلا بما يقطع أنه يعرفه وأنه حق.
أن تكون المسألة المسئول عنها لم تقع بعد، فإذا كانت لم تقع بعد بعيدة الوقوع، فانه يسع العالم أن يسكت.
أن يتبين للمسؤول أن السائل لا يطلب الحق، يريد فتوى ليستغلها، أو يأتي على نية إذا قال لنا الشيخ ما نحب أخذنا به، وإلا تركناه، وهذا فعل اليهود: {... إِن أُوتِيتُم هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَم تُؤتَوهُ فَاحذَرُوا... [41]}[سورة المائدة]. أي: اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فاستفتوه إن أجابكم بما تريدون خذوه، وان لم تؤتوه فاحذروا، فماذا قال الله لنبيه: { فَإِن جَاءُوكَ فَاحكُم بَينَهُم أَو أَعرِض عَنهُم... [42]}[سورة المائدة]. فأنت بالخيار، غير ملزم بالبيان هنا لقصد السائل الباطل.
ألا يكون الجواب مؤديًا إلى مفسدة أعظم، ومن خوف المفسدة أن يكون عقل السائل لا يحتمل الجواب.
أما التعذيب والإكراه فانه يُجَوِّزُ في حالات أن يكتم العلم إذا خشي التعذيب الذي لا يطيقه، أو القتل إلا إذا كان جوابه سيترتب عليه إضلال الأمة فإنه يجب عليه أن يتحمل القتل ويجود بنفسه لله - تعالى -ويتكلم بالحق لا غير.
وكذلك لو كان الشيء الذي يخشى القتل من أجله لا يترتب عليه فوات علم يحتاجه الناس.
وكذلك إذا كان غيره أعلم منه في البلد فيجوز أن يحيل عليه ولا يتكلم، ويقول: اذهبوا فاسألوا فلانًا أعلم مني، وكان الصحابة تأتيهم المسألة تدور فيها بينهم حتى ترجع إلى الأول كلهم يخشى الفتيا.
و أما الأسباب غير الصحيحة لكتم العلم، فمثل:
الخوف على المنصب والجاه: فهذا قيصر عرف الحق لكن لما لاحظ أنه إذا أعلنه فإن قومه سيخلعونه من الملك، رجع عنه عدو الله، فمات على النصرانية، فهذا سبب غير مبرر لكتم الحق أبدًا، فكان يجب عليه أن يبلغ الحق ولو خُلِعَ من الملك.
وكذلك الخلع من الوظيفة: قال ابن القيم: ناظرت بعض علماء النصارى فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليين: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ قال: إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه، قال ابن القيم يعني: أتباعه- فرشوا لنا البسط تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم ونساءهم ولم يعصوني فيما آمرهم به، و أنا لا أعرف صنعة، ولا احفظ قرآنًا، ولا نحوًا، ولا فقه، فلو أسلمتº لدرت في الأسواق أتكفف الناس، لا أنا بقيت على منصبي في النصرانية، ولا أنا صاحب علم فأترأس في الإسلام، فمن الذي يطيب نفسا بهذا!! فقلت له: هذا لا يكون وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك أنه يخزيك ويذلك ويحوجك، ولو فرضنا أن هذا أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار فيه أتم العوض عما فاتك أهم مما يفوتك، قال: دعنا الآن من هذا!!.
إذًا: هذه أشياء لا يسوغ كتم الحق من أجلها أبدًا. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم انصر المجاهدين، وأعلي كلمة الدين، واكبت اليهود والصليبيين والمشركين، اللهم زلزلهم، اللهم انصرنا عليهم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد